Skip to main content

الطَّلَاقُ المُعَلَّقُ

By الأحد 7 صفر 1441هـ 6-10-2019مبحوث ومسائل, فقه

مقدمة

موضوع اليوم فيه مزيج من الجرأة والغرابة، وهو ما سيصدم القاريء، لأنّ أكثر القراء لن ينظروا للموضوع والتعاطي معه النظرة الشرعية العلمية. لأنّهم أسرى للمألوف، وما تربوا عليه عند الأشياخ. ولن أطمح أن أكون أوفر حظا بالقبول ممن هو خير مني، أعني ابن تيمية رحمه الله. فقد خاض مع الإصلاح معارك، خُذل في بعضها، من الأكثرين، وما وقف معه إلا القليل. بل افتُري عليه واتهم، وسجن بتوصيات شرعية من قامات علمية..! ولم يلق القبول اللائق والكافي حتى بعد قرون تتالت.
ولقد أردت من هذه المقدمة أن يفهم كل أحد أنّي لست بدعا في ما أقول. ولا أود أن يُفهم من تترسي بابن تيمية أنّي أريد رفع نفسي إلى أولئك الشوامخ، إذ أقارن نفسي بهم، حاشاي أن أروم ذلك، وأدفع ذلك بأن أقول بصدق (أين الثرى من الثريا). والمقارنة بين المواقف المتشابهة من وجه ما، ليس إلا.

وأضرب مثلا لما لقيه ابن تيمية، مع إيضاحٍ وافٍ لموقفه المؤصل، ليكون في ذلك ذكرى وعبرة. ولا أعدُّ هذا استطراداً، فبينه وبين موضوعنا الرئيس سببٌ ونسبٌ. فابن تيمية مثلا، حين رأى بيوت بعض المسلمين تتهاوى بلحظة فوق رؤوس كل من فيها، بسبب رعونة رجل قال لحليلته ولسبب تافهٍ لكنّه يراه عظيما: طالق طالق طالق. فينتهي كل شيء، وتَحُلُّ الكارثة، ويتفرق الشمل، ويعيش الأولاد مرارة وضياع اليُتْم، والوالدان أحياء. والحل في طريق مسدود شرعيا، فالمذاهب الأربعة تقضي بذلك. ويبقى الحل المحفوف بلعنة الله (لعن الله المُحَلِّلَ والمُحَلَّل له) هو المخرج. وسيلجأ إليه الزوجان اليائسان النادمان، بعد أن بدت لهما الكارثة التي سحقتهم بأبشع صورها، وأفدح نتائجها على تلك الأسرة الآمنة، ويعينهم على ذلك قومهم.

وأريد أن أستبق السياق، فأتعجل الإيضاح، بأن لا يفهم أنّ الفقه الإسلامي هو الذي يسد طريق الحل أمام حل هذه الكارثة، وإنّما هو الفقه الأعوج الذي يُحَكِّم العقل وآراءَ الرجال، ويترك فقه الوحيين. فمن هذا الواقع الشرعي والاجتماعي الأليم، كان منطلق ابن تيمية. كيف يكون ذلك والله تبارك وتعالى يقول: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)؟؟ كما أنّ الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحدة! هذا ما كان عليه الشأن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبى بكر رضي الله عنه، وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه. ثم بدا للخليفة الثاني، ولسبب يتعلق بخصوصية تعامل أهل زمانه مع الطلاق واللعب به، أن يوقع الطلاق الثلاث في مجلس واحد طلاقاً بائناً لا رجعة فيه، عقوبة لهم. ففي صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ).

ليس موضوعي الطلاق الثلاث، لكنّ استطرادي به، من باب جعله لي مدخلا مُسَوِّغًا للبحث في (الطلاق المعلق). فالموضوعان يتفقان في أنّهما يخالفان ما كان عليه النبي وأصحابه، ومع ذلك فقد امتلأت كتب الفقه بالبحث فيهما وإجازتهما وتفريع الأحكام لهما، وإلى التفصيل في الموضوع.

تعريف وبحث في المشروعية
تعريف الطلاق المعلق:
وأمّا الطلاق المعلَّق، فهو ما جعل الزوج فيه حُصولَ الطلاقِ معلّقاً على شرطٍ، مِثل أن يقول الزوج لزوجته: إِنْ ذهبتِ إِلى مكان كذا، فأنتِ طالق. ويُشترط في صحة التعليق، ووقوع الطلاق به ثلاثة شروط، اشترطها الفقهاء:
أ. أن يكون على أمر معدوم، ويمكن أن يوجد بعد، كطلوع الشمس. فإِنْ كان على أمر موجود فعلاً، حين صدور الصيغة، مثل أن يقول: إِنْ طلع النهار، فأنت طالق. والواقع أنّ النهار قد طلع فعلاً، كان ذلك تنجيزاً، وإنْ جاء في صورة التعليق. فإِنْ كان تعليقاً على أمْرٍ مستحيل، كان لغواً مثل: إِنْ دخَل الجمل في سمّ الخياط، فأنتِ طالق.
ب. أن تكون المرأة، حين صدور العقد، محلاً للطلاق، بأن تكون في عصمة الرجل.
ج. أن تكون كذلك، حين حصول المعلّق عليه.
والتعليق قسمان:
القسم الأول: يُقصد به ما يقصد من القَسَم، للحَمل على الفعل أو الترك، أو تأكيد الخبر، ويسمّى التعليق القَسَمِيَّ، مِثل أن يقول لزوجته: إِنْ خرجت، فأنت طالق. مريداً بذلك منْعها من الخروج إِذا خَرَجَت، لا إِيقاع الطلاق.
القسم الثاني: ويكون القصد منه إِيقاع الطلاق عند حصول الشرط، ويُسمّى التعليق الشرطي، مِثل أن يقول لزوجته: إِن أبرأتني من مؤخر صداقك، فأنت طالق.

وتتفاوت مواقف العلماء من الطلاق المعلق:
الأول: جمهور العلماء وعلى رأسهم الأربعة، يوقعون هذا التعليق، بنوعيه، متى حصل الشرط المعلق عليه.
الثاني: وهم ولا شك أهل الصواب، مع أنّهم الأقل. ويتلخص موقفهم في أنّ الطّلاق المعلّق إذا وُجد المعلق عليه لا يقع أصلاً، سواء أكان على وجه اليمين؛ وهو ما قُصِد به الحثُّ على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم لم يكن على وجه اليمين؛ وهو ما قُصِد به وقوعُ الطلاقِ عند حصول المعلَّقِ عليه. ويمثل هؤلاء ابن حزم الظاهريّ، وله في ذلك حجتان:
1. أنّه لا يمين إلاّ بالله تعالى، ولم يوجب الله كفارة في غير يمين به؛ فلا كفارة في يمين بغيره عز وجلّ.
2. ما رواه مسلم عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ).
الثالث: وهو موقف ابن تيمية، وابن القيّم، فقالا: إِنّ الطلاق المعلق الذي فيه معنى اليمين، غير واقع، وتجب فيه كفّارة اليمين إِذا حصل المحلوف عليه؛ وهي إِطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإِنْ لم يجد، فصيام ثلاثة أيام.
وقالا في الطلاق الشرطي: إِنّه واقع عند حصول المعلَّق عليه.

وبعد بحث طويل، وتقصٍ دقيق، ودراسة متأنية، ويعلم الله أنّي بذلتُ وسعيتُ ولم آلُ، كانت مني هذه الوقفة مع هذه المعضلة بين الأزواج في أكثر البيوت، والتي تشكل بريدا للطلاق، بل لهدم البيوت، في أكثر الحالات. والفقهاء والعلماء والمفتون لا يزالون يتعاطون الفتاوى المسطورة منذ قرون، دون محاولة وقفات متأنية فاحصة أمام مشكلة اجتماعية شرعية، تتفاقم بازدياد كبير في كل المجتمعات الإسلامية! وأبسط ما كان ينبغي التساؤل عنه، هل المعالجات التي لا تزال كتب الفقه تُعيد فيها وتُبدِئُ نبوية..؟ وسيتبينون أنّ المسألة والمشكلة برمتها، دخيلة على التشريع الإسلامي، وسيأتي التفصيل، إن شاء الله!
ويتبين لكل ذي نظر منصف، أنّ أحكام (الطلاق المعلق) التي ضمتها كتب الفقه وتوسعت فيها أكثر مما ينبغي، مُحدثة لم يكن شيء منها، لا في الكتاب ولا في السنة، ولم تذكر واقعة واحدة من ذلك القبيل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم تشريع في ذلك. وأذكر أنّني فتشت بدقة في كتاب (زاد المعاد) لابن القيم، وهو كما هو معلوم أجمع ما كتب في هدي خير العباد، ومررت على كل العناوين في باب هديه صلى الله عليه وسلم في الطلاق، كهديه في طلاق الحائض، وطلاق الهازل وطلاق الإغلاق الذي يغطي طلاق الغضبان والسكران والمكره، وغير ذلك من العناوين، ولم أحظ بكلمة واحدة منسوبة إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن شيء اسمه الطلاق المعلق! حتى إنّني لم أجد فصلا بهذا العنوان، ما يؤكد أنّ شيئا اسمه (الطلاق المعلق) لم يعالج في السنة النبوية. وكذلك، فقد فتشت كتاب (نيل الأوطار) للشوكاني، ولم أجد فيه حرفا واحدا عن الطلاق المعلق. ولا بد من إيضاح هذه النكتة، فمن المعلوم أنّ كتاب النيل للشوكاني له ريادة دراسة الفقه من الحديث فيجمع أحاديث الباب، ثم يعطي درجة الأحاديث، ثم يبدأ بدراستها وشرحها ليخلص في النتيجة إلى الحكم الشرعي. ولما لم يكن في السُّنة أدنى إشارة إلى (الطلاق المعلق)، خلا النيلُ من دراسةٍ لذلك النوع من الطلاق، ما يؤكد أنّ الطلاق المعلق لا أصل له في الدين.
وكم أنا حفيٌ بأسطر أنقلها عن العلامة المصري المعاصر الشيخ أحمد محمد شاكر، وهو ولا شك غني عن أي تعريف، لما فيها من الحق الذي سُكت عنه قرونا! ولأتترس وراءها وأقول إنّني لست بدعا في ما أذهب إليه، في هذه المسألة! وهي منقولة من كتابه الشهير القيم (نظام الطلاق في الإسلام)، وهذه الأسطر تلخص منذ البداية وتوجز ما أريد أن أحرره وأخلص إليه حول (الطلاق المعلق). يقول الشيخ رحمه الله: (والطلاق المعلق كله غير صحيحٍ ولا واقع؛ لأنّه ليس من الطلاق المأذون فيه، والرجُل لا يملك من الطلاق إلا ما أذن به الله سبحانه وتعالى، وأيضًا فإنّ تعليقه على شيء سيكون في المستقبل يجعله لفظًا باطلاً؛ لأنَّ الإنشاء إنّما يكون في الحال فقط، ولا يمكن عقلاً أن يكون في الاستقبال).
ويقول في موضع آخر: (والأدلة التي احتججنا بها فيما مضى لبطلان الطلاق البدعي
كافيةٌ في الحكم ببطلان الطلاق المعلق كله
).
ولقد وجدت في بعض الكتب كلاما لبعض العلماء يلتقي مع ما جاء قبلا، عند الشيخ أحمد شاكر، مفاده: (لا يكون الطلاق إلا بيقين، والتعليق ليس يقينا).
ولا أستطيع أن أخفي إعجابي، أيضا، بمقطع للشيخ العثيمين رحمه الله، في كتابه الشرح الممتع، يقول فيه: (وتعليق الطلاق بالشروط هل هو معتبر أو لاغٍ؟ يقول بعض العلماء: إنّه لاغٍ، وأنّ الطلاق المعلق بالشرط واقع في الحال، واستدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ولم يأت الطلاق معلقاً، لا في القرآن، ولا في السنة، وعلى هذا فإذا علقه وقع في الحال، وألغي الشرط.
ولو قال قائل بعكس ذلك؛ أي: أنّه لا يقع أبداً بناء على حديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) لكان له وجه، والفرق بين هذا القول والقول الأول أنّ القول الأول يلغي الشرط فقط، وهذا يلغي الجملة كلها.
لكن أكثر العلماء يرون أنّ تعليق الطلاق بالشروط صحيح؛ لعموم الحديث: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً)
).انتهى النقل من الشرح الممتع
وكم تمنيت أنّ شيخنا العثيمين لم يتبنَّ العبارة الأخيرة من المنقول السابق! فما فائدة نقل ما يراه أكثر العلماء، والعمل به، في أمر ليس له وجود في الكتاب والسنة، كما بَيَّنَ بنفسه قبل أسطر. والذي يكفيني من نقل المقطع، أنّ الشيخ رحمه الله يرى أنّ تعليق الطلاق محدث بعد رسول الله، وإن كان أجاز العمل به، والفتوى فيه.

ومما يؤكد ما نحن في صدده، كلام رائع وجريء لشيخنا العثيمين رحمه الله، جاء في بعض فتاويه المُذاعَة أو المطبوعة، وقد سمعتها أو قرأتها بنفسي، مرات لكنّ الذاكرة خانتني في توثيقها، ولأنّ البحث كان في عجالة، فلم يسعفني الوقت لتأكيد التوثيق. وأنا مُتأكدٌ تماماً من فحواها ونسبتها للشيخ، ولأهميتها أنقلها على عهدتي ومسؤوليتي، والصياغة بعبارتي مع بعض تعليق مني. يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: (إنّ الطلاق المعلق على تصرفات المرأة وأفعالها الأولى أن لا يُوقَع، لأنّ الشرع لم يُسند لها الطلاق أصلاً لعدم أهليتها، وحين يعلق طلاق المرأة على فعلها شيئاً أو عدم فعله، فكأنّما وُضِع أمرُ طلاقها بيدها، ولا يخفى ما يجر هذا الأمر من شر على الأسرة لأنّها قد تتخذ قراراً غيرَ محسوبِ العواقب، أو تتصرف بوحي عاطفتها ليس إلا، أو تتخذه قرارا كيْدِيّاً ردا على تصرف زوجها، وكل ذلك مصيبة لا ينفع الندم فيها، ودرءا لهذه المفسدة يرى الشيخ العثيمين رحمه الله، عدم إيقاع الطلاق المعلق على تصرف المرأة).
انتهى ما أنسبه إلى الشيخ.

ولا أحب أن أذكر عدم أهلية المرأة للطلاق، إلا وأشفعُ ذلك بأنّ غلبة عاطفتها على عقلها هي السبب، وهو تميز لها، وليس نقصاً في خلقها، ومعاذ الله أن يتطرق النقص لخلقه تبارك وتعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ). وذلك من تأهيل خالقها لها، للمسؤولية العظيمة والخطيرة، التي خلقت لها؛ الزوجية والأمومة. ولولا تلك العاطفية لما كُنَّ (الجنس اللطيف) (المُذهِبات لِلُبِّ الرجل الحازم)
كما وصفهن النبي عليه الصلاة والسلام. ولذلك لا يرى الشيخ رحمه الله إيقاع الطلاق المعلق على فعل المرأة أو تصرفها. وما كان للشيخ أن يقول هذا لولا استناده إلى أنّ الطلاق المعلق ليس شرعاً في أصله، ولم يأت له وعليه دليل، ولقد نقلنا عنه ذلك، موثقاً قبل سطور.

وفي السياق نفسه، أجدني مضطرا، ومع وجود جَبَلَيْ العلم، ابن تيمية وابن القيم، مع أصحاب الموقف الثالث، من القائلين (بتعليق الطلاق)، أن أقول: إنَّ في موقفهما من (الطلاق المعلق) ثغرةً، لا يمكن إمرارها دون تعليق، ولو من طالب علم مثلي، إزاء تينك القامتين. لا خلاف أنّه لا ينعقد يمين في الإسلام إلا أن يكون بالله، والطلاق المعلق ليس من هذا القبيل. كما أنّ الحالف بغير الله آثم. فكيف نجيز حالة تعليق الطلاق، ونعتبر الحنثَ يُكفَّر بكفارة يمين؟!

ومعلوم تماما، أنّ ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، لا يعتبران الطلاق البدعي شيئا. والطلاق المعلق بدعيٌ بامتياز، فلم لا يكون الأمر كذلك في الطلاق المعلق، وكيف فاتتهما؟
وأنقل ثانية كلام الشيخ أحمد شاكر:(والأدلة التي احتججنا بها فيما مضى لبطلان الطلاق البدعي كافيةٌ في الحكم ببطلان الطلاق المعلق كله). وصدق الإمام مالك رحمه الله: (كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر).

وبعد هذه النقول لأئمة أعلام، أراني، مأذونا لي بذكر النتيجة التي توصلت إليها بشأن (الطلاق المعلق): فهو ليس من هدي نبينا، وهو مقحم في تشريعات وفقه الإسلام، وهو ولا شك مصيبة كبيرة في حياتنا الاجتماعية، ومُسبِّبُ كوارثَ تُصيب البيوت، إنه بريد الطلاق. ويأتي التفصيل بإذن الله.

الواقع الاجتماعي والطلاق المعلق
ما أشُكُّ أبدا أنَّ كلَّ من أجاز وجود (الطلاق المعلق) في التشريعات الإسلامية، والعمل بأحكامه، يحسبون أنّهم وجدوا فيه صيانة لبيوت المسلمين من الانهيار، حين تكون ضحية التشدد أو التسرع أو الاستهتار أو الجهل من الزوج أو الزوجين كليهما. فرأوا توظيف وتكييف بعض الأحكام الشرعية لتشكل مخرجا من إيقاع الطلاق، مثل اعتبار التعليق يمينا كفارته الإطعام أو الصيام وتنتهي المشكلة (بأقل خسارة). والقاعدة الشرعية تقول: (كلُّ مجتهد مأجورٌ، وليس كلُّ مجتهد مصيباً). وأؤكد، قبل التعليق على جدوى هذه الدعوى اجتماعيا، أنّ في ذلك افتئاتا على حق التشريع في الإسلام، وأنّه لو كان لهذه الدعوى من جدوى، ولو كان فيها من مصلحة لَمَا غابت من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم. ولعل هذا كافٍ ليكون ردا وتعليقا! لكنّني، ومن باب التنزل مع الخصم، كما يقال، أقول: ليست بذات جدوى عملياً، وما يقال تصور ذهني نظري، ليس إلا، وإلى التفصيل.
إنّ تشريعات (الطلاق المعلق) لمْ ولنْ تُقدمَ حلاً إيجابياً، إلا عدم إيقاع الطلاق، وإنقاذ الأسرة، وهو إيجابيٌ، لولا ما أفرزه هذا الحل من تداعيات سلبية وراءه. فحين كفينا ذاك الزوج انهيار أسرته، لم يُحسَّ أبدا بأنّه نجا من أمر خطير وعظيم، وعليه أنْ لا يعود لما فعل ثانية! إنّ هذا الحل أغراه أن يجعل تعليق الطلاق إجْرِيَّاهُ (عادته). حقاً لقد أخرجناه من مأزق زوجي، وهو عدم إيقاع الطلاق، رغم تحقق الشرط الذي علق به. وهذا ما يريده ذلك الرجل الذي دخل في مغامرة تعليق الطلاق، ليغطي ضعفه أمام زوجته، ولنقل: ليغطي فشله في إيجاد نظام من التفاهم الزوجي، لتسوية الأمور التي يقع فيها الاختلاف في وجهات النظر. فلا يجد أمامه من سبيل (لإثبات رجولته) و(ممارسة قوامته) إلا (الطلاق المعلق)، ويُمضيه وهو ليس واثقا من التزام زوجته بالشرط، وعدم دخول تلك المغامرة الصعبة! وفي لحظة، جرها (برعونته)، يجد حياته الزوجية، وبيته، ومستقبل أطفاله على شفا جرف هارٍ، ويبدأ فورا السعي (بجنون) لاستيعاب الكارثة، وإيجاد حل الإنقاذ، وبذلِ كل شيء من أجل ذلك. حتى(العنترية) التي أركبته مطية الحماقة و(الطلاق المعلق)، تتحول إل تذلل واستعطاف لمن يظن الحل عندهم. وامرأته حيرى، تتابعة، وهي مشدوهة لا تعلم ما اللهُ فاعلٌ بها، وبأطفالها وزوجها، وبيتها. ولسان حالها يقول لزوجها (يداكَ أوْكَتا و فوكَ نَفَخَ)، ويمضي يقدم الوعود والعهود أن لا يعود. ولكنّه سيعود ثانية وثالثة وعاشرة، ويصبح مفتي نفسه، بعبارة (يا دار ما دخلك شر، وتبويس اللحى…!) لأنّه في التجارب الأولى، كان يتنقل بين المفتين يتلمس دفع الكارثة، فوجدهم طرائقَ قِدداً، وفتاويَ عدداً، فأدرك أنّ (الطاسة ضايعة)، وأنّه قادر على تمثيل دورِ واحدٍ من أولئك، كلما احتاج لهذا، من بعد حماقةٍ تصيبه!. ولو كان أدقَّ انتباها، لاطمأنَّ أنَّ طلاقه المعلق لن يقع، طالما أنّ أي زوج يأتي مستفتيا في طلاق معلق، يلقنه الشيخ المستفتى حُجَّتَه، حين يسأله هل كنت تنوي الطلاق فعلاً، أم كنت تنوي تغليظ المنع على الزوجة، فيقول لاشك أنّها الثانية، طال عمرك يا شيخي. ويتلقى الجواب؛ الحمد لله، أنْ لم يقع الطلاق، إذهب إلى أسرتك، وادفع كفارة يمينٍ ولا تعد. فيرجع وهو يكرر سؤال الشيخ له، كأنّه يحفظ الدرس للجولات القادمة.

بقي أن أسأل أنصار (الطلاق المعلق)، هل انتهت المشكلة؟
وفي يقيني، أنّها لم تنته! لقد أخرجتم الرجل من مأزق وقوع الطلاق، نعم. ولكن كيف تخرجون أنتم من اعتبارِ الطلاقِ يميناً، وتكفيرِ يمينٍ بغير الله؟ ما أظنكم خارجين منها! ومن أفتيتموه كان أسعد حظا منكم. أخرجتموه ووقعتم بها. وكان الأسعد والأتقى لله،
أن يسعنا ما وسع نبينا، وألا نُحدث بعده شيئا.
كما أنّ الأولى أنْ نربي المسلمين على ترك هذا العمل غير الشرعي، (الطلاق المعلقفيصونوا بيوتهم من الانهيار، ويفكروا، بمسؤولية وجدية، في جعل بيت الزوجية قائماً على السكن والمودة والرحمة، وليس على التحدي والتربص. وكثيرا ما يفضي منطق التيسير على الخلق، من قبل الخلقِ إلى أن تكون نتيجته، تَجرئَةَ الناس على المخالفة واستمرائها، أما التيسير والتخفيف من العليم الحكيم، خالق الخلق، جل وعلا، فهو النافع.

تساؤلات وإجابات
وأستعجل فأقول: قبل أن يسجل علي أحد من المتربصين الملاحظة قائلاً: لكنّنا نجد للطلاق المعلق ذكراً في آثار بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. أوليس ذلك دليلاً على مشروعيته؟ وأجدني أمام سؤالين مُحِقَّيْن، ولعلهما، الآن، في أذهان بعض من يقرأ كلماتي. الأول؛ كيف يتكلم الصحابة في شأن لم يذكره نبيهم عليه الصلاة والسلام؟ والثاني، من أين تسلل إذن، موضوع الطلاق المعلق، إلى الفقه الإسلامي؟ وقد كُتب عن (الطلاق المعلق)، في كتب الفقه المطولات؟

سؤالان، كما أسلفت، واردان مُحِقّان. والجواب عنهما واحدٌ إن شاء الله، ويستدعي طرح السؤال التالي، هل كان الطلاق، بشكل عام، من العادات الاجتماعية لأهل الجاهلية؟ والبحث يعطينا الجواب، نعم، قد كان! بل إنّ المصادر التاريخية نقلت مصطلحات كانت متداولة بين عرب الجاهلية، جاءت في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، مثل، الطلاق الثلاث، البينونة، الخلع، الظهار، الإيلاء، العضل، العدة وغيرها. وقد ذكر القرآن هذه الألفاظ وكذلك السنة، لإعطائها مدلولات، وأحكاما إسلامية، تلغي ما كانت عليه عند الجاهليين، وتصبح من شريعة الإسلام. وهذا شيء معروف لدى الدارسين، فالحج، كان من عبادة الجاهليين أخذوها عن إبراهيم عليه السلام، والجاهليون كانوا يقدسون الكعبة ويطوفون حولها، لكنّهم كانوا يطوفون أحيانا عراةً رجالاً و نساءً، يقولون لا نطوف في البيت بثياب عصينا الله بها! حتى لقد جاء في أخبارهم المتواترة أنّ المرأة الجاهلية، كانت تطوف بالبيت عاريةً واضعةً كلتا يديها على فرجها، وهي تنشد:

اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه وما بدا منه فلا أحلُّه

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في المتفق عليه، عن أبي هريرة قال:(بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: (أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ العامِ مشرِكٌ وَلَا يطوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَان)).
ولما جاء الإسلام كان الحج من أركان الإسلام الخمسة. وجاءت تشريعاته في الكتاب والسنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: (لتأخذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). وما كان عليه الجاهليون في حجهم وطلاقهم هو نموذج كل تدين محرف بتدخل العقل البشري والأهواء، يتحرجون من دنس ثيابهم، ولا يلقون بالا إلى خبث نفوسهم، التي ملؤها الشرك!. وبكل أسف، فإنّ مثل هذه الممارسات الخاطئة، موجودة اليوم بين المسلمين وبكثرة، فترى من يتشددون في بعض الشعائر، وبشيء من المغالاة، رغم أنّهم بعيدون كل البعد عن الاتباع في أدائها، وفي غيرها من قضايا الدين! واختلال التوازن في التدين، الذي نلحظه عند بعض المسلمين اليوم، ليس له إلا سببٌ واحدٌ، هو غياب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، الذي يضبط التدين بضابط الاتباع، ويبعد الغلو والابتداع.
وطبيعي، أنْ نتفهم من تلك الأمثال والمقاربات، مسألة تسلل بعض المشكلات والمخالفات، في أمر الطلاق، التي كانت في المجتمع الجاهلي، إلى المجتمع الإسلامي، بسبب النزوح بين المجتمعين الذي أحدثه دخول الناس في دين الله أفواجا. وصار المسلمون الجدد بين عادات قديمة جاهلية، خرجوا منها إلى تشريعات دينية جديدة التزموا بها، ونتج عن ذلك (خلخلةٌ) مؤقتة، ريثما تتوازن الأمور. وكان لا بد من التساؤلات والتجاوزات والتداخلات. أما ما جاء في الكتاب والسنة فهو التشريعات الإسلامية لتلك العادة الاجتماعية الجاهلية. وما لم يأت في الكتاب والسنة فليس من شرع الإسلام في شيء. والأصل أن يتلاشى وجوده بعد استيعاب المسلمين أحكام دينهم، وانسلاخهم من عوائد الجاهلية بكل ما فيها. لكنّنا لا زلنا نرى وجود هذه الرواسب فاشية في المجتمعات المسلمة إلى يومنا هذا. وما زالت كتب الفقه، حتى الحديثة تُعنى بأحكام هذه (العوالق)، وأسميها بالعوالق، لأنّها مسائل تعلقت بالشرع وهي ليست منه. وكلُّ ذلك، أعني، تعاطيَ كتب الفقه مع تلك العوالق هو الذي سبب بقاءها حية في واقع الناس، تتوارثها الأجيال. ولو تُجوهلت كما تجاهلها النبي عليه الصلاة والسلام، لاندثرت، لكونها غريبة عن الدين الحق. وكان الأصل، والأولى عدم ذكرها إلا للتحذير منها. ومن هذه الرواسب ما نحن بصدده، (الطلاق المعلق). وأقول نتيجةً: صحيحٌ أنَّ بعض آثار الصحابة خاضت في (الطلاق المعلق)، لكن ذلك كان جوابا عن تساؤلات من الناس من حولهم، وهو اجتهادٌ منهم، وكان ذلك في أضيق نطاق. ولا ننسى أنّ المرحلة كانت فترة انتقالية بين جاهلية وإسلام. وما جاءنا من ذلك، لا يعدو كونه اجتهاداً من الصحابة رضي الله عنهم، وليس مرفوعا للنبي عليه السلام. ومما يدعو إلى الأسف، أنّ اجتهادات الصحابة تلك، صارت مادة الفتيا عند العلماء، لغياب حكم الكتاب والسنة فيها. والمذهبية، التي تعتمد العقل، وتتوسع في القياس، كرست ذلك الخلل.

ولا أريد أن يتحول الموضوع إلى نقد كتب الفقه والفقهاء، فننسى موضوع الطلاق المعلق. لكنّني سأذكر استشهادا واحدا للفكرة السابقة التي عُرضت، أعني؛ تسلل بعض موروثات الجاهلية، إلى كتب الفقه، كما تسللت (الإسرائيليات) إلى كتب التفسير، وقد جاء له ذكرٌ في المقدمة! وسيضيقُ بعض الناس ذرعا، ومن أهل الفقه خاصة، بما سأقول، بل سيغضبهم…! ولكن لا خيار عندي، إذا كان ما سأقول يرضي الحق.! جاء في الكتب المتخصصة بالبحث في المجتمع الجاهلي: (وكان العربي يطلق امرأته تطليقة فهو أحق بها، فإن طلقها اثنتين فهو احق بها، فإن طلقها ثلاثاً فلا سبيل إليها. وأحياناً كانوا يوقعون الثلاث دفعة واحدة. يدل على ذلك قول الشاعر:

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمنُ وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأمُ

فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةٌ ثلاثٌ ومن يخرق أعـقُّ وأظلمُ

فبيني بها إن كنت غير رفيقةٍ وما لامرئٍ بعـد الثلاث مُقدّمُ).

وقد نقلتْ بعض الكتب مثل ذلك الكلام منسوباً إلى ابن عباس رضي الله عنهما، ومعزواً إلى السنن الكبرى للبيهقي، المجلد السابع. ولم أتحقق من ذلك لعدم الحاجة إليه، مادام المنقول ليس حديثا وليس مسألة شرعية، والكلام مطروح في أكثر من مصدر.
ما أريد قوله بل تأكيده، إنّ الطلاق الثلاث في مجلس واحد، والذي تَبينُ به الزوجة، ولا رجعة لها، هو من أمر الجاهلية، وليس من الإسلام في شيء، والدليل حديث ابن عباس رضي الله عنه، وقد ذكر في المقدمة، وأكرره هنا لمناسبة السياق. ففي صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ). أليست كتب الفقه تجيز اليوم جمعَ الطلقات الثلاث في مجلس واحد ويوقعونه ثلاثا، فما دليلهم؟ سيقولون: فعل عمر رضي الله عنه! وهل ينسخ اجتهاد عمر رضي الله عنه ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام؟ أوليس هذا مخالفة صريحة لقول ربنا، تبارك وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)؟ أولم يدفع ابن تيمية حريته ثمنا لمحاولته الإصلاح في مسألة الثلاث، لإعادتها لتوافق القرآن، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبُه رضي الله عنه؟ ماذا نفهم من قول عمر رضي الله عنه (إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ)؟ وما هو الأمر الذي استعجلوا فيه، وكانت لهم فيه أناة؟ أليس ما شرعه لهم الله، وعلمهم نبيهم إياه، أن لا يجمعوا الثلاث، ولو فعلوا، تقع طلقة واحدة؟ وإذا كان عمر، وهو الخليفة آنئذ، قد اجتهد بإمضاء ما استعْجَل فيه أهل زمانه، عليهم، عقوبةً وتعزيراً، فهل يلغي ذلك الفعل والاجتهاد منه رضي الله عنه أصل الحكم في المسألة، وهو وحي؟ يقول ابن القيم في “إعلام الموقعين”: (إنّ إجازة عمر الثلاث لما تتابع الناس في الطلاق تأديبٌ لهم على مخالفة ما شرعه الله في الطلاق، من كونه يوقع المَرَّةَ بعد المرة ليرجعوا إلى السنّة، وقد وجد ذلك بالنسبة لذلك الوقت).
ثم يقول ابن القيم: (وإنّ المصلحة اليوم تقتضي بالرجوع إلى الكتاب والسنة وما نصت به، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفة الأوَّل، فيَبقَى المطلق في فسحةٍ من أمرِه، وهو بالخيار بين الإمساك والتسريح في الطلقة الأولى، ثم الطلقة الثانية، فإذا بَتَّ الطلاق بالثلاثة فقد نُزِع الأمر من يده، بعد أن جرب الزوجان اشتراكهما في الحياة ثلاث مراتٍ، ففشلت تجربتهما).
وعمر رضي الله عنه يعلم، وقد صرح بذلك، كما صرح بأنّه سيجعل التغيير عقوبةً للناس لاستعجالهم ما أمرهم الله بالأناة فيه، وذلك لردعهم عن المخالفة، وفي ذلك مصلحةٌ لهم، وفق اجتهاد عمر رضي الله عنه. وهو الخليفة وله أن يجتهد. لكن كل اجتهادٍ يذهب مع صاحبه، ليعود الحكم لما كان عليه قبل اجتهاده، وبخاصة زمن رسول الله، وخلافة أبي بكر رضي الله عنه.
وبقيتُ زماناً أبحث عن تعليلٍ وسببٍ مقنعٍ، لماذا اختار أهل المذاهب الأربعة عقوبةَ واجتهادَ عمرَ رضي الله عنه، للمسلمين من بعده، بدل العودة إلى الهدي النبوي؟! ولم أحظَ إلا بتأويلاتٍ باردةٍ، وليٍ لأعناق النصوص، للوصول إلى تفسيرات تبريرية ليبقى العمل موافقاً للمذاهب، وإن خالف الهدي النبوي! ولا زالت المسألة ملحةً تنتظر الإصلاح، الذي راده ابن تيمية، وما زال محاصراً لا يَعمل به إلا القليل. وما يَعجب له الإنسان، أن يَعلم أنّ كثيرا من المحاكم الشرعية في معظم البلدان، توقع الثلاث واحدة، وقد يصرح القاضي بأنّه لا يوافق منهج ابن تيمية عامة، ولكنّه رأى في ذلك مصلحة إنسانية!!! ماذا يقال بعد هذا، إلا سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولعلي قد أجبت على سؤالين بدأنا بهما هذه الفقرة، وكانا باختصار، الأول، (ألم يتكلم الصحابة في (الطلاق المعلق)، والثاني، (كيف تسللت تلك المطولات من الأبحاث إلى أذهان الفقهاء ثم إلى كتبهم..؟).
واستكمالا للصورة التي شكلتها الفقرة السابقة، أضيف أنّ مما تسلل، أيضا إضافة لما ذكرنا، إلى واقعنا الاجتماعي، ومنه إلى بحثنا الفقهي، أن يصبح الطلاق يمينا متداولا كثيرا، وهو بلفظ: (عليّ الطلاق)، وقد تضاف إليه كلمة (ثلاثاً، وبالعامية: بالتلاتة). وقد يقول بعضهم(عليَّ الحرام) للغرض نفسه، وكل ذلك باطل. ومن عجبٍ أنّ الحالف في مجتمعاتنا إذا حلف بالله، وشعر أنّ مستحلفيه لم يصدقوه حلف بالطلاق. ولا زال يساورني العجب، كيف يعطى الحلف بالطلاق صفة شرعية، ويلحق باليمين، والحنث به يستوجب كفارة اليمين، قياساً على الحلف بالله، وإلزام الحانث، نفس كفارة اليمين المنصوص عنها في كتاب الله؟!، وكيف وفق الفقهاء بينها وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل يمين يحلف بها دون الله شرك). ويعلق الشيخ الألباني بعد إيراده الحديث، بالآتي: ({فائدةْ}: قال أبو جعفر الطحاوي: “لم يُرد به الشرك الذي يخرج من الإسلام حتى يكون به صاحبه خارجاً عن الإسلام، ولكنّه أراد أنّه لا ينبغي أن يُحلف بغير الله تعالى لأنّ من حلف بغير الله تعالى فقد جعل ما حلف به محلوفاً به كما جعل الله تعالى محلوفا به، وبذلك جعل من حلف به أو ما حلف به شريكاً فيما يحلف به وذلك أعظم، فجعله مشركا بذلك شركا غير الشرك الذي يكون به كافراً بالله تعالى خارجا عن الإسلام”.
يعني- والله أعلم- أنّه شرك لفظي، وليس شركاً اعتقادياً، والأول تحريمه من باب سد الذرائع، والآخر محرم لذاته، وهو كلام وجيه متين
).
ويقول ابن تيمية في (مجموع الفتاوي ج35): (اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف بها على عهد قدماء الصحابة، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج بن يوسف).
ويقول الشيخ العثيمين في الشرح الممتع:(واعلم أنّه لم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم شيء في حكم الحلف بالطلاق؛ لأنّه غير موجود في عصرهم).
وقد ذكر علامة الشام ، جمال الدين القاسمي، في تفسيره (محاسن التأويل) ما يلي: (وقد صح عن عكرمة في حكم الحلف بالطلاق: (إنَّها من خطوات الشيطان، لا يلزم بها شيءٌ). وصح عن شريح وابن مسعود: (أنّها لا يلزم بها الطلاق)).

مقاربة عقلية منطقية
إذا انطلقنا من الفهم الدقيق للطلاق، كما جاء في كتاب ربنا تبارك وتعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا الفهم الذي يؤهلنا لحسن تطبيقه في حياتنا الاجتماعية، نكون قد حققنا إصلاحاً كبيراً لما يعتري العلاقات الزوجية من خلل في مجتمعاتنا، عن طريق التطبيق الصحيح الناتج عن الفهم الدقيق، من جهة، وإزالة كل العوالق التي شابت أحكام الطلاق في أكثر كتب الفقه، من جهة ثانية. وأقول إذا وصل النخب عندنا، وعلى رأسهم العلماء، إلى أن تكون نظرتهم إلى الزواج والطلاق النظرة نفسها من حيث الأهمية والخطورة فنكون قد وضعنا أنفسنا على الطريق الصحيح لمعالجة أهم مرفقين اجتماعيين في حياتنا. أما الأهمية، فلكونهما لصيقان جدا بحياة الناس، بل حياة كل فرد، والاستثناء نادر. وأما الخطورة، فتكمن في خلل في تطبيق هذين الأمرين، اللذين هما أساس البنية البشرية للمجتمع، وينال تأثيرهما كل مفاصل الحياة.
ولا يخفى أنّنا، بالعادات والتقاليد، أسسنا في نفوسنا الانطباع الحلو، المقترن بأجواء الفرح والاحتفال، والتهنئة، والولائم والحفلات للزواج، وأسميناه فرحة العمر. أما الطلاق، فما أعددنا له في أنفسنا إلا الشر والملاحاة والقطيعة والأحقاد والانتقام، وأسميناه خراب البيوت. ومن هذه النظرة بدأ الخلل، ولحقه الضياع والخراب، أجل ضياع البيوت وخرابها. إنَّ الطلاق ليس وباءً مُعديًا يصيب مجتمعنا، وليس سِحراً يفرق بين المرء وزوجه، وليس قحطا يُجدب مرابعنا. إنّما هو شرعٌ وحلٌ ومخرجٌ وعلاجٌ ونعمة، أنعم الله بها على عباده المؤمنين، لا تقل في فضلها عن نعمة الزواج، بل توازيها، ولا يختلفان إلا بالاتجاه، مدخل ومخرج، وبالأول، (الزواج) يدخل الناس الحياة الزوجية الهانئة المطمئنة، إن أقاما حدود الله فيها، والتي تتعدّى في خيريتها الحياة الاجتماعية، لتحدث تبدلا عظيما في الحياة الدينية، يقول صلى الله عليه وسلم:
(من تزوج فقد استكمل نصف الإيمان فليتق الله في النصف الباقي). وبالثاني (الطلاق)، إن لم تكن مقاربة أمر التزويج وفق نهج شرعي صحيح، أو كان في الطباع خلل، ووصل الزواج بطرفيه إلى حالة، وصفها ربنا بأبلغ وأجمع توصيف (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ). صار الخروج من هذه التجربة العاثرة، والظروف القاهرة، حتما مقضيا. وهنالك يظهر بجلاء، تفضل الله على عباده بشِرعة الطلاق، ونعمة الفراق، فالفراق خير من سوء العشرة، والطلاق إنقاذ لبيت وأسرة، على فوهة بركان! وقد طمأن الله عباده العاثرين، أنّ إعادة التجربة ممكن، إن عولجت أسباب التعثر في الأولى، وفتحَ أمام الطرفين باب التفاؤل من جديد (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ، وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا).
ولنردف الآية بتفسير الشيخ السعدي لها(إذا تعذر الاتفاق فإنّه لا بأس بالفراق، فقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} أي: بطلاق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك {يُغْنِ اللَّهُ كُلا} من الزوجين {مِنْ سَعَتِهِ} أي: من فضله وإحسانه الواسع الشامل. فيغني الزوج بزوجة خير له منها، ويغنيها من فضله وإن انقطع نصيبها من زوجها، فإنّ رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولعل الله يرزقها زوجا خيرا منه، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} أي: كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه. ولكنّه مع ذلك {حَكِيمًا} أي: يعطي بحكمة، ويمنع لحكمة. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده من إحسانه، بسبب من العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلا وحكمة). لكنّ أكثر الناس لا يعلمون..!

ومن أبرز الخلل على سبيل المثال، غياب عُنوانين كبيرين عن تفكيرنا، ونحن نتعاطى مع الزواج والطلاق؛ في الزواج (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً
)، وفي الطلاق (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). نحن في الزواج نحسن إقامة الحفلات ونُلِمُّ بكل (برتوكولات) الفرح، ولكنّنا لا نحسن إقامة بيوت على ثُلاثيَّة (السكن والمودة والرحمة). وفي الطلاق، نحسن كل أشكال الخصومة والملاحاة، والتحدي والكيد والانتقام، لكنّنا لا نحسن تطبيق مبدأ (الَإِمْسَاك بِالمَعْرُوف، والتَسْرِيح بِإِحْسَانٍ).

توسعنا قليلا بالكلام، في استطرادٍ، لكنّه مفيد لا بد منه، ولم نخرج فيه عن بحث الطلاق.

ونعود الآن إلى المناقشة العقلية لموضوع (الطلاق المعلق)، بعد أن استكملنا الدراسة النصية الشرعية، وأكدنا بطلان (الطلاق المعلق) من كل وجه، ما دامت النصوص غائبة، وليس له ذكر لا في الكتاب ولا في السنة. واستشهدنا بأعلام من العلماء، صرحوا بذلك، كابن حزم، وأحمد شاكر، والشيخ العثيمين، وآخرين عبروا عن ذلك بأن غيبوا من كتبهم أيّ ذكرٍ للطلاق المعلق وأحكامه، فهو إذن ليس من الدين. كما فعل ابن القيم، في زاد المعاد، والشوكاني، في نيل الأوطار.

ونقول بجرأة، وثقة: إنّ الطلاق المعلق، بالشكل الذي عرضته كتب الفقه، يُمَثِّلُ اللهو واللعب في الدين، ولا يستغربنَّ أحدٌ ولا يستوحشنَّ أن يسمع هذا الكلام! فإنّه مُقتبسٌ من كتاب الله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
(أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ: (أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟) حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟). وقد أجزت لنفسي الاستشهاد بهذا الحديث مع تردد الشيخ الألباني رحمه الله في الحكم عليه بين الصحة والضعف في كتبه، ولم يصل علمي إلى ترجيحٍ، فاعتمدت على ما تعلمناه من الشيخ رحمه الله في أنّ بعض الأحاديث وإن ضُعفت أسانيدها تصح متونها، لسياقات معينة، وهذا ما يعبر عنه بقوله: (يصح معنىً، ولا يصح مبنىً)، والله أعلم.

إنّ قراءة الأمثلة التي ساقها الفقهاء، في بحث مسألة (الطلاق المعلق)، تؤكد وتبرر استعمال وصف (اللهو واللعب)، غيرةً على الدين، ليس إلا…! وإلى النماذج:
(من قال لإمرأته إذا أشرقت شمس الغد فأنت طالق). و (إن جاء فلان من السفر فأنت طالق)، فانظروا كيف يُطلق الفقهاء المرأة بسب عمل أو حدث لا كسب لها فيه … والأعجب، ما ذكر في أكثر من كتاب (نحو أن يقول لشبح رآه إن كان هذا حيوانا فزينب طالق وإن كان غير حيوان ففاطمة طالق)، وما أدري، أهذيانٌ هذا أم كلامٌ جادٌ، أم تافهٌ يتسلى به، أم هراءٌ، أم ماذا…؟ وهل يعطى مثل هذا الكلام أهمية، إلى حد نشره في كتب الفقه، وتضييع الفقهاء أوقاتهم في تكييفه الفقهي، وإعطاء الأحكام؟ وهل يُتصوَّرُ أن تأتي تعاليم الإسلام بمثل ذلك؟ وسأمضي، في سرد النماذجِ، منقولةً من كتب الفقه، نحو الأعجب فالأعجب…!
ويقدم الشيخ العثيمين، في كتاب (الشرح الممتع) لهذه الأمثلة التي ينقلها من (الروض المربع)، بالآتي: (هذا الفصل ذكر فيه المؤلف تعليق الطلاق بالحيض، بأوله وبآخره وبأثنائه؛ وكان شيخنا (يعني الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله) إذا وصلناها تجاوزناها؛ لأنّه يقول: كلها أمثلة لكن نحن نقرؤها؛ لأنّه ربما تعرض مسألة مهمة). وما إخال الشيخ السعدي قال ذلك، إلا زُهدا بتلك الأمثلة والافتراضات التي تمحلتها بعض كتب الفقة، وما إخالها واقعةً بين الناس! (إِذَا قَالَ: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَقَتْ بِأَوَّلِ حَيْضٍ مُتَيَقَّنٍ، وَإِذَا حِضْتِ حَيْضَةً تَطْلُقُ بِأَوَّلِ الطُّهْرِ مِنْ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ، وَفِي: إِذَا حِضْتِ نِصْفَ حَيْضَةٍ تَطْلُقُ فِي نِصْفِ عَادَتِهَا).
ويشرح الشيخ العثيمين، هذه {الأحجية}، فيقول: (قوله: «إذا قال: إن حِضت فأنت طالق طلقت بأول حيض متيقن» مع أنّ هذا الطلاق حرام وبدعة، لكن المذهب يرون أنّ الطلاق البدعي يقع، وسبق أنّ الصحيح أنّه لا يقع.
قوله: «وإذا حضت حيضة تطلق بأول الطهر من حيضة كاملة» واضح؛ لأنّه قال: إذا حضت حيضة.
قوله: «وفي: إذا حضت نصف حيضة تطلق في نصف عادتها».
قوله: «إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت طلقت في الحال، لأنّ قوله: «أنت طالق
إن قمت» حَلْف.
وإذَا عَلَّقَ طَلْقَةً عَلَى الْوِلاَدَةِ بِذَكَرٍ، وَطَلْقَتَيْنِ بأُنْثَى، فَوَلَدَتْ ذَكَرَاً ثُمَّ أُنْثَى حَيّاً أَوْ مَيِّتَاً طَلَقَتْ بالأَوَّلِ، وَبَانَتْ بالثَّانِي، وَلَمْ تَطْلُقْ بِهِ، وَإِنْ أَشْكَلَ كَيْفِيَّةُ وَضْعِهِمَا فَوَاحِدَةً
).
ويشرحها الشيخ العثيمين، فيقول: (مثال ذلك: رجل قال لزوجته: إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت أولاً ذكراً فتطلق؛ لأنّها ولدت ذكراً فحلَّ عليها الطلاق، فإذا ولدت أنثى بعده لم تطلق لكنّها تبين بالأنثى؛ لأنّها انتهت عدتها بولادة البنت، فصادف الطلاق امرأة بائناً، والمرأة البائن لا يقع عليها الطلاق.
قوله: «وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة» إذا قال: ما أدري هل وضعت الذكر أولاً، أو الأنثى، أو جميعاً؟ فإنّها تكون واحدة لأنّ الواحدة متيقنة وما زاد عليها فمشكوك فيه
).

ولا بد أن أتوقف عن سرد هذه الأعاجيب والترهات، (وفي القاموس، التُّرَّهَةُ: القول الخالي مِن نَفْعٍ)، صيانةً للبحث عن إطالة غير مغنية. لكنّي أختم بعجيبة، تعجب منها الشيخ العثيمين، وغريبة استغربها، رحمه الله، يقول في الشرح الممتع: (ذكر في الروض مسألة غريبة قال: [وإن علق الطلاق على صفات فاجتمعت في عين، كإن رأيتِ رجلاً فأنت طالق، وإن رأيتِ أسود فأنت طالق، وإن رأيتِ فقيهاً فأنت طالق، فرأت رجلاً أسود فقيهاً طلقت ثلاثاً»؛ لأنّها صدق عليها أنها رأت رجلاً، وأنّها رأت أسود، وأنّها رأت فقيهاً، فتطلق لاجتماع الصفات الثلاث في عين واحدة؛ تغليباً للصفة.
وقيل: لا تطلق؛ لأنّ الأيمان ترجع إلى العرف، والعرف أنّ الإنسان إذا قال: إن رأيت رجلاً، وإن رأيت أسود، وإن رأيت فقيهاً يقتضي تعدد الأشخاص، فإذا وجد ما يدل على أنّه أراد التعدد عمل به، وهذا هو الصحيح
)
.

فوا أسفا كم ضيع المسلون من سنين بل قرون، في سفاسف ما أغنت ولا أقنت، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنّ الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها).

وأريد أن أطرح سؤالا تجيب عنه البداهة الإسلامية عند كل مسلم، ولا علاقة للعلم بذلك. لو أنّ مثل هذه الأسئلة طرحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان يجيب عنها، وهل كان يسلم طارحها من تأنيب، بل، هل كان يُقبلُ طرحها أصلا؟
وإنّي لا أستطيع أن أقنع نفسي أبدا، أنّ تلك المسائل التي عرضناها نقلا من كتب الفقه، قد طرحها الناس على علمائهم في يوم ما، وهي أشبه بالأحاجي! وما أخالها، ويغفر الله لي إن لم أصب، إلا من خيال الفقهاء وتآليفهم. ويذكرني هذا الخوض بحديث: عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: (إِنَّ النَّبِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. والحديث ضعيف، كما خرجه الشيخ الألباني في أكثر من كتاب من كتبه، وقد أكد ضعفه في تعقبه لسيد سابق، في تمام المنة. لكن إيرادي للحديث من باب عبارة تعلمتها من الشيخ الألباني، فقد كان رحمه الله يقول أحيانا عن بعض الأحاديث: (الحديث يصح معنىً، وإن كان، لا يصح مبنىً). وللفائدة أنقل بعض ما جاء في شرح الحديث من كتاب (عون المعبود): لاسيما عن شرح كلمة (الأغلوطات)، لمناسبة ذلك للمسائل التي أطلنا في نقلها من كتب الفقه، في مسألة (الطلاق المعلق)، فهي بحقٍ
أغلوطات.
جاء في عون المعبود: (وَأَرَادَ { يعني بالأغلوطات} الْمَسَائِلَ الَّتِي يُغَالَطُ بِهَا الْعُلَمَاءُ لِيَزِلُّوا فِيهَا فَيَهِيجُ بِذَلِكَ شَرٌّ وَفِتْنَةٌ وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعَةٍ فِي الدِّينِ وَلَا تَكَادُ تَكُونُ إلا فيما لا يقع. ومثله قول ابن مَسْعُودٍ {أَنْذَرْتُكُمْ صِعَابَ الْمَنْطِقِ} يُرِيدُ الْمَسَائِلَ الدَّقِيقَةَ الْغَامِضَةَ. فَأَمَّا الْأُغْلُوطَاتُ فَهِيَ جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ أُفْعُولَةٍ مِنَ الْغَلَطِ كَالْأُحْدُوثَةِ وَالْأُعْجُوبَةِ انْتَهَى).
وجاء في الكتاب نفسه: (قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَهِيَ شِرَارُ الْمَسَائِلِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُعْتَرَضَ الْعُلَمَاءُ بِصِعَابِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الْغَلَطُ لِيَسْتَزِلُّوا بِهَا وَيَسْقُطَ رَأْيُهُمْ فِيهَا انْتَهَى).
وجاء أيضاً: (وَالْمَعْنَى هَذَا بَابٌ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْفَتْوَى فِي الْوَاقِعَاتِ وَالْحَوَادِثَاتِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالِاجْتِنَابِ عَنِ الْإِشَاعَةِ لِصِعَابِ الْمَسَائِلِ الَّتِي غَيْرُ نَافِعَةٍ فِي الدِّينِ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْغَلَطُ وَيُفْتَحُ بِهَا بَابُ الشُّرُورِ وَالْفِتَنِ فَلَا يُفْتِي إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ).
فأين أهل الفقه، وما شحنوا به كتبهم من الأغلوطات، من هذا الكلام النفيس؟

ونستحضر للأذهان، ما يؤكد بل يُحتِّم جدية التعاطي مع أمور الزواج والطلاق وكل ما يتصل بهما، بل وأمور الدين كلها، ونذكر بقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)، وعلى ذلك فإنّ أموراً يصح أن تسمى مصيرية في حياة الإنسان لأنّها تهز كيانه سلبا أم إيجابا، لا ينبغي أن تكون للعب أو التسلية، ومع أنّ الهازل لا يقصد يقينا إيقاع طلاق زوجته، وقد تكون أحب الناس إليه، لكنّه بعقله رأى مغازلتها بتطليقها مازحاً، فأمضى النبي عليه الصلاة والسلام عليه ذلك، نكالا وتقريعا. ورغم حديث (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)، ووضوح معناه، أخرج النبي صلى الله عليه وسلم المازح، وهو يعمل بمخالفة النية التي في قلبه، من منطوق الحديث السابق، ليذوق الهازل المتلاعب في شرع الله، وبال أمره.
وحريٌ بكل من يريد البحث في الطلاق وأحكامه أن يقف طويلاً، ويفكر ملياً في قوله تعالى (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). فالطلاق، إن عُزِم به، وكان موافقاَ للأحكام المشروعة، نقلة واحدة ما بين (إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) إلى (تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) … ولنضع ما شئنا من خطوط حمراء تحت كلمتي (بمعروف)، و(بإحسان) لينتبه الغافلون الذين تغيب عنهم هذه الإشارات الربانية تبارك منزلها، فالله لا يرضيه إمساكٌ بغير معروف، ولا تسريحٌ بغير إحسان. فالإمساك والتسريح ليسا مطلقين في الآية إنّما هما مقيدان بوصفين شرعيين أخلاقيين؛ هما: المعروف والإحسان. ولا توجد مراحل ومحطات بين هاتين المنزلتين، يتسلى بها الأزواج والزوجات، الذين لا يخافون الله، بالتحدي المستمر، والكيد الذي لا يتوقف، وأيمان الطلاق، وتعليق الطلاق، وكل ذلك من اللعب واللهو في دين الله، وإرهاق أعصاب كل من حولهم، من أهل وذرية.
أجل إنّ الطلاق في الإسلام حد يجب أن يقف الجميع عنده، بمنتهى الجد والحزم، وربنا يقول: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ)، ليُقْطع الطريق على الظلم، والمُضارَّة، والحقد والتَّشفي، والتسلي. وكل أولئك ليس من أخلاق الإسلام في حل ولا حرم. ومن أقوال الشيخ الألباني: (الطلاق كالزواج لا يقع إلا بالعزم والقصد). أمّا أنْ تكون الحياة في بيت الزوجية يسودها أجواء القلق والنكد والتحدي، ويخيم على الأسرة شبح التهديد المستمر، تارة بطلاق معلق، وأخرى بيمين طلاق، أو بهجرٍ، اصطلح عليه الناس، وهو ظلم يكرهه الله، فكل ذلك يصادم العدل والإنصاف الذي أمر الله به عباده، في كل شأن، وأكد على ذلك في أمر الزواج بتلك الآية العظيمة (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، التي قطعت دابر الظلم، الذي تلازم مع الحياة الزوجية، واتخذ وسيلته الطلاق، وأساليب العبث به، في عصر الجاهلية. وبكل أسف، أقول: لقد رجعت الجاهلية وظلمها وظلامها، إلى بيوتنا، وليس لذلك من سبب إلا أنّنا فشلنا في تأسيس بيوتنا على الإسلام دين الحق والعدل، ففيها صورة الإسلام، وليس حقيقته وروحه!
وأقول: وعلى مسؤوليتي، إنّ كتب الفقه لو خَلَت من التوسع وتفريع الأحكام في هذه الأمور المبتدعة، ولم تُثبت أنّها من الدين، لغابت من حياة الأزواج، كل التجاوزات، والممارسات غير الشرعية، وغير الأخلاقية، وغير الإنسانية. لكنّ الذي كرسها هو ذلك الحضور اللافت في صفحات طويلة من مناقشات الفقهاء وتكييفاتهم ومقايساتهم. حتى ظُن ذلك من الدين..!
ومن ذلك كله، ومع غياب النصوص أصلاً، تطمئن نفسي، وأدين الله، بعدم إيقاع الطلاق المعلق بكل أشكاله، وأعتبره بدعا من العمل، وزورا من القول. وأجهد، وأؤكد على تبصير الأزواج بعدم شرعيته، مع كل فتوى أفتيها.
وهذه الفتيا، طبعا، ستصدم الكثيرين الذين أشربوا في قلوبهم البدع، وما أدخل في الدين مما ليس منه، بسبب سلطان المشايخ من المقلدين والتقليديين عليهم، وظنهم أنّ الموروث من كتب الفقه، خيرٌ كُلُه وصواب. لكنّنا نراقب الله عز وجل في ما استعملنا فيه، وفي فتيانا، ولا نساير الناس، بل يجب علينا توجيههم وتعليمهم، وإخراجهم من دوامة البعد عن الوحيين.

ومن توسع الفقهاء في ذلك تقسيمهم الطلاق المعلق إلى (تعليق قسَمي) أي أنّ الزوج أراد به التغليظ على امرأته في ألا تفعل فعلاً ما فقال: (إن فعلت كذا فأنت طالق) وليس في نيته فراقها فكأنّما أقسم عليها ألا تفعل، والأكثرون على عدم إيقاعه، وقال البعض فيه كفارة يمين..! و(تعليق شرطي) وهو أنّه ينوي فراقها إن حصل الشرط المعلق به، ولا يقصد الزجر أو التغليظ أو القسم، فأوقعوه.
وأسأل وأتساءل أين دليل ذلك التقسيم، وأين دليل جعله يميناً وإلزام فاعله بالكفارة، بل أين دليل إيقاع ذاك النوع من الطلاق، والطلاق هدم للبيوت، وكسر للنفوس، وتضييع للذرية..؟
ثم، أليس الطلاق المعلق مُذْهِباّ لشخصية الرجل في أسرته؟ وكيف ذلك؟ حينما يجد الرجل في الطلاق المعلق ترسا ودرعا، بل وسيفا يسلطه على زوجته في كل شأن، ليخرج دائما غالباً، بقوة (الفقه الأعوج). فذلك يغنيه عن مجاهدة نفسه للتخلق بأخلاق (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ)، وإشاعة روح المودة والرحمة، لتملأ أرجاء البيت، وتكون أساس العلاقة الزوجية التي أمر الله بها(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
فيسود الوفاق، ويعم السلام، ويهيمن الحب، وكل ذلك مجلبة لرضا الله، وتوفيقه، وحفظه، والطريقة المثلى لصنع الأسرة المسلمة.
وبكل صدق وأمانة ودراية، أصرح أنّ أكثر بيوت المسلمين تحتاج إلى المودة والرحمة وإلى توجيه (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ)، فأكثر بيوتاتنا خُلوٌ من ذلك، والذي يسود تلك البيوت شخصية الرجل العنترية الذي يستقوي بالقوامة، ولا يعرف من الدين غيرها. والذي يسهم في صنع تلك الشخصية العنترية، ويشد من أزرها تشريعات الطلاق
المعلق. فتنعدم عند بعض الرجال القدرة على المناقشة والتفاهم، لأنّ الحل الأسهل والأفعل جاهز. تقول المرأة اشتقت لأهلي فهل تأذن لي؟ الجواب لا، فورا، فإن بدأت تلح أنهى المجلس بقوله (إن ذهبت فأنت طالق، ويمضي إلى سبيله). ولقد أفرز هذا التعاطي من أهل الفقه مع الطلاق المعلق، استهتارا عند المرأة، لأنّها في أول الأمر كانت إذا سمعت بالطلاق ترتعد فرائصها، ولكنْ لما صارت تسمعه كل يوم، ثم تأتيها البشارة، أنّه لم يقع لحكمة وحنكة الشيخ فلان. أصابها المثل (كثرة المساس يقلل الإحساس)، فصارت إن مُنعت لا تمتنع. ونتج عن هذا أن يقع الطلاق بمخالفتها الشرط، وتبدأ المأساة تخيم على الأسرة. ومن الذي سيبحث عن المخرج (عنتر). فإذا بالمرأة لا تلقي بالاً لا للتهديد بالطلاق، ولا بالشخصية التي تهدد، وتعلمت أن ترتب أمورها، لتصبح هي الرابحة دوما، فلا يوجد شيخ يُمضي الطلاق المعلق بدافع شدة استعطاف (عنتر)!

وأما مسألة السؤال عن النية، فأقول لم نُثبت الأصل حتى نثبت له الفرع، وقد قال بعض العلماء، ولم يتسن لي في العجالة التثبت من أسمائهم، إلا أنّني متأكد من أنّ الشيخ العثيمين واحد منهم، ما مؤداه: إنّنا لو فتحنا باب السؤال عن النوايا في الطلاق، لفتحنا باب التلاعب بالنوايا، ولجعلنا أكثر الأزواج يغيرون نواياهم، حينما يرون كارثة الطلاق رمت بجرانها في سوحهم، وقد يصل الأمر إلى تلاعبٍ، يجعل بقاء الزوجية حراما، في بعض البيوتات..! وذلك بالفعل، حاصل بمعاينة شخصية، بل هو كثير الوقوع، حين يندم الزوج ندامة الكسعي ولسان حاله يقول:

ندمت ندامة الكسعي لما رأت عيناه ما فعلت يداه

فيقول لم أنو المفارقة، وهو كان ينويها ولكن دون تبصر، وبسبب استحواذ الرعونة ومنطق التحدي على عقله، مضافاً إلى ذلك قلة الفقه أو رقة الدين.

وتبقى مسألة هامة تستحق التأكيد عليها، تلخيصا لأمر الطلاق، بعبارة مقتضبة، ولملمةٍ لأطرافه التي بعثرتها الأحكام الدخيلة في كتب الفقه. فالطلاق، كما ذكرنا، شرعٌ من الله، وحلٌ اجتماعي، ومخرجٌ من مأزق ومضيق، حينما تستحيل الحياة بين زوجين تحت سقف واحد، فيتفقان، أو يتفق الحكمان، على أنّ الحياة الزوجية يستحيل استمرارها بين هذين الزوجين. وينتهي الأمر بكلمة يقولها الزوج بهدوء لزوجته (أنت طالق). وتأخذ الكلمة مجراها الشرعي لتُبلْوَر في النهاية أحكاما شرعية تلزم كل الأطراف، لأنّ الحُكم فيها لله تبارك وتعالى. ولا يكون في النتائج أدنى مفاجئة لأي طرف، لأنّ كل شيء كان بالحسبان، ولم تكن تلك الكلمة، التي أنهت كل شيء سهماً أو طلقةً أخرجتها نزوةُ غضبٍ في خضم معارك كلامية محتدمة بين كل الأطراف! وبهذا المفهوم، وهذا السلوك، يصبح الطلاق نعمة من الله، وتفضلاً على عباده، حينما يكون وفق التعاليم الصحيحة، الواردة في القرآن الكريم، والهدي النبوي. فلا يقبل العداوة والخصومة، أبداً. ولا المناورة، ولا المخادعة، ولا الاستهتار، كلمة تقال بعد دراسة، برعاية معنيين من أهل الفهم والحكمة والسياسة. فلا يُغمط في ذلك لأحدٍ من حق، ولاينال من عرض، ولا تُترك في نفسٍ ضغينة. والطلاق، كما سمعت من أحد المشايخ، (شريعةٌ مُحْكَمَةٌ، وليس أهْواءً مُحَكَّمَةً). وكما ذكرت سابقا، فإنّ الزواج والطلاق صنوان، وإذن، فالتعاطي معهما متشابه، من حيث الثوابت الشرعية، والضوابط الأخلاقية، والقواعد السلوكية.
فهل علمت أيها المسلم، وهل علمتِ أيتها المسلمة، أنّ الله حين يقدر بينكما وفاقا من أجل زواج، يرضي الله في كل مراحله، ويقوم على تطبيق هدي نبيه، في كل خطوة على هذا الطريق، ثم يهيئُ لكما ربكما سبل العيش الهانيء في عشٍ زوجيٍ دافيءٍ، تدفئه المودة والرحمة، ويكون كلٌ منكما سكناً لصاحبه، بكل ما تحمل كلمة السكن من معنى. هل تعلمان ما هذا الخير الذي يَحُفُّكماـ إنّه آية من آيات الله، ذكره الله في سياق تعداد أعظم آياته في هذا الكون، فاقرؤوا بإمعانٍ وتدبرٍ الآيات من(20) إلى (25)من سورة الروم، ولولا خشية الإطالة لذكرتها، ولعلقت عليها، فتحملوا ذلك عني! فزواجكما في عظيم تقديره وتدبيره، وما فيه من منافع وعواطف ومتع، آية من آيات الله.

أيّها المسلمون والمسلمات هل أدركتم قيمة الحياة الزوجية بعد أن قرنها الله بتلك الآيات العظام، وهل ستبقون تعيشون تلك الحياة (الآية) مع الشحناء والبغضاء والمعاسرة، وفي المحاكم وعند المحامين، ليمينِ طلاقٍ تُصُوِّرَ أنّه وقع، وطلاقٍ معلقٍ مفترىً مُبتَدَع! ويا معشر الفقهاء، وأصحاب الفتاوى، لقد توسعتم في التفريع في الأحكام، فوسعتم سبل المناورة، واللف والدوران، احتيالاً على النصوص، أمام من لا ضوابط تردعهم. ويسرتم في الأحكام إنسانيةً، وإشفاقاً، فطمع الذي في قلبه مرض…!
يكفي المسلمين، تلازم الطلاق في كتاب الله مع صفتي التسريح والإحسان، وهما من جوامع الكلم لما تحملان من معانٍ، وإسقاطات، ليكون المسلمون في تعاملهم مع الطلاق، متخلقين بأخلاق الإسلام، وشمائل الإيمان. ولا ننسى قول ربنا تبارك وتعالى في سورة البقرة: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). وفي سورة الأحزاب: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين). فما المقصود بالمتعة؟ هي المال الذي يدفعه الرجل لمطلقته التي فارقها، زيادة على النفقة، التي تجب لها، ومؤخر الصداق الذي يستحق لها. والغاية من ذلك تطييب خاطرها، وجبر كسرها، بسبب إيحاشه إياها بفرقة، فرضتها اعتبارات تعرفها الزوجة، وقد تكون سببا فيها. وهذا الحق المالي للمطلقة قد غفل عنه كثير من الناس اليوم مع الأسف الشديد، وقلَّ في الزمن الحاضر من يؤدي متعة الطلاق، لأنّ غالب حالات الطلاق ترافقها الخلافات والخصومات، فلا يبق للإحسان محل، ولا تجود بالتكريم نفس، وتصير الزوجة تنشد السلامة والخلاص، تود لو تفتدي نفسها، إن لزم الأمر، غير طامعة ولا منتظرة، أن تُمتّع من قبل من طلق.
واختلف العلماء حول حكم متعة الطلاق بين الوجوب والندب، وهل هي لغير المدخول بها فقط؟ يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: (وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تجب المتعة لكل مطلقة، حتى بعد الدخول، واستدل بقوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) [البقرة/241] و”المطلقات” عام، وأكد الاستحقاق بقوله: (حَقّاً) أي: أحقه حقاً، وأكَدَّه بمؤكد ثانٍ وهو قوله: (عَلَى الْمُتَّقِينَ)، فدلّ هذا على أن القيام به من تقوى الله، وتقوى الله واجبة، وما قاله الشيخ رحمه الله قوي جداً).
ولم يأت تحديد لمقدار النفقة، وإنّما تتناسب مع وضع الزوج المادي كماجاء في الآية (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين).

محاسن الإسلام أكبر وأعظم من أن تحصى، أو يحاط بها! تـتعثر الحياة بين زوجين، فيأتي الحل والمخرج من الحكيم العليم، ويقضى بالفراق، وتتم إجراءات هذا الحل على مرارته، محفوفة بخلق الإحسان، ويفرض على الزوج واجبٌ، وهو العطية المادية التي سماها ربنا متاعا، علها تخرج وحر الصدور بعد تجربة مريرة. ثم يأتي التطمين من الله للطرفين، بمستقبل أفضل في تجربة قادمة، ولا يخلو ذلك الخطاب الرباني من إشارة ضمنية إلى الإفادة من التجربة السابقة العاثرة لإنجاح الجديدة القادمة (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا). فما أحكمك، وما أعدلك يارب، وما أعظم دين الإسلام!
من ذلك فلا يحل لرجل أن يجري الطلاق على لسانه إلا أن يريد مفارقة زوجته، فليس الطلاق مادة للتحدي والمساومة، وليس استعراضاً لعضلات
الزوج الضعيف أمام امرأة مسكينة، وليس تخويفاً ولا تهديداً، ولا يميناً يتترس بها الحالف، ويقيد بها المحلوف عليه رغما عن أنفه، ولا تعليقا، ضابطه آيتان (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) و (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ). ولا يقف المتتبع لأحكام الطلاق، في الكتاب والسنة، إلا على صورة واحدة، نية في القلب وعزم وفعل بكلامٍ، ولا نجد للطلاق أيماناً، ولا تعليقاً. وكل تعامل مع الطلاق غير الذي بُين في الوحيين مخالفة ومعصية وتضييع للحق، لتدخل العقل بدل التزام الاتباع. وما كان سوى ذلك، وقد امتلأت به الكتب، فنقول فيه، هو أقوال رجال واجتهاداتهم، لا يفتى بها ولا تلزم أحدا، ولو كان من صدرت عنه من الصحابة الكرام، والكل بين الأجر والأجرين.

وأختم فأقول: لقد علمتني التجارب والأيام، أنّ ما هو أصلٌ في معالجة المشكلات الاجتماعية، في بيوت المسلمين، تذكيرُهم، مع الفتوى، بأنّ الله أراد لبيوت الزوجية أن تقوم على السكن والمودة والرحمة، وحضُّهم على تطبيق ذلك، لتحقيق السعادة في الدنيا، وقبل ذلك هو طاعةٌ لله، وفلاحٌ في الآخرة، حين نلقاه. وإقناعُهم أنّ ذلك سيُلغي من حياتهم كل منغصٍ، ويُقصي كل معكرٍ ومكدرٍ … ولا بد أن يكون إعطاء ذلك الدرس بجرعات خفيفة مع كل فتوى، ومن تجربتي المتواضعة، فلا جدوى لفتوى لا يصاحبها تعليمٌ مؤصلٌ بالدليل، فتستقر في نفس المستفتي على أنّها دين. أما أن تعطى الفتوى كمادة قانونية، لا يفهمها المستفتي إلا أنّها حلٌ لمشكلة، تزول من نفسه إن زالت المشكلة، وإلا ظل مُتَسَخِّطاً على من أشار بها، باحثاً عن غيرها عند آخر!

ولعله لم يبقَ في الجَعبة، عن الطلاق، إلا أن أُهدي كلَّ زوجين ومن حولهما هذا الحديث النبوي؛ مما رواه الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى المَاء ثمَّ يبْعَث سراياه فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلَتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكَتُهُ حَتَّى فَرَّقَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نَعَمْ أَنْتَ). قَالَ الْأَعْمَشُ أرَاهُ قَالَ: (فيلتزمه). رَوَاهُ مُسلم.
فاللهَ، اللهَ، أن يكون كلٌ من الزوجين، أو كل أحدٍ ممن حولهما، عوناً لإبليس وجنده على التفريق بين مسلمين، في بيت الزوجية، فيكونوا، ممن يخربون بيوتهم بأيديهم.

وعودٌ على بدء، فَسِمَةُ الموضوع الجرأة، والغرابة، مع أنّه بحث شرعي واجب. لكنّها هيمنةُ ثقافة التقليد في الدين، والجمود على ما جاء من عند الأولين! وهل أُوتي الإسلام والمسلمون إلا من هذين؟! ما أردتُ، والله يشهد، إلا الإصلاح ما استطعت، وأي إصلاح؟ إنّه إصلاح بيوت المسلمين، بعد تصحيح (الذهنية الفقهية) قبل كل شيء. وإنَّ كلَّ ما أصاب ويصيب المسلمين من هزائم وفشل وإحباط، في كل جبهات العمل، العسكري والاقتصادي والتربوي والاجتماعي، وحتى الدعوي، بدأ من بيوت المسلمين، قبل أن يكون في الميادين. لقد شَحَّتْ فيها سُقيا العلم والتربية. للبعد عن الينابيع الصافية! وكان أبرزُ عَرَضٍ، لأفتكِ مرضٍ أصاب المسلمين، غيابَ الأمةِ أو غثائيتَها. ولا يُحضرها بعد غيابها، ويُغنيها بعد خوائها، إلا دعوة على بصيرة، وتصفية وتربية، وعمل دؤوب، وفق منهج اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لمن يريد الإصلاح، وقد أخذ الافتراق والاختلاف من المسلمين كل مأخذ، ويضِلون في تيه التجمعات والتحزبات، والاصطفافات، بعد أن أفلتوا من الاستمساك بالعروة الوثقى، فانفصمت كل عراهم المزعومة، وأخفقت كل جُموعهم الموهومة، وكان أمرهم فُرُطاً. ما هو المنهج؟ (ما أنا عليه وأصحابي).

أيّها المسلم، أيّتها المسلمة، قبل أي خطوة باتجاه الإصلاح، إن تفاعلتم مع ما قرأتم، سلوا أنفسكم، هل التزامكم هذا المنهج، للسير عليه، والالتصاق به، حذو القذة بالقذة، واجبٌ شرعيٌ، يسألكم الله عنه؟ أم أنّكم تتصورون، أو يُصَوَّرُ لكم، أنّكم في سعة من أمركم، تبحثون عن غيره، والمناهج والطرائق كثيرة، بأيها أخذتم وصلتم؟!!! إن وُفِّقتم إلى الجواب الفيصل، ومن ورائه العملُ المؤصل، فامضوا على بركة الله (هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

والحمد لله رب العالمين