بلغ الهوان منتهاه .. ووصل الظلم أقصاه .. والعالم كله يرضى، بل يصنع ما نلقاه، ولم يعد لنا إلا الصراخ واغوطتاه..!
يا قوماه، حتى لا يكون أمرنا علينا غُمَّة،
ونحن لم نعد نملك إلا أن نجتر جراحنا، ونعلي صراخنا، ونستجدي خلاصنا، ولا مجيب..! إذن لا بد من تغيير..! وإمعاننا وإصرارنا على البقاء في ما نحن فيه، شرود، وتضييع، وتقصير .. فلنغير الوجهة، ولنستبدل
الهمّ، ولنبحث عن طريق .. ولأجل ذلك كله، رفعت عقيرتي بهذا النداء العاجل، لعلي أبريء الذمة، وأسدي النصح، وأقيم الحجة (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
أما تغيير الوجهة: فإلى الله وحده…
وأما استبدال الهمّ: فإلى تغيير الأنفس، بالدعوة والتربية، لاسترداد الأمة الغائبة…
وأما الطريق: فالاستمساك بمنهجٍ، (ما أنا عليه وأصحابي) منحاه، وبعث الأمة من جديد مبتغاه، وعدته وضابطه تقوى الله…
وأصيخوا للنداء العاجل أسماعكم. ومن يريد الحل العاجل لمآسينا فلا تنفعه صحبتنا، فسعينا للآجل وليس للعاجل، وبلغة السياسة فالتحركُ استراتيجياً وليس تكتيكياً .. وهذا النداء في حقيقته ورقة عمل لما ينبغي أن يكون، يريد التشمير الفوري عن سواعد الجد، لعمل مؤصل دؤوب، من أجل الوصول إلى الهدف المطلوب .. وما هو الهدف؟ هو بكل بساطة سماوي وأرضي؛ فأما السماويُّ فاللهُ والدارُ الآخرة. وأما الأرضيُ فبعثُ الأمة المسلمة من جديد، بإعادتها إلى الوحيين، اللذين كان البُعدُ عنهما سببَ غثائيتها وغيبوبتها، لتأتي من رحمها الدولة المسلمة، على منهاج النبوة، فيعيش المسلمون، وقتئذٍ في كنف أمةٍ، كما أراد الله لهم، أعِزَّةً، غُرَّةُ أهلِ الأرض، وتقوم بهم كلمة الله في الأرض.
وليكن واضحاً منذ البداية لمن ارتضى السير في هذا الطريق أنّ الله قادر على تحقيق كل تلك الأهداف، ومستغنٍ عن البشر جميعا، لكنّه شاء وله المشيئة وحده، وله على ذلك الحمد كله، أن يكون لبني آدم حظ ونصيب في ذلك، وهذا هو الابتلاء في الحياة الدنيا (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وعليه يترتب الثواب والعقاب في الآخرة، فلْنرِ الله من أنفسنا ما يرضيه عنا .. والنداء مجموع صرخات فإليكموها:
الأولى:
لقد عرفنا المنهج الحق ومرتكزاته، وقد آن الأوان لندخل مرحلة هامة في التدين، تلك التي قال الله تبارك وتعالى عنها: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ). ولقد اخترت هذه الآية لأنّ فيها لفظين ما يفتآن يطرقان سمعي، ويهزان وجداني، وهما (يَحْيَى، ويَهْلِكَ)، وبعض المفسرين مالوا إلى أنّ الحياة والهلاك في الآية كناية عن الكفر والإيمان. وذلك من قوارع الكلم التي تهز النفس البشرية هزاً، وما أحوجنا إليها في زماننا، وقد غشيتنا الصوارف عن الحق، وصار التعلق والاستمساك بغير حبل الله .. وما أروع، وما أبلغ أن تكون طاعة الله والاستجابة لما أمر ونهى حياةً، وأن يكون العصيان والإعراض موتاً وهلاكاً، يقول الشوكاني رحمه الله في تفسير الآية: (وقيل: الهلاك والحياة مستعار لِلْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، أَيْ: لِيَصْدُرَ إِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ عَنْ وُضُوحِ بَيِّنَةٍ، وَيَقِينٍ بِأَنَّهُ دِينُ الْحَقِّ وَيَصْدُرَ كُفْرُ مَنْ كَفَرَ عَنْ وُضُوحِ بَيِّنَةٍ، لَا عَنْ مُخَالَجَةِ شُبْهَةٍ).
ولهذا نظير آخر في كتاب الله في قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وما أروع تلك الأسطر التي شُرحت فيها الأية الكريمة في كتاب الظلال: (كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين. قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف، كانت قلوبهم مواتا. وكانت أرواحهم ظلاما. ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد. الإنسان المتحرر المستنير الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد! أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور. كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟ إنّهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض؟ (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)).
إذن لا بد الآن، من مراجعة فورية جادة مع النفس، ولا بد من عقد العزم، ولا بد من إخلاص النية، ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُنا عَلَينا غُمَّةً، استعدادا للانطلاقة الكبرى إلى الله، إلى دينه الحق، إلى مرضاته، إلى جناته .. وفي الوقت نفسه، فإنّ الله جل في علاه، سيصلح ببركة التوجه الخَيِّر أمر دنيانا البائس المتعثر بكسب أنفسنا.
ومن نافلة القول إنّنا بهذا التنادي، وهذا التواصي، وهذا المنهج المؤصل
المتميز (ما أنا عليه وأصحابي) لا ندعو إلى تنظيم حزبي، ولا إلى تكتل مشيخي، ذلك ما عرفناه سائدا في مجتمعات المسلمين قرابة قرن إلا قليلا، فما أقبحه، وأقبح به..! وهو الذي أزرى بواقع المسلمين، وأذهب ريح الأمة فصارت غثائية لا حضور، ولا فعل، ولا هيبة، ولا رهبة..! ما يقرب من قرن إلا قليلا، ساد في المسلمين هذا الضياع، فحُرف المسار عن أن يكون خالصاً لله، إلى أهداف أرضية مغلفة بشعارات دينية، فما كان الدين كله لله..!
وقد يستكبر بعضكم هذه العبارة مني، ويعتبرها اتهاما ظالما، وحكما متسرعا ومتجنيا. وأقول إنّي استعرتها ممن هو خير مني، وقالها في حق من هم خير منا جميعا: عَنْ نافع عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أتاه رَجُلَانِ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا مَا تَرَى وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَاتَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ. وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا عَذَّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ).
إنّنا نريد الله والدار الآخرة، وأصحابنا كل مسلم يريد ما نريد، ويرتضي المنهج الذي ارتضينا، ولا نفرق صف المسلمين تحت أي مسمى، أو دعوى، أو شعار. ولا سبيل لتحقيق ما ذكر إلا منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، الذي يكفي لالتفاف الناس حوله بلا نزاع، لأنّه اختيار النبي عليه الصلاة والسلام، وليس نتاج فكرٍ أو عقلٍ بشري.
وقد يقول قائل من بيننا أو من غيرنا: هذا رأيُك، ولك ذلك! ولكن أعطِ غيرك الفرصة التي أعطيت لنفسك. وأجيب بكل موضوعية وشفافية
وأقول:
إنّه اختيار النبي عليه الصلاة والسلام وليس اختياري، أو اختيار الشيخ الذي أحب، ولا الحزب أو الجماعة التي إليها أنتسب. أجل، إنّه اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لكل المسلمين، وأنا أدعو بدعوته، فهل بعد اختياره من خِيَرَة..؟ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
إنّه اختيار للناس كافة، ممن أرسل للناس كافة. وأقول لكل من يُؤَمِّل الخير في غير منهج (ما أنا عليه وأصحابي): (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا)..؟
الثانية: إنّنا، ونحن على مدارج انطلاقتنا الكبرى، في سباق مع الزمن، مع أنفسنا، مع أعمارنا، ومع كل شيء، قد يصرفنا عما نحن فيه، إلا واجبا أوجبه الله، فنضع كل أمر في نصابه. يقول نبيكم صلوات الله عليه وسلامه عليه: (التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْء إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ).
ولنحذر أيها الإخوة أن يكون المثبط لنا الهوى، أو شدّاً إلى الوراء كي لا يفارق أحدنا رفاق الأمس، أو الخشية من الإواء إلى كهف الغربة، والعيش مع الغرباء، وترك جموع الناس، والنبي عليه السلام يقول: (طوبى للغرباء) ..
كل تلك المثبطات من ورائها التعلق بالدنيا، وتورث يوم القيامة ندماً يصل بالإنسان إلى القول: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) أو يقول: (يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ).
أيّها الإخوة لنحمد الله أنّ زمام الأمر لا زال بأيدينا. وإن نعجب فعجب قول أحدهم وقد بُين له الحق مرارا، وحين سُئل عن قراره، قال: ما زلت أفكر ولم أتخذ قراري. وآخر يقول لقد منحت نفسي إجازة من العمل الإسلامي من أجل إعادة النظر وترتيب الأوراق من جديد. وهل ينتظر الزمن؟ وهل ينتظر الأجل؟ .. ويناسب المقام هنا أن أذكر بنصيحة كان الشيخ الألباني رحمه الله يرددها في جلساته، وهو يتحدث عن طريق الإصلاح الطويل مفادها: (ما كل من سار على هذا الطريق وصل الغاية، ولكن المهم أن يموت أحدنا على الطريق، وليس خارجه). ومن مات خارج الطريق، فقد خسر نفسه، وخسر كل شيء، فلنحذر.
وأختم هذه الصرخة بأن أوصيكم ونفسي بتدبر قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وأبسط ما يقال في تفسير الآية أن نسأل أنفسنا السؤال الآتي: إذا كان الإنسان لا يعرف لحظة موته، فما معنى (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟ والجواب: أنّ المعنى لا يستقيم إلا بالقول: إنّ الإنسان يجب أن يكون مسلماً حقاً في كل لحظة، والله أعلم.
ولا يفوتنا من أمر التدبر بهذه المناسبة قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). وأفضل ما قيل في تفسير (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) قول الشيخ السعدي رحمه الله: ({وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإنّ الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنّى شاء). وهذا المعنى متصل بالآية الأخرى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). وقال بعض المفسرين: (إنّ الحيلولة المذكورة، قد تكون بالموت)، وهو متوجه أيضاً.
الثالثة: إنّ العلم، والمقصود العلم الشرعي، هو الأصل الأصيل، والركن الركين في منهج (ما أنا عليه وأصحابي). فبه فقط يمكن أن يعرف المسلم ما كان عليه نبيه وأصحابه، ليقيم تدينه على ما كانوا عليه. ويحسن تماما أن نتذكر قول ربنا الذي هو أصل المنهج: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). فالآية قاطعة بأنّه ليس بمهتدٍ من لا يماثل تدينه تدين النبي وأصحابه، وهم المخاطبون في الآية، وكل ناكب عن هذا المنهج، هو في شقاق مع النبي وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والخطير والمخيف في الآية أنّ الله وعد نبيه بأنّه سيكفيه من لم يماثل تدينه تدين النبي وأصحابه، وهل يكفي الله نبيه إلا الأعداء..؟
وبعد هذا التسلسل، هل من منهجٍ حقٍ في الإسلام سوى (ما أنا عليه وأصحابي)..؟
ونعود إلى العلم، وأقول إنّ من أبرز خصائص منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أنّه نوعي، انتقائي، وتلازمه هذه الصفة.
. فالكثرة في الناس لا تغري أنّهم على حق…
. وكثرة الأقوال في مسألة لا يشي أنّها كلها على صواب…
. وكثرة العلماء والدعاة في الساحة، لا يعني أنّك بأيّهم اقتديت اهتديت…
. وكثرة الكتب في المكتبة لا يحتم قراءتها كلها، لأنّ فيها الغث وفيها السمين…
فصاحب المنهج يلتقط الدرر من كل شيء، وأبعد ما يكون عن حاطب ليل، فوقتك يا أخي ثمين محدود، فلا تضيعه بقراءةٍ لا تُفيد،
وسماعٍ لا يُغني، ومجالس لا تَهدي. ودين الله، والصواب فيه لا يرتبط بالأكثرية.
ومن الخطأ الذي نراه في كتب الفقه، ونسمعه من بعض المفتين الترجيح بعبارة (وهذا رأي الجمهور)، وكلمة الجمهور تعني ثلاثة من أربعة، بمعنى أنّه إذا اتفق ثلاثة من الأئمة الأربعة في مسألة يقال هذا ما عليه جمهور الفقهاء، وهذا لا يعني الصواب دائما. لأنّ الصواب في الدين يرتبط بموافة النص، وليس بعدد القائلين به. ولذلك لا يحتج بالكثرة في دين الله، لأنّ الله أبطل ذلك في قوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). وبذلك أسقط الله سلطان الأكثرية في الدين. وهذا ما فهمه ابن مسعود عندما قال: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
ويحسن أن نعزز هذا المبدأ باختيار النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الافتراق، حين جعل نسبة (الفرقة الناجية) إلى باقي الفرق، واحدة من ثلاث وسبعين فرقة، فتدبر..!
ومن شباب المسلمين من أكثر القراءة، والسماع، والحضور، دون اعتبارٍ للمنهج، فخرج حائرا بائرا، لا يدري مع من يقف! .. فاعرف يا عبد الله فضل الله عليك حين وفقك للعمل بالمنهج الذي اختاره لك، وأمرك به نبيك (ما أنا عليه وأصحابي)، فبالمنهج
تعرف الغث من السمين،
وبالمنهج تصفي كل شائبة تشوب الحق، بفعل المخلطين والمبطلين. وبالمنهج تفرز السنة عن البدعة، وما أكثر البدع في تدين الناس اليوم .. وأخيرا فبالمنهج تلقى الله، لحظة الامتحان الأخروي (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ). فتكون بإذن الله من الفائزين.
ولما كانت القاعدة المهمة في الدين (الحق لا يُعرف بالرجال، إنّما يعرف الرجال بالحق)، فبمراجعة بسيطة وفق القاعدة السابقة، مع استصحاب المنهج الحق، يمكن معرفة العالم الذي يتابع، وينتفع الإنسان بمتابعته، بعيدا عن إغراء الأسماء اللامعة المتداولة، وبخاصة على الشاشات. فأكثر الشاشات اليوم تُجمل القبيح، ولا تقدم الصحيح..! ولقد قامت الحجة علينا جميعا يوم صار أحدنا قادرا على استدعاء أي عالم إلى بيته، وبالصوت والصورة أحيانا، بل واستدعاء بعض الأموات منهم، بعد أن كانت تشد إليهم الرحال، وتثنى عندهم الركب .. والحمد لله أن جعل العلم مبذولا بلا كلفة ولا جهد. وأنت واجد بين يديك أي كتاب في طرفة عين دون أن تدفع قرشا، ودون أن تقوم من مقامك. وتحت يدك هذه الآلة السحرية (الكمبيوتر)، تختصر الوقت مع ضبط العمل، واللهُ سائلنا عن كل ذلك، وعما قدمنا لديننا وأخرانا .. فلنُعِدَّ الجواب. وأختم بتذكيركم بالحديث: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين). وما أوتيت الأمة إلا من هذه المواقع الثلاثة، فليكن كل منا عدلاً في زمانه ومكانه..!
الرابعة: الدعوة إلى الله نشاط يجب أن يلازم كل مسلم مكلف كما تلازمه نفسه، وليست الدعوة واجبَ شريحة معينة من المسلمين فقط، وإيجابها على كل مسلم بحديث: (بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً)، وحديث: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ). والتكليف في الدعوة على قدر الوسع: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). والنبي عليه السلام قال: (بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً)، ولم يقل بلغوا كل ما تسمعون.
ومن أبرز الواجبات الدعوية، شعيرة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد عدها بعض العلماء ركن الإسلام السادس. والله يقول: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ومن أكبر عوامل بُعد المسلمين عن دينهم، غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أسميت ذلك في بعض مجالسي: (المدرسة التعليمية الدائمة الحاضرة)، فهي مصدر تعليمي لا يتوقف ولا يغيب أبدا. ولكن وللأسف، لم تغب هذه الشعيرة من المجامع العامة فقط، بل غابت حتى من البيوت. فلا الرجل يأمر زوجته وينهاها، ولا هي تفعل، والحال مع الأولاد نفسه، إلا في ما يحتمه العرف والعادات الاجتماعية. وحل مكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احترام الحرية الشخصية، وتطبيق المثل (كل مين ذنبه على جنبه) (مالك وكيل آدم على ذريته).
وأسوأ من ذلك كله تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفهم خاطيء للآية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وقد صحح هذا الانحراف قديما أبو بكر رضي الله عنه: (قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: (إنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوَا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ – أَوْ قَالَ: الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ – عَمَّهُمُ الله بعقابه)).
وكنت ذات مرة في مناقشة مع أحد المولعين بالتنظيم الحزبي، فكان ينعى على المهتمين بالعلم الشرعي أنّهم تنقصهم (الحركية)، وهي مصطلح حزبي، وكان يقول إنّهم لا يجدونها إلا في التنظيم. فقلت له إنّ في الإسلام حركية لا تجدها في أي تنظيم، وهي واجبة على كل مسلم، إنّها الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، ليس يحدها زمان ولا مكان، تلازم المسلم ملازمة ظله، وتلوت عليه الحديث: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ).
وحديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجلية أحكامه، يطول ويطول، ولا يتسع له المقام الآن. لكنّي لا أود مغادرة الحديث عن هذه الشعيرة، دون أن أوصي نفسي وكل مسلم بالآتي: إنّ الأمر والنهي مرتبطان بالعلم الشرعي المؤصل، فمن لا يجد ذلك من نفسه، فصمته خير من كلامه، وليبق في دائرة التلقي، لقول أحد السلف: (من أمر ونهى بغير علم، فإفساده أكثر من إصلاحه).
ولا يَحمِلَنَّ أحداً، على الزهد بالدور الفردي في الدعوة إلى الله رؤيتُه الوسائل العصرية الفضائية والالكترونية وغيرها، فإنّ الإسلام انتشر بالدعوة الفردية، يقول عليه السلام: (تَسْمَعُونَ، ويُسْمَعُ مِنْكُمْ، ويُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ). لكن ذلك حدث وكأنّه المعجزة، يوم كان الناس يستشعرون المسؤولية التي حملهم الدين إياها، مهما كانت التكاليف. وإليكم هذا النموذج:
عن جابر بن عبد الله: (أنّه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيرا، فشددت إليه رحلي شهرا، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أنّ جابرا بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت نعم، فخرج فاعتنقني، قلت حديث بلغني لم أسمعه؛ خشيت أن أموت أو تموت، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد – أو الناس- عراة غرلا بهما)، قلت: ما بهما؟ قال: (ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد – أحسبه قال: كما يسمعه من قرب: أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة. ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة). قلت: وكيف؟ وإنّما نأتي الله عراة بهما؟ قال: (بالحسنات والسيئات)).
أيها الإخوة .. إنّ المسؤولية الملقاة على عواتقنا جسيمة وثقيلة، وكونها في زمن الغربة، فهي أثقل وأصعب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا (أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ). (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ..
إنّها مسؤولية بعث أمة غائبة غثائية، شردت عن منهج الوحيين، فألبسها الله لباس الذل والخوف والجوع، إنّه قدرنا، ولن يلتنا الله من أعمالنا شيئا.
الخامسة: المسلمون اليوم في أسوأ حال، وقد نال أعداؤهم منهم كل نيل، وما زالوا يخوضون معاركهم الخاسرة، ولم يحرزوا نصرا واحدا حقيقيا، إلا بالأماني والادعاء .. يخوضون معاركهم تحت أسماء وشعارات رنانة طنانه جوفاء، يريدون بها إرهاب عدوهم، ولما يدركوا بعد أنهم يعيشون بلا أمة تسيجهم وتحميهم وتجعل لهم ثقلا نوعيا بين أهل الأرض.
إن وجود الأمة له ظهوره الذي لا يخفى على أحد، فالأمة كتلة ووحدة وكيان، والأمة موقف مؤتلف، وقرار حازم، وفعل يسبق الأقوال. والأمة واحدة كذلك وصفها الله في كتابه (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً). فهل يعي أحد منكم، أو نقل له التاريخ الحديث، توفر الأوصاف السابقة في أي حراك في حياتنا المعاصرة. إنّ أجيالنا لا تعرف إلا التفرق والتناحر والاقتتال البيني،
والهوان على الناس، والهزائم .. وفشلنا إلى الآن، بل فشل نخبنا في تشخيص وتوصيف المشكلة، لا لصعوبة ذلك، ولكن لما يحتاجه ذلك من علم وحزم وعمل وتجرد، ولما يقتضيه من مفارقة أكثر الناس، ونبذ مجاملاتهم، وهذا ما لا يطيقه إلا الغرباء الصادقون. ورحم الله ابن القيم، فلقد عاش زماننا قبل أن نعيشه، وعرف الداء ووصف الدواء، ونحن لمّا نعرف بعد ماذا نريد..! يقول رحمه الله:
(فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله، وفهما في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال، وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه، فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داعٍ إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف).
أزمتنا؛ غياب أمة، ثم معرفة لمَ غابت الأمة؟ ونحن بحاجة إلى ثورة على الأنفس وعلى كل شيء يعيق حركتنا، ويبعدنا عن ضوابط منهج (ما أنا عليه وأصحابي).
ولا بد من حشد كل طاقة من أجل هدف بعث الأمة من جديد، ولا عمل ولا جهد يحشد لغير بعث الأمة من مرقدها، ولا يقدم على ذلك هدف، ولا يجدي ولا ينفع أي عمل إصلاحي جزئي في غياب الأمة، إلا عملا يتطلبه الهدف الكبير .. إنّ الحرص على تحقيق بعث الأمة هو في الحقيقة دفاع عن وجود المسلمين، في عالم استغل كل جهد إعلامي لبث كراهية الإسلام
في العالم، وقد نجحوا، لأنّنا بتفرقنا وذهاب ريحنا وشتات أمرنا، نبتت
بيننا الطفيليات، وسكتنا عنها جهلاً وخوفاً ونفاقاً، وصار من ليس على الإسلام يتحدث باسم الإسلام، ويفعل ما ينسبه إليه كذبا، ويعلن الحرب باسم الأمة وهي منه براء، ونحن ساكتون راضون، أو رافضون مستسلمون، والأكثرون يعيشون على هامش الحياة، وأقصى فعلنا الحوقلة.
إنّ الحرص على بعث الأمة يعني استرداد الحياة الكريمة التي غابت بل سلبت من المسلمين من مئات السنين..! إنّ الطريق لبعث الأمة يسيرٌ في الكلام؛ دعوة على بصيرة وتصفية وتربية. لكنّه في ميادين العمل ينتظر الرجال والمنهج والإخلاص .. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
إنّ غياب الأمة، غياب لأكبر أهداف المسلمين على هذه الأرض، ففي السياسة فإنّهم في مؤخرة الركب، لأنّه لا وزن لهم ولا قيمة. وفي الاقتصاد هم أسرى نظام اقتصاد عالمي لا يعرف الحلال والحرام، يحركه الجشع الرأسمالي، وقد استحوذ إلى حد مخيف وخطير، فبت تسمع من النخب مقولة (وهل يقوم اقتصاد بلا ربا؟)، وترصد انحرافا في الفتاوى الشرعية المالية، يطوف بها يلتقط الأقوال الشاذة والضعيفة، وإن غابت حُكَّم العقل. وفي الحياة العامة أسواق المسلمين ملآى بالبضائع من كل الأصناف، تلفها الشبهات من كل جانب، ونسكت عن ذلك لأنّنا لا نستطيع الاستغناء عنها، ولم يقدم لنا البديل..! عاملين بحكمة تمسك بها بعض المتفيهقين (لا تحرم وتمنع قبل أن توجد البديل). وهل أعطى الله البديل عن الخمر حين حرمها..؟ لكنّه أمر، وقال: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟
آن لنا أن نفهم أنّ العمل لبعث الأمة لا بد أن يبدأ برؤية واحدة، وحركة موحدة، مرصوصة الصف، واضحة ومعلنة الهدف .. إنّ حال المسلمين اليوم، في ما يخص استفراغ الوسع، واستنفاذ الطاقة، من أجل بعث الأمة يشبه حال المسلمين الأوائل في مكة، لم يؤذن لهم بعمل شيء غير بناء الأمة، وعدم تقديم شيء على هذا الهدف، أو فعلِ معيقٍ لتحقيقة، حتى القتال دفاعا لم يؤذن به، ولقد نزلت الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا). فالمرحلة المكية كلها، وكانت ثلاث عشرة سنة، استوعبها نشاط واحد هو بناء الأمة لا غير، ولنا في ذلك الأسوة.
ونحن ننغمس في تحقيق هذا المشروع بل الواجب العظيم، لا يجب أن نكون سلبيين أو متشنجين، تجاه أعمال إصلاحية في الأوطان، ولو لم يكن لها الصبغة الإسلامية، لأنّ الدولة الإسلامية لم تقم بعد، وهي لن تقوم إلا بعد قيام الأمة، ولن يقف الزمن بانتظار تحقق ذلك الهدف .. فلا بد للحياة أن تستمر في البلاد، فلنترك غيرنا يعمل، في غير الميدان الذي نعمل فيه، وهم لا يحسنونه، لكن لهم ميادين أخرى من مجالات النفع العام، والبناء الاقتصادي والاجتماعي، وحشد الطاقات للتطوير الدائم نحو الأحسن والأفضل، ولا مانع من قبول تلك الدوافع الوطنية، مادامت تريد تحقيق مصالح للناس، وترفض الفساد.
وتلك أعمال لا بد منها كروافد للعمل الكبير، من أجل الأمة. ويُترك أمر الحكم مرحليا لكل من يريدون، باختصار خدمة البلاد والعباد بإخلاص وصدق، ولا نطمع في أكثر من ذلك. ولنشجع كل عمل يجمع المخلصين والوطنيين، على الأقل، بسكوتنا، ولو لم يكونوا بالإسلام ملتزمين، لكنّهم للإصلاح مريدون. فهذه ليست دولة الإسلام..!
والحقبة التي نعيش مرحلة انتقالية، بين عهودِ انسلاخٍ من الإسلام، وعملٍ لقيام دولة الإسلام. وهي حقبة لها خصوصيتها، وحساسيتها، وحساباتها. فإرثها المخالف لتعاليم الإسلام كبير، وإلف الناس له كثير. ولا بد من الدقة المتناهية في التعاطي مع هذا الواقع، وإيجاد أدنى حالات التصالح المرحلي معه.
كفانا زيفاً وكذباً، نريد أن نصنع دولة الإسلام، كما نصنع اليوم البنوك الإسلامية، وبعض المؤسسات الإسلامية عن طريق تغيير اللافتات، وعناوين المطبوعات، نغالط أنفسنا ونخادع الناس..! ولا يزال من أكبر أسباب الفشل في حياتنا، خلطنا الأوراق بلا تبصر، وتحكيم العاطفية فيما لا يقبل حكمها، ولم يسلم من ذلك تديننا. فما أيسر الأسلمة عندنا، فهي كالعباءة تخلع وتلبس مرات ومرات، وفق مقتضى الأحوال.
وفي مشروعنا لبعث الأمة، لِنحذر أشد الحذر من السلبية مع الآخرين، فعلينا أن لا ننسى أولاً أنّنا لسنا وحدنا على الأرض، وأنّنا دعاة في كل ما نأتي ونذر، والدعاة أساة للناس. وعلينا أن نستوعب معظم من نتماسُّ معهم، وإنّ الوسط الذي نعيش فيه يحصي علينا أفعالنا، فلتكن لائقة.
وإذا كنا نعتزل الناس بالمنهج والعمل، فما أحسن أن نؤسس من جديد سمعة الإسلام الطيبة التي أضاعها أبناء الإسلام بفعالهم غير الصحيحة، وغير الإسلامية أحيانا، وطريقنا إلى ذلك المعاملة الطيبة مع كل الناس. فنحن ندخر لمشروعنا العظيم، بعثِ الأمة، أرصدةً من قبول الناس وتفاعلهم، حتى إذا اقتربنا من الهدف، فإما أن نجد أكثر الناس معنا، لأنّهم أدركوا من خلال حسن تعايشنا معهم أنّ مصالحهم تتحقق في دولة الإسلام..! أو أنّنا قد نفاجأ بانفضاض الناس عنا، ورفضهم ما نحن عليه، لأنّنا لم نؤسس مع الناس، كل الناس إلا من أبى، علاقة صحيحة، بسبب نظرة ضيقة، وفهم قاصر، ليسا من الإسلام في شيء.
إنّ المسلمين الذين فهموا وفقهوا دين الإسلام، هم الذين يعيشون بإسلامهم الصحيح مع كل أهل الأرض .. وإنّ نظرة الإسلام الواسعة التي يجب أن يعيها بناة دولة الإسلام، في مستقبل الأيام، وفي كنف أمة الإسلام تجسدها الآية الكريمة: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
ولقد عبث بدلالتها الجاهلون أو المغرضون، وما ذاك إلا حين وسد الأمر إلى غير أهله، وفُهم الإسلام على غير أصله. وكانت تربية ضالة مهلكة تلك التي ربت الأجيال على مقولة: (إنّ الإسلام انتشر بالسيف) بمفهوم خاطي، أي (وضع السيف في نحر إنسان، والمسلم يصرخ أسلم أو أقتلك). أي إساءة إلى الإسلام ذاك الفهم، بل أي افتراء عليه..؟
وأصحاب هذا الفهم عُلِّموا أنّ الآية السابقة منسوخة بآية السيف، وكان من أولئك مَنْ تكلم باسم الإسلام عقودا طويلة، وناب عن أهله الغائبين لغياب الأمة، في خطاب أهل الأرض..! فماذا كان؟ كان أن ولدت داعش..! والأصح أن نقول: لقد استولدها أعداء الإسلام لتكون ذريعتهم لحرب دين الإسلام، وأعانهم على ترويج باطلهم الجهال والغالون من المسلمين. وكم يرى الرائي، في بعض ديار الإسلام خطباء المنابر يوم الجمعة، يتوكؤون على السيف وهم يخطبون، إشارة إلى أنّ الإسلام انتشر بالسيف .. وقد رد ابن القيم في كتابه القيم (زاد المعاد) هذه الفرية. يقول رحمه الله في الزاد(1/182):
(وَكَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ يَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ السَّيْفَ عَلَى الْمِنْبَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا قَامَ بِالسَّيْفِ، وَهَذَا جَهْلٌ قَبِيحٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَكَّأَ عَلَى الْعَصَا وَعَلَى الْقَوْسِ.
الثَّانِي: أَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا قَامَ بِالْوَحْيِ، وَأَمَّا السَّيْفُ فَلِمَحْقِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، وَمَدِينَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ فِيهَا إِنَّمَا فُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ تُفْتَحْ بِالسَّيْفِ). انتهى كلام ابن القيم.
ولا يأتين آت، ضيق العطن ليقول: هذا كلام فيه تعطيل للجهاد. أقول: (شنشنة نعرفها من أخزم)، وهذه الفكرة أشبعت بحثا، ووضعت في نصابها، في موازنات رائعة، وتآليف باهرة، بين دور السيف وآيات مثل الآية السابقة، وآية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وغيرها من نصوص، ما يظهر عظمة دين الإسلام وجمالياته التي اعتدى عليها وطمسها الجاهلون والمتهوكون، ردحا من الزمن.
والجهاد ما كان في الإسلام إلا لحماية المستضعفين، ورد المعتدين، ومن يقفون في وجه وصول الخير إلى الخلق، معنويا كان أم ماديا. ومن جميل ما كتب في مفهوم الجهاد، ما قاله الشيخ علي الطنطاوي في أحد كتبه: (إنَّ الذين يحسبون الجهاد عدواناً مسلحاً، لا يدرون ما الجهاد، الجهاد ليس حرباً هجوميَّة نعتدي فيها على النَّاس، والإسلام إنَّما جاء لإقرار العدل وتحريم العدوان، وليس الجهاد حرباً دفاعيَّة بالمعنى العسكريِّ، فما احتلَّ الكفار مكة ولا المدينة، ولكن مَثَل الجهاد كقطر كبير أصابه القحط، فشحَّت الأقوات وعمَّ الجوع، وفشت الأمراض وقلَّ الدواء، فجاء مَنْ يحمل المدد إلى الجائعين، والدواء إلى المرضى لينقذهم مما هم فيه، فوقف في الطريق ناس يمنعونهم، يحولون بينهم وبين هذا الخير وهذا العمل الإنساني، فقالوا لهم: تعالوا شاركونا فيما نعمل تكونوا منَّا، ولكم ما لنا وعليكم ما علينا، فأبوا عليهم، فقالوا لهم: دعونا نمرّ ونحن ندافع عنكم، لا نكلِّفكم قتال عدو ولا بذل روح، على أن تمدونا بشيء من المال قليل. قالوا: لا. فلم يبقَ إلا أن يقاتلوهم، أن يقاتلوا هذه الفئة القليلة التي تمنع الخير عن النَّاس، يقاتلون أفراداً لينقذوا أمماً، وكان ذلك هو الجهاد).
وبعد هذا العرض، لا يفوتني القول، ولعله لا يكون لبعضكم مفاجأة، إنّ الزمن لا يشكل عنصراً رئيساً في مشروعنا العظيم لأنّ النتائج ليست بأيدينا بل عند الله .. وكم أحبط عمل وأجهض حين صار هاجس النتائج فيه عبئا على المنهج. على المسلم ضبط أمرين صحة المنهج، ودقة التزامه في العمل، فإن جاءت النتائج مرضية كان فضلا من الله ورضوانا، وإن كانت الأخرى، فلله الأمر من قبل ومن بعد، والأجر قد كتب عند الله غير منقوص. ولنقرأ خطاب ربنا لنبيه: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ). والحديث الشريف: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ).
وبعد، فقد طال النداء وطال، رغم أنّه كان عاجلا وما زال. وما حيلتي، فالنفس ملآى، وفيها كثيرٌ يُقال .. وما حرر لم يكن غير رؤوسِ موضوعات، وعناوينِ أفكارٍ وتوصيات فيها غنية وكفاية، لأهل العلم والدراية، ومن لديه لحمل الهمّ عناية .. وما البحث إلا في الدين والحياة وكشف الغمة، والدعوةِ والتصفيةِ والتربيةِ لاسترجاع الأمة .. وأرجو أن أكون وفقت في العبارة، فتحرك الساكن وحرك جاره، فالأمر جد جلل، ولا بد من النذارة، وما إخالني وفَّيْتُ، والحر تكفيه الإشارة … والله من وراء القصد