Skip to main content

إشكال في تطبيق آية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)

By الخميس 11 صفر 1433هـ 5-1-2012ممحرم 21, 1441مقالات

هذه الآية الفاذة، قد اعترى فهمها الدقيق، وإسقاطها على أحوال الناس، إشكالاتٌ نظريةٌ كبيرة، لاسيما مع التغيرات الواضحة التي حدثت في المجتمعات الإسلامية، على مر الزمن، وبخاصة في نسيجها الاجتماعي .. وكان لتلك الحراكات الشعبية، التي جاء بها الربيع العربي، وتداعياتها الدور الكبير في إثارة تلك الإشكالات، عند أهل الفكر وأصحاب الشأن .. وتنوعت ردود الأفعال لما جرى. من ذلك رد الفعل القوي، من بعض الملتزمين (المستشكلين) ما أدى إلى إدارةَ الظهرِ لما يجري واعتبارِه لا يعني المسلمَ الملتزمَ لأنّه يخالف فهمهم للآية، حتى إنّ منهم من شن الحرب إسلاميا على ذلك الحراك وحذر وخذل..! وآخرونَ، بدافعٍ قوميٍ، رأوا في الربيع العربي، كما سمي، مؤامرة سايكس بيكو من جديد، وهؤلاء لا يعنوننا في بحثنا. فما يعنينا هنا التعامل مع النظرة الشرعية، إبراءً للذمة، ونصحاً للأمة، ولأولئك الذين لم يستطيعوا التوفيق بين منطوق الآية الكريمة ومفهومها، وما يجري من حولهم على الأرض.

ولا بد من القول إنّ فهمنا النظري لهذه الآية، بدا مُبْتَسَراً أمام ما نراه واقعا على الأرض، وبكل حقائقه وخفاياه ومتغيراته .. وإذن، فالحاجة ماسة إلى تفصيلٍ وإيضاحٍ لم يكن مطروحا في ما سبق، والبحثُ نظراتٌ واجتهاداتٌ، وبعد ذلك فلكلٍّ وِجْهةٌ هو مُوَلِّيها..! وتيسيراً للعرض، وتسهيلاً للفهم، أقسم الموضوع إلى محاور.

المحور الأول: يحسن أن يكون فهمنا للآية الكريمة، موضوع البحث، بِضَميمةِ نصين آخرين هما قوله تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وما يُرَدَّدُ، دائما، في مطلع خطبة الحاجة، من كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا).

والآن مع استعراض سريع لمعنى كل نص، توطئةً لدمج معانيها جميعا. أما قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فقد جعل الله قيام الناس بتغيير أنفسهم والارتقاء بها نحو ما يرضي ربهم، وسيلةً وتوسلاً لتغيير الله لهم ما يتمنون تغييره ولا يستطيعون .. وفي إجمال سابق لي لمعنى الآية كنت أقول: لقد كلفنا الله بها ما نطيق، وهو تغيير أنفسنا، وتكفل الله لنا بما لا نطيق وهو تغيير لكل ما يسوؤنا في الكون من حولنا. ولقد جاءت آية أخرى كريمة هي: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ).

لتؤكد لنا، ومن خلال ربط السياق بالسباق، أنّ تغيير الأنفس، ثم تغيير الله للناس بعده، يكون بالاتجاهين؛ السلبي والإيجابي. بمعنى أنّ الآية ذكرت تغيير النعمة بسبب المعاصي، لكنها بالمفهوم المخالف المعتبر، تؤكد أيضا على تغيير النقم بالطاعات، لوفرة الأدلة على ذلك.

إنْ غَيَّر الناس أنفسهم نحو الأحسن، إلى ما يرضي الله، كان تغيير الله لهم بزيادة نعمه عليهم وتمكينهم فيها، وإن كان تغيير الأنفس نحو الأسوأ، وإلى ما يسخط الله، جازاهم ربهم بسلب ما كان قد خولهم من نعم.

أما الآية الثانية (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) فتبينُ للناس أنّ كلَّ ما يصيبهم من مكروه أو مصيبة فمن عند أنفسهمم أوتوا، فلا يلوموا إلا أنفسهم .. ويحسن هنا لمناسبة ذكر لوم النفس، أن أُذَكِّر بأنّ الله تبارك وتعالى أقسم في سورة القيامة بالنفس اللوامة، كما أقسم بيوم القيامة تعظيما لشأنها .. والمقصود بالتعظيم تبيان خطورة دور النفس اللوامة في حياة الإنسان، لأنها تضبط وتصحح مسار صاحبها باستمرار .. وأول من خوطب بهذه الآية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، جوابا على تساؤلهم (أَنَّى هَذَا)؟ حين حلت بهم الهزيمة بعد انتصار. وكان الجواب من الله، تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

أما الحديث النبوي (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا) فيعطي للمعنى بُعدا خطيرا، وهو أنّ أول ما يجب أن يستعيذ المسلم منه، هو شرُّ نفسِه وسيِّءُ عملِه، وهما مقدمان على الاستعاذة من الشيطان، مع أنّه رأس كل خطيئة على الأرض.

ولو حاولنا دمج هذه المعاني لقلنا: إنّ أنفسنا التي بين جوانحنا هي أخطر ما في الكون جنايةً علينا، ولا يتقدم عليها سبب، حتى كيدُ أعدائنا لا يفعلُ فينا فعلهُ، إلا بسبب أنفسنا، بل إنّ كيد الشيطان لنا ما كان لينجح لولا خللٌ في نفوسنا، ولنقرأ إن شئتم قول ربنا، حكايةً عن الشيطان: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).
ولذلك كان إصلاح النفس وتزكيتها، مما كثر الأمر الشرعي به (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

وإذن، فالنصوص التي تتصل بالنفس، تتماهى دلالاتها لتوصل للناس ما يلي: قبل سؤال الله كشف أي ضر، ورفع أي بلاء، وصرف أي مكروه، وتخويل أي نعمة، لا بد من أن نتوسل إليه بعملٍ نفعله، وهو تغيير أنفسنا. وتغييرُها، نحو الأفضل (على ما يريد الله)، هو المقدمة الأساسية لتغيير واقعنا، بكل ما فيه على الأرض .. ولا يُقبل من الناس أيُّ لومٍ لأيةِ جهةٍ، من أجل شيء يصيبهم، قبل أن يلاوموا أنفسهم، ويضعوها على الطريق الصحيح إلى الله .. فالنصوص المذكورة إذن سنة من سنن الله في خلقه، وقانون من قوانين التغيير في هذا الكون. وأؤكد ما بيَّنا سابقاً، أن التغيير بنوعيه، يكون في الاتجاهين. وإن َّتدقيق النظر من جديد، في العبارات الآتية السالفة الذكر: (فقد جعل الله قيام الناس بتغيير أنفسهم والارتقاء بها نحو ما يرضي ربهم ، وسيلة وتوسلا لتغيير الله لهم ما يتمنون تغييره ولا يستطيعون) .. (وتغيير أنفسنا، نحو الأفضل على ما يريد الله) .. (قبل أن يلاوموا أنفسهم ويضعوها على الطريق الصحيح إلى الله).

وبخاصةٍ، في الألفاظ ذات الحروف الممتلئة سواداً، مثل (ما يرضي ربهم) و(على ما يريد الله) و(الطريق الصحيح إلى الله)، وكذلك، فإنّ السياق والسباق للنصوص، ومناسبات خطاب الناس بها، يجعلنا نستنبط أنّ الناس المأمورين بذلك مسلمون، ولاريب. ولنحفظ هذه النتيجة في ذواكرنا، للمقارنة.

المحور الثاني: تَوهَّم أقوامٌ أنّه لا يمكن أن يُحدث الله تغييرا على الأرض، من أجل الناس، إلا عن طريق هذه السنة الربانية (أعني تغيير الأنفس وما يتصل بذلك).

فعطلوا بذلك سنن الله الأخرى…! وعطلوا عقولهم عن فهم ما يجري من حولهم على الأرض، وبخاصة في دول الربيع العربي..! ولبيان المقصود، أُذَكِّر هنا بسنة عظيمة من سنن الله في الخلق، وقانون من قوانين تبدل الأحوال على الأرض، وهي إجابة الله تبارك وتعالى دعوة المظلوم ودعوة المضطر، رغم كفرهما وشركهما .. وتوجيه العلماء، أنّ هاتين الدعوتين من المظلوم والمضطر، لا يَنظر الله فيهما إلى حال الداعي، بل إلى صِفتين عَلِيَّتَيْنِ من صفاته تبارك وتعالى، وهما: نصرة المظلوم، وإجابة المضطر .. وفي هاتين السنتين، من سنن الله في الخلق، تغيير يجريه الله عز وجل، لصالح بشرٍ كافرين، ولم يتوقف حدوث التغيير في هذه الأحوال على شرط تغيير أنفسهم .. وأذكر ببعض النصوص:

. (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).

. (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب).

. (اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرار).

وانظروا كيف أنّ لفظة (المظلوم) في الأحاديث جاءت مطلقة لتعني المسلم وغير المسلم، وجاءت في الحديث الثالث عبارة: (وإن كان كافرا) لتؤكد عموم ما أُطْلق في الأحاديث الأخرى.

ولنقرأ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

وقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).

وواضح دون أي لبس، أو غموض أنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل تغيير نفسي المضطر والمظلوم شرطا في إجابة دعوتيهما.

وهناك نصوص تحض كل مظلوم على رفض الظلم، والانتصار من بعد الظلم، وأقول، مرة أخرى، اللفظ عام يشمل المظلوم المسلم وغير المسلم .. ولنقرأ قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)، وقوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد).

والذي أفهمه من المعنى العام للحديث، أنّ في هذا الحديث حضاً، منه عليه السلام، للمظلوم على الانتصار بعد ظلمه، وتأكيداً لهذا الحض، وإغراءً به، عن طريق ذكر الشهادة في آخره.

إذن، فإنّ السطور السابقة حكت لنا سنة مستقلة من سنن الله في الخلق، وهي نصرة المظلوم بإجابة دعوته، وإجابة دعوة المضطر في كشف شدة أحاطت به، وإن كانا كافرين (أمنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)..! فهل نضرب النصوص بعضها ببعض، ونَخرُج بفهم خاطيء، يجعلنا نقول للمظلوم والمضطر إذا دعوا الله: لن يستجيب الله لكما ما لم تغيرا ما بنفسيكما، وتتحولا من الكفر إلى الإيمان..؟

وزيادة في تأكيد فكرة أنّ لله تبارك وتعالى سننا في التغيير يعامل بها غير المسلمين، نستحضر حديث الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِىُّ عِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال:

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاس». فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ).
والحديث أخرجه مسلم

تلك الخصال التي أثنى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمرو بن العاص، بها على الروم، أليست مطلوبة أن تكون في المسلمين..؟ ولندقق أنه ليس فيها شيء مرتبط بالعقيدة، إذا غابت غاب معها..! فما المقصود يا ترى من هذا الثناء من عمرو بن العاص، على الروم وهم أهل كفر؟ وهل هي ذمٌ لهم..؟ الجواب، لا قطعا. ولا يمكن أن يضيع ذلك الثناء بل لا بد أن يؤجروا من الله عليه في الدنيا فقط.

ومن عجبٍ أنّ بعض الباحثين، لا يرون في كلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، في الحديث السابق، دليلا على الثناء على الروم، لأنّه ليس مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو موقوف على عمرو رضي الله عنه! وأقول: لنا من هذا الحديث ما جاء عن الصحابي عمرو بن العاص، ولكي نعرف صدق القول، لا بد أن نلم إلمامة عجلى بسيرة قائله؛ هو الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه، كان يُلقّب بـ”داهية العرب” .. وعُرف عنه ذكاؤه الشديد، وقد أرسلته قريش للحبشة عندما هاجر إليها المسلمون ليُعيدوهم إلى مكة لكن لم تنجح الخطة.

بعد إسلامه، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أرسل أبوبكر رضي الله عنه، أربعة جيوش لفتح الشام، وكان فيها الروم، وكان عمرو بن العاص على رأس أحدها. وقد شارك فى معركة اليرموك (بين المسلمين والروم). وانتهت بنصر المسلمين. وبعد انتصار المسلمين فى معركة اليرموك، أكمل عمرو بن العاص فتح باقى مُدن فلسطين .. وتمكن من فتح بيت المقدس (القدس) فى خلافة عمر بن الخطاب. ثم أكمل المسير على مصر، ففتحها، وكان واليا عليها. توفى فى مصر وعمره 93 عاما .. ودُفن فى المقطم، رضى الله عن عمرو بن العاص وعن سائر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال رجل لعمرو بن العاص صف لي الأمصار؛ قال: أهل الشام أطوع الناس لمخلوق، وأعصاه للخالق. وأهل مصر أكيسهم صغارا، وأحمقهم كبارا. وأهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة، وأعجزهم عنها. وأهل العراق أطلب الناس للعلم، وأبعدهم منه. فالرجل خالط الناس وخالقهم، وعجم عودهم، وعرف ما عليهم وما لهم. وهو رجل صاحب رأي يصدر عن تجاربه، وإن لم نوافقه. أما ما قاله عمرو بن العاص بعد أن سمع حديث المستورد، وتثبت من سماعه الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ). فإنها كلمات صدرت من داهية، شديد الذكاء خالط أصناف الشعوب وفيهم الروم، إما مسافراً لتجارة، أو قائداً مقاتلاً الروم في بلاد الشام. وليس ذاك الوصف للروم، مدحا لأهل الكفر كما فهمه بعض الجهال، إنّما هو تقريرٌ لواقع، وتعليلٌ لما سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ). فإنّ تلك الخصائص، تُمكن لهم الحكم في الأرض، وتطيل لهم أمد الملك، أكثر من غيرهم من شعوب الأرض، وذلك تقدير العزيز العليم.

وعند أهل الكتابة، مثل شائع (الشيء بالشيء يذكر)، فعند ذكرنا لصفات الروم، وربط الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه، لها بكونهم أكثر الناس، حين قيام الساعة، كان جديرا بالذكر أيضا كلام رائع لابن تيمية يتصل بسبب قوي مع ما نحن في صدده. يقول رحمه الله: (إن الله يقيم الدولة العادلة، وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة، وإن كانت مسلمة) وبكلمات أخر يقول: (الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام).

ولا أستطيع أن أخفي أنّ الدعاة، قبل أن يطلعوا على هذا الكلام الرائع، وأضيف {والجريء}، لأني لا أظن عالماً معاصراً يجرؤ على استنتاجٍ كهذا، وأرجع لأتمم العبارة بعد هذه الجملة الاعتراضية، فأقول إنّ الدعاة كانت تحرجهم أسئلة الشباب، وما أكثر ما ترد، لِمَ نرى الغرب الكافر متقدما والمسلمين متأخرين؟ وفي يقيني أنّ الجواب الشافي الكافي، هو كلام ابن تيمية السابق. وما أشد تصديق الواقع لهذا الفهم والتقرير فكل دول الكفر متقدمة، دنيويا، عن كل الدول المسلمة، فهل غيروا أنفسهم إلى ما يرضي الله، وعلى رأس ذلك ترك الكفر والدخول في الإيمان..؟ إنه الرَّدُّ القويُّ على من اعتبروا سنة (تغيير الأنفس) هي الوحيدة في باب التغيير الدنيوي، الذي يغيره الخالق، تبارك وتعالى، للناس .. أجل إنهم غيروا أنفسهم، ولكن وفق سنة أخرى من سنن الله في الخلق، ووفق قاعدة أخرى من قواعد التغيير على الأرض، وهي أنهم جعلوا من أنفسهم قائمين بالقسط والعدل الذي يحبه الله، بين الناس، فاستحقوا منه جل وعلا، التمكين، رغم بقائهم على الكفر..! فهل تكون كل هذه الأمثلة خارج إطار سنة الله في التغيير (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) أم ماذا..؟

وما من عاقل منصف إلا ويدرك الفرق الكبير في العدل بين الناس، المطبق في دول الكفر، وما عليه الحال، بكل أسف، في الدول المسلمة، من غياب العدل، في أمور كثيرة. وأروي قصة حقيقية حدثني بها ثقات، عن طبيب عربي يختص في ألمانيا، وله زوجتان، اصطحب واحدة وأولادها لأنّ النظام الغربي لا يسمح بزوجتين. ثم بدأ يشتد حنينه إلى الأخرى وأولادها، ويُكثر التذمر لمن حوله. ولما سأله زميل له ألماني عن سبب تذمره وقلقه، صارحه بمشكلته، فرق لحاله، وأبدى التعاطف معه وقال له إنّ له صديقا محاميا سيستشيره في القضية. بعد ذلك قال له إنّ المحامي طلب منه شهادة مصدقة حسب الأصول من مركز إسلامي، معترفٍ به من قبل الدولة الألمانية، تفيد الشهادة أنّ دين الإسلام يسمح لأي مسلم أن يكون تحته زوجتان في آن معاً. فاستصدر الرجل الورقة وذهب مع صديقه إلى المحامي، فتعرف عليه وقدم له الشهادة، فوعده ببذل الجهد. وبعد مدة طويلة استدعاه مهنأً له ومقدما له صكا بحكم محكمة عليا، بوجوب تعديل نظام الأجانب في ألمانيا، بحيث يسمح للمسلم المتزوج بأكثر من زوجة أن يعشن معه في ألمانيا.

أروي هذه القصة، معلقاً، وبمرارة شديدة، إنّ نظام الأجانب في السعودية، يحول بين المرء وزوجه، عند شرائح كثيرة من العمالة الأجنبية المسلمة على أرضها، وناهيكم بفعل كهذا كم يَحمل من جَوْرٍ، وكم يَنشُر من فساد؟! فهل هذا حكم الإسلام، وهل يرضي رب الأنام..؟ وهل النظامُ الألمانيُ الكافرُ أرحمُ بالمسلمين، من بني جلدتهم، وأهل مِلَّتِهم…؟ رحم الله ابن تيمية، فقد صدق والله.

ونقول: هل هذه الأمثلة من سنن الله في المظلوم والمضطر الكافرين، ومثوبة الله الدنيوية لأهل العدل من الكفار، وحجبها عن المسلمين الظلمة، هي خارج إطار سنة الله في التغيير (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وفق الإطار الضيق لفهمها عند بعض الناس، أم ماذا..؟ إن شأن الله تبارك اسمه، أعظم من أن تحيط به عقولنا، التي إن أقحمناها في ذلك، أدخلتنا منطقة ( التألي على الله) وما أخطرها (...وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًاً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، إنها قرينة الكفر..!

وما ذُكِر يؤكد ما قررناه، قبلاً، من أنّ هناك قواعد ومعايير، يعامل الله بها أهل الكفر، الذين ليسوا مخاطبين بأحكام الإسلام، حتى لا يُضيِّع جل جلاله أجر من أحسن عملا منهم في الدنيا..! (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
وقوله:
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)، وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ). فما أعدلك يارب، وما أرحم دينك، وأعدل حكمك!

المحور الثالث: حين ننطلق من تعدد سنن الله في خلقه، نعلم أنّ كل سنة تغطي حالا أو شأنا من أحوال وشؤون الخلق في الأرض. ومن هنا أتحدث بجرأة، ومن خلال ما استعرضت من أمثلة، أنّ آية (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) تحتاج فهما واعيا وواقعيا من المسلمين، لكي لا تصادم الواقع، عند التطبيق، إن لم يكن فهمها واسع النظرة .. ويثور في الذهن سؤال بل إشكال، هل آية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) تطبق في المجتمعات المسلمة فقط، أم ماذا؟ أجيب، إنها تبقى مقصورة على المجتمعات المسلمة، التي عرفت الله، وآمنت به، وصدقت بكلماته، وأطاعت رسله، فخوطبت بأوامره ونواهيه، ما دمنا نفسر تغيير الأنفس، على أنه تغيير وفق تعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه، حسب ما بينت وأكدت في المحور الثاني، في ما يخص العبارات التي تحتها خطوط .. وبالتالي فلا يمكن، بالمفهوم السابق أن تكون الآية، موضوع البحث، قانونا للتغيير، في مجتمعات الكفر، أو المجتمعات التي يكون فيها المسلمون غرباء (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) .. ولا تفسر على ضوئها أحوال تلك المجتمعات.

وذلك بناء على الرأي القائل إنّ الكافر غير مخاطب بتعاليم الإسلام، وأنّ كفره هو الذنب الأكبر الذي يحاسب عليه .. وليس من أجل مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية، التي لم يخاطب بها أصلا. وهذا ما يدل عليه استقراء النصوص ومحاولة التوفيق بين مدلولاتها، ونفي التعارض عن وحي الله. فإن لم يُقبل ذاك التعليل، نقول: لابد إذن من أن نجعل المقصود بتغيير الأنفس، أوسع معنىً، وأكثرَ شمولاً،
من الانتقال من الكفر إلى الإيمان، مثل: الأمر بالعدل، وترك الظلم، وذلك مما يحب الله من عباده فعله، مع بقاء الفاعل على كفره، وتكون المكافأة حينئذ دنيويةً فقط، بخلاف مثوبة المؤمنين التي تشمل الدنيا والآخرة، فتنسجم حينئذٍ النصوص الشرعية كلها. و يمكن تنزيل حكم آية (تغيير الأنفس) على كل حالٍ من أحوال الناس، دون تخصيص، ودون تعارض وتناقض، لدى التطبيق، والحمد لله.

المحور الرابع: وأستأذن في مدخل جديد على آية (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، نتيجةَ، نَظرةٍ مُتَعَمِّقَةٍ مُتَأَنِّيَةٍ، ومن خلال تساؤل أطرحه؛ ما هو التوصيف الصحيح للمجتمعات الإسلامية المعاصرة..؟ للإجابة أقول: لابد من التمييز بين واقعين؛ ضعفِ الدولةِ الإسلامية، وغيابِ الدولةِ الإسلامية .. فالتاريخ يشهد على انحدار الدولة الإسلامية من القوة، في زمن النبوة والخلافة الراشدة، إلى الضعف في الدولة العثمانية، مرورا بالدولة الأموية والعباسية .. لكن الدولة الإسلامية لم تغب في تلك المراحل التاريخية الإسلامية. وما الفرق؟ إنّ الدولة الإسلامية الضعيفة تبقى، رغم ما أصابها من ضعف، محتفظة بمقومات وجودها وحضورها من مثل: بقاء هيبة الإسلام وحاكميته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفاعليته، ومنهج الدعوة إلى الله، والتربية على الإسلام وقوته .. وتبقى ثقافة حدود الله، ومعرفة الحلال والحرام حاضرة بين الناس. لذلك تبقى لها هيبتُها، فلا صوت فيها أعلى من صوت الإسلام، ولا حكم يتقدم حكمه .. ولو وجد فيها غيرُ المسلمين، فإنّ تعاليم الإسلام تستوعبهم ولا تظلمهم .. وإن وجد فيها المخالفون الحاقدون فنشاطهم في الظلام والخفاء، وعلى منهج النفاق وأهله.

أما في حال غياب الدولة الإسلامية، وسقوط هيبتها، فيضعف صوت الإسلام في تلك المجتمعات. وتعلو عليه أصوات العلمانيين والملحدين، بل قد يغيب .. وتغيب معه أهم المقومات المذكورة في الفقرة السابقة، مع أنّ الدولة إسلاميةٌ في التصنيف العام، ونسبة المسلمين من سكانها قد تصل إلى تسعين بالمائة من مجموع السكان، وقد يكون في دستورها مادة (دين الدولة الإسلام)، ويؤدي رئيسها وحكومتها الصلاة في الأعياد والمناسبات الدينية. لكنها مسمىً بلا حقيقة، وجعجعةً بلا طِحْن، فهي غائبة .. ونماذج الصورة المذكورة، وهي غياب الدولة الإسلامية، ماثلة أمامنا مثل تركيا وسائر الدول العربية والإسلامية. فالدولة الإسلامية غائبةٌ حقيقةً، وهيبتُها ساقطةٌ واقعاً.

وباستطراد بسيط أحب أن أربط بين ما ذكر في الأسطر السابقة، وما أؤكده دوما في ما أقول وأكتب، من عدم جدوى، وبرأيي الخاص (عدم شرعية) مشاركة الإسلاميين في دولة إسلامية غائبة، وفق مفهوم الغيبة السابق..! ولا يفوتني أن أُذَكر بالحقيقة الكبرى، وهي أنّ الدولة الإسلامية تبقى غائبةً، ما بقيت الأمة غائبةً، ولا حضور للدولة، قبل حضور الأمة.

أرجع إلى السياق الأساسي لأقول: إنّ آية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) تُطبَّق وتُفعَّل في الدولة الإسلامية الحاضرة (عكس الغائبة)، وإن كانت ضعيفة، حيث هيبة الإسلام وحاكميته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفاعليته، ومنهج الدعوة إلى الله، والتربية على الإسلام وقوته .. وكل أولئك يحرض على تغيير الأنفس، ويعين عليه بل ويأطر عليه أطرا.

ومن خصائص الدولة الإسلامية الحاضرة، لحضور مقوماتها الشرعية، أن يُحمَّل فيها الناس ما لا يُحمَّل غيرهم في الدول الإسلامية الغائبة .. ويحضرني بعض الأمثلة .. لما خالف الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد عوقبت المجموعة كلها، والنبي عليه السلام بين ظهرانيهم. فقد كانت المعركة الوحيدة التي ناله فيها الأذى الجسدي، مع أنّ المخالفة صدرت من أفراد .. وفي صحيح البخاري وغيره (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ، وفي رواية قلوبكم مكان وجوهكم) فأي مسجد في بلاد الإسلام تطبق فيه هذه السنة بل هذا الواجب في الصلاة؟ وهل من بلاءٍ يبتلى به الناس، أكبر وأخطر من أن يخالف الله بين قلوبهم ووجوههم!؟ وفي البخاري وغيره،
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: (خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: (خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَة وَالْخَامِسَة)). أرأيتم جناية المتلاحيين، في حجب خيرٍ عن الأمة، وهو بلا شك بقدر الله ومشيته، ولعل الله يعوض الأمة، بعد أن تَعِيَ الحكمة، وتستوعب الدرس.

فالنصوص السابقة تؤكد أنّ المجموعة المسلمة، في ظل الدولة الإسلامية الحاضرة حضورا حقيقيا، تتكافل وتتضامن في تحمل المسؤوليات ولو كانت أخطاء أفراد. فالمسؤولية على الجماعة دوما، والكل مسؤولون عن العملية التربوية الدائبة التي لا تتوقف، وعن تطبيق شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما أمكن ذللك، ووفق الضوابط الشرعية لتلك الشعيرة، والقيام بأحكام الدين حق القيام، وهذا العمل الذي يقوم به المجتمع متكافلا متكاتفا، يضمن استقامة الجميع على منهج الله، وأن تغيب المخالفات والمجاهرة بها. ويحفظ للمجتمع صورته المشرقة. فهل من تكامل بعد هذا التكامل..؟

وعلى أساس من هذا الفهم والتوجيه تفسر الكلمة الرائعة لأبي سعيد الحسن البصري رحمه الله، والتي تستقي معانيها من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، للذين جاؤوا يستفتونه في الخروج على الحجاج (إعلم- عافاك الله- أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تُتَّقى وتُستَدْفَع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إن نقم الله متى لُقِيَتْ بالسيف كانت هي أقْطَعَ.
ويقول: إنكم من أنفسكم أوتيتُم. إنما نخاف إِن عُزلَ الحجاجُ أو مات أن تليكم القردة والخنازير).

فتلك كلمةُ حقٍ قالها، أبو سعيد، في دولة الإسلام الحاضرة، وحكومته القادرة، زمن التابعين الأول، وهي دستور التغيير الأوحد لذاك المجتمع. ولكل المجتمعات التي تكون فيها دولة الإسلام حاضرة، وإن ضعفت. ويستطيع القارئُ المدقق أن يلخص كلمة الحسن البصري، رحمه الله
، على مراد قائلها، قائلاً:(لو غيرتم أحوالكم بكل تغيير ممكنٍ غيرِ تغيير الأنفس فلن تنالوا
خيرا، بل يأتيكم
الأسوأ…) .. ولا يُعَدُّ مصيباً، للحيثيات المذكورة، من يرى الآية الكريمة دستورًا للتغيير، في مجتمعاتِ دولٍ إسلاميةٍ غائبةٍ، ذات هيبة ساقطة، فيها المسلمون وغيرهم، لكنْ يَحكُمُ فيها الكفر، أكثر من حكم الإسلام، ويعلو فيها كل صوت غير صوت الإسلام، وقد يكون في دستورها {دين الدولة الإسلام!} .. فلا بد من إسقاط سنن أخرى من سنن الله، على حال تلك المجتمعات .. وقد يكون العمل الأجدى، حينئذ، العمل على حضور الأمة الغائبة. وأريد قبل أن أختم الحديث أن أذكر بأن المجهض لكل عمل، والمضيع لكل جهد، والمستقطب لكل الشرور
غياب المنهج، واستعجال النتائج، والتفرق في الحق. (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله، في تفسير الآية: (أيْ: ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التمييز، حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.

ولم يكن في حكمته أيضا، أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل [الله] رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم. فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه) … والحمد لله رب العالمين