كثيرون هم المصطفون المنتظرون تلك اللحظة، ليحققوا ما يريدون .. وكثيرة هي البرامج و(الأجندات) التي أعدها أصحابها لتلك اللحظة وما بعدها. والمضمار واسع طويل، يغص بالمتسابقين، كل يتمنى أنْ يكون المصلي أو المجلي، أو يناله على الأقل، بعض من (الكعكة) حسب المثل الإنكليزي (نصف رغيف خير من لا خبز) .. وأحب أنْ أكون صريحاً أنّه لا يستحوذ على اهتمامي كل المتسابقين أو المصطفين على اختلاف تسمياتهم، وفيها براقة خداعة، ولا برامجهم مهما تنوعت .. لكن اهتمامي منصب على الفصيل الغائب من المضمار، وغيابه حق، الجالس بعيداً عن الضجيج يترقب، أخرج نفسه من المضمار لأنّ كل ما فيه لا يعنيه، بل همه واهتمامه مضماره الخاص بتأدية واجباته، وتحقيق التزاماته، وتنفيذ مشروعاته، شعار مضماره (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ). وإنّ برنامجه، بل منهجه، بل مشروعه الإسلامي الكبير المتكامل قد أُعد من فوق سبع سماوات، وهو يصدع بما أُمر، ولا يتوقف مادامت الحركة متاحة .. يرقب وينتظر، ينتظر مما يجري، هدفاً مغايراً للآخرين، لا يريد من (الكعكة) شيئاً..! إنّما يريد مناخاً جديداً يرفع الآصار والأغلال، ويضع حداً للحظر والحجر والمصادرة والمحاربة، التي عانى منها، إلى حد الإيذاء الجسدي، في كل مكان دون استثناء، وكل ذلك أعاق تحقيق الحلم، بل الواجب العظيم..!
إنّ الذي ينتظره هذا الفصيل، من تلك اللحظة المنتظرة، الحرية التي ستعطى للجميع، وهو منهم، ليتابع تنفيذ مشروعه الذي لم يتوقف، وإنْ كان تعثر بفعل خارج عنه، ذاك المشروع الذي له صفة الثبات، مهما كانت المستجدات والمتغيرات. لأنّ مهمته أنْ يغير الواقع لا أنْ يتغير به مسايرة له..! وأنْ يغير الأنفس لا أنْ يتغير لها ليواطيء أهواءها..! هذا الفصيل متميز لغربته، وغريب بتميزه، تلك الغربة وذاك التميز اللذان لا يكونان، حين ينتفش الباطل ويسود، إلا لمن دان الله تبارك وتعالى بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي). هؤلاء هم المرشحون لإقامة دولة الإسلام على منهج النبوة، إذا أذن الله، وليس المُخَلِّطين..! إنّها دولة لا يأتي بها انقلاب، ولا ثورة، ولا صناديق اقتراع، ولا سرقة مواقف، بل تأتي بها أمة ربيت على الوحيين المنزلين من فوق سبع سماوات، فلا تقدم بين يديهما ولا عليهما شيئاً من بضاعة الأرض .. ولنتذكر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى في مكة ثلاث عشرة سنة يُعِد بل يصنع تلك الأمة التي أقامت الدولة في المدينة، وكان مقامه بعد قيام الدولة أقل من مقامه لبناء الأمة في مكة. ولنتذكر أنّ تلك الأمة وتلك الدولة أرستا قواعد الإسلام في الأرض، وليس في جزيرة العرب وحسب.
إنّ أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) ليس كما يُظَن بهم أنّهم يشتغلون بتصحيح العقائد والعبادات، ومحاربة البدع وحسب، وليس لديهم أية رؤية عن عمارة الأرض، ومستقبل الإسلام، والتفاعل المنضبط بالدين مع أهل الأرض. كلا، إنّهم أصحاب المشاريع المؤصلة بعيدة النظر لأنّها تنظر بنور الوحي، وتتحرك بهدي المعصوم. كُفُوا مؤنة التنظير، وحُمِّلوا مهمة التنفيذ والتطبيق.
ومن الضروري إيضاح نقطة يجب أنْ يعرفها كل أحد، وهي أنّ اعتزال فصيل (ما أنا عليه وأصحابي) (للمصطفين) ليس موقفاً طارئاً، أو جديداً فرضته متغيرات على الأرض..! إنّه موقف مبدئي شرعي مؤصل، فمنذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورات الربيع العربي أو التسونامي العربي، التي قامت بأمر الله وإرادته وتحريكه فإنّ هذا الفصيل راهن على سقوط أنظمة الظلم والظلام والفساد على يد الثائرين المنتصرين بعد ظلمهم، ولم يراهن أبداً على مرحلة ما بعد السقوط، ولمن ستكون الغلبة، ومن سيمسك بزمام الأمور، لأنّه شأن سياسي معقد، لا تصلح فيه النظرة السطحية الساذجة العجلى..! ولا يمت إلى مشروعه الإسلامي بأدنى صلة، وإنْ كان حقيقة يتمنى أنْ يمسك دفة الحكم في أي بلد من يستطيع، بالأهلية والإخلاص، وأنْ يقود البلاد إلى الاستقرار والتقدم، إلى أنْ يقضي الله أمراً كان مفعولاً، بغض النظر عن المسميات والانتماءات .. وآخر من يرشحهم لذلك مُدَّعو الدولة الإسلامية، فأولئك أصحاب متاجرة بالشعارت..! فلا زال الانسجام في المواقف إذن، حليف ذلك الفصيل، ولله الحمد، لأنّه يصدر عن منهج علوي.
وأقول لأهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) عضوا على المنهج بالنواجذ، وازدادوا به تمسكاً وتطبيقاً، وثقة بأنّه الحق ولا حق سواه..! وقد أثبتت الأيام والأحداث والتجارب أنّ من فاته ذاك المنهج أفلس في الدنيا قبل الآخرة. ولا يغرنكم تقلب الناس في البلاد، متاع قليل .. فكم ظن الجهال وقصيرو النظر أنّ التمسك بالمنهج قد يفوت شيئاً من أمر الدنيا، فاتخذوه وراءهم ظهرياً، فلم ولن ينالوا خيراً.
إلى هؤلاء القوم، أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) سيكون كلامي الذي أجمله بالنقاط التالية:
أولاً: العلم…
إنّ طريقكم طويل، متعدد المراحل بعيد الأهداف، وخير عدة على هذا الطريق، بعد توفيق الله، والإيمان بما عنده لمن اتقاه وأطاعه، هو العلم الشرعي المؤصل .. إنّه العلم الذي يستهلك الوقت والعمر، وتثنى له الركب في مجالس العلم، أو خلف مقاعد البحث. وما كل من تشدق بكلام، أو سود صفحات، أو جمع حوله المئات كان صاحب علم..! فلا بد من إعداد الأنفس لتلك المهمة، بالعمل واطراح الأماني .. فالمعركة القادمة معركة بناء أمة من جديد، ليست معركة أسلحة تحشد، وجيوش تتحرك، ومناورات سياسية تحاك. إنّما هو جهاد بسلاح واحد أمر به ذو الجلال والإكرام (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) لقد حان وقت جهاد الدعوة، أو جهاد اللسان، كما يسميه بعض العلماء في مقابل جهاد السنان، ولا جهاد سواه الآن، ومن اشتغل بغيره الآن فقد عكس ترتيب المراحل والأولويات..!
وحين الحديث عن العلم والتعلم لا بد من أنْ نلتزم شعار التصفية قبل التربية، وأنْ نعمل به، ليكون العلم الذي نُحصله ونعمل به مؤصلاً، خالياً من الدخل والدخن. وعند الحديث عن التصفية والتربية لا ننسى الترحم على رائد هذا المنهج، الذي بذل له حياته، والآثار العلمية الباقية الموجودة، من بعده في كل أنحاء العالم الإسلامي، تشهد لذلك الجهد العظيم الذي حققه وحده، رغم خذلان قومه له، وبخاصة أهل العلم (المشايخ) .. وليته حظي بصمتهم وسلم من أذيتهم بمحاربته في كل نادٍ، وإيغار صدور الحكام عليه، فأعادوا معه قصة ابن تيمية رحمهما الله. فرحمة الله عليك، ثانية، يا أبا عبد الرحمن وجزاك الله عن الأمة خير الجزاء وأجزل لك المثوبة، فلقد قدمت للأمة، وحدك ما لم تقدمه المجامع العلمية..!
والتصفية هي ما يعبر عنه أحياناً بالتجديد. وليس التجديد للدين كما يفهمه أهل العصر وبخاصة علمانيو اليوم أهل المدرسة العقلية، التي تسحر أعين الجهال من الناس، وما أكثرهم، على أنّه ترك لبعض الأحكام بدعوى أنّها لا تناسب العصر بناءاً على فهم خاطيء لقاعدة (تغير الأحكام بتغير الأمكنة والأزمنة) وكم ضل أناس في فهمها..! وإحلال ما تفرزه عقول أهل الأرض محل ما أنزل الله تبارك وتعالى .. إنّ التجديد، ونُصر على الكلمة نفسها رغم تحريف مدلولها لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نطق بها في الحديث (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةٍ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) والتجديد الذي أراده نبي الأمة هو تنقية الدين مما سيعلق به من البدع، ومما سيدخله أهل الفرق من تأويلات باطلة، فالدين المنزل من الله تبارك وتعالى متوازن في كل شيء. فكما حدثنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن غربة الإسلام فإنّه حدثنا عن التجديد والمجددين، وبذلك تُدفع الغربة .. ولابن تيمية كلام جيد في المسألة، يقول في مجموع الفتاوى:
(وَكَذَلِكَ بَدَأَ {يعني الدين} غَرِيبًا وَلَمْ يَزَلْ يَقْوَى حَتَّى انْتَشَرَ. فَهَكَذَا يَتَغَرَّبُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ ثُمَّ يَظْهَرُ حَتَّى يُقِيمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُلِّيَ قَدْ تَغَرَّبَ كَثِيرٌ مِنْ الْإِسْلَامِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ . فَأَظْهَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ مَا كَانَ غَرِيبًا. وَفِي السُّنَنِ: {إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا}. وَالتَّجْدِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الدُّرُوسِ وَذَاكَ هُوَ غُرْبَةُ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ الْمُسْلِمَ أَنَّهُ لَا يَغْتَمُّ بِقِلَّةِ مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَضِيقُ صَدْرُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَ الْأَمْرُ حِينَ بَدَأَ. قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}.
وَقَدْ تَكُونُ الْغُرْبَةُ فِي بَعْضِ شَرَائِعِهِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ. فَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ شَرَائِعِهِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ لَا يَعْرِفُهُ مِنْهُمْ إلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ. وَمَعَ هَذَا فَطُوبَى لِمَنْ تَمَسَّكَ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَإِنَّ إظْهَارَهُ وَالْأَمْرَ بِهِ وَالْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ هُوَ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالْأَعْوَان).
أما أهل العصر من دعاة التجديد في الدين فيريدون التغيير والتحريف والتبديل. ولقد تعرضت أمة الإسلام منذ قرون إلى فتن كثيرة تستهدف عقيدتها، وأبرزها فتنة أسماها بعض العلماء (فتنة التبديل) وهذا من باب تسمية الأشياء بمسمياتها، وهو الإسم الحقيقي لتلك الفتنة وما تهدف إليه. ولقد ركب أهل الضلال مطية (التأويل) في كل انحرافاتهم واعترفوا بذلك لأنّهم أرادوا تغطية الانحراف في الدين بكلمة (التأويل) التي معناها التفسير، وبالتالي يقنعون البسطاء والسذج أنّهم في ما يذهبون إليه، من انحراف، لا يزالون يدورون في فلك النص، وإنّما يدورون باجتهادات مختلفة في الفهم، والحقيقة أنّ العملية عبثٌ بدلالات النصوص التي لا تقبل التأويل لإلغائها وترك العمل بها فاستحقت العملية اسم التبديل الذي يكشف النوايا والأهداف.
وفتنة التبديل أخطر فتنة ألقت بجرانها بين المسلمين، وإنْ كان خطرها المعاصر أدهى وأمر من ذي قبل .. فأهل الإسلام اليوم يرزحون تحت تأثيرها لتزايد الدعاة إليها مع نشاط الاعتزال الجديد (المدرسة العقلية) والتي يصلح تسميتها أيضاً (بالعلمانية الجديدة)، التي تزعم أنّها لا ترفض الدين ولا تحاربه وإنّما تسعى إلى تجديده، زعموا.
وإنّ جرثومة نشأة هذه الفتنة كانت وتكون حيث يوجد التعارض بين واقع الناس، وأهوائهم، وانحرافاتهم الفكرية والعقدية والسلوكية من جهة، ونصوص الوحيين من الجهة الأخرى. وبكلمات أخر أكثر صراحة، فإنّ فتنة التبديل مناورة على النصوص الشرعية تحللاً من إلزامها، وتهرباً من تطبيقها. ولإيضاح أدق فهي عصيان متلفع بكساء طاعة، يُسَوِّق نفسه عند بني البشر، ويوبق نفسه عند الله.
ولهذا الأسلوب رائد لم يكذب أهله، أهل الضلال، وهو أول مخلوق عصى الله بهذا الأسلوب، إنّه إبليس عليه اللعنة، يوم تهرب من طاعة الأمر بالسجود، محتجاً بالعقل والقياس (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). ويقول ابن حزم ما معناه: (إنّ أول معصية لله كانت من إبليس بالعقل والقياس).
ولم ولن يعدم أهل فتنة التبديل علماء يقرون أفعالهم، ويسوغون آراءهم بدعوى التيسير وخدمة الدين، والله حسيب الجميع.
ثانياً: التربية…
ولا أحب أنْ أخوض في التعريف المعجمي لهذه الكلمة، بل سأعرفها بما يفهمه كل أحد. إنّها تشكيل النفس، بكل جوانبها، وفق نظام ما. والتربية الإسلامية تشكيل نفس المسلم وفق منهج الوحيين. وهذا الكلام الموجز في الحديث عن التربية استفدته من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولا ينقضي عجبي من ذاك الإيجاز وتلك البلاغة يوم أجابت سائلها عن خلق رسول الله، فأوجزت الإجابة (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ). فعند المسلمين كتاب الله، وسنة نبيه عليه السلام، وليس لهم من مهمة إلا صياغة أنفسهم وأهليهم والناس جميعاً على ذاك النهج، نهج الوحيين .. وعن هذا الطريق ستتشكل أفراد الأمة المسلمة الموعودة، أو (أمة من الأمة) إنْ أذن الله، وهنا تبدأ المهمة الجماعية للأمة المسلمة ذات المنهج الواحد، لتكمل المشوار في بناء الدولة المسلمة والتصدي لتحقيق الأهداف وتذليل العوائق .. هذه هي التربية ببساطة ما بعدها بساطة.
ويثور في الذهن سؤال، من سيكون المربي في هذه العملية؟
ما أكثر من يقوم بهذه المهمة، وهي التربية، في المجتمع المسلم الحق..! أليس (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي غاب من حياة المسلمين منذ أمد ولا زال، حتى سلب الوالد سلطانه على أبنائه وبناته، بحجة حرية التفلت التي سوقها الأعداء وأعوانهم في بلاد المسلمين، ألا يُعد عملاً تربوياً بامتياز..؟ وإن افترضنا شخصاً لم يجد المربي لسبب ما، كالاغتراب مثلاً، فهل تتوقف العملية التربوية .. ألا يمكن أنْ يربي الإنسان نفسه طالما يفهم القرآن والسنة فيحمل نفسه على السير بمقتضاهما..؟ وتربية النفس من قبل ربها (صاحبها) أرقى وأفعل أنواع التربية .. وكم أخرجت بيئات منحلة ليس فيها للخير صوت شباباً تعاهدوا أنفسهم بتربية إسلامية وكانوا منارات .. ألا نفهم من قوله تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) والتي فسرها ابن عاشور بقوله: (أَيِ الْإِنْسَانُ بَصِيرٌ بِنَفْسِهِ. وَعُدِّي بِحَرْفِ عَلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ)..؟ أليس في هذه الآية إشارة إلى تحميل مسؤولية التربية إلى الفرد نفسه..! ولا أريد بهذا التفسير أنْ ألغي أدواراً كثيرة وهامة في التربية، كالوالدين وبعض المقربين، والمعلمين والمدرسين على اختلاف مراحلهم، والعلماء في مجالسهم العلمية، والخطباء في خطبهم، إنْ كانت (مخدومة وليست من حواضر البيت كما قال أحد الخطباء الدمشقيين) لكنّي أردت أنْ لا أعفي الفرد من كفل أعظم من مسؤولية تربية نفسه..!
وبمناسبة هذا الحديث أريد أنْ أحذر من تسلل فكر صوفي إلى بعض النفوس، فيشوش عليها أمر التربية. هذا الفكر يتمثل في عبارات (لولا المربي ما عرفت ربي) وقولهم (من لا شيخ له فشيخه الشيطان) وكل هذا من صنع أهل التصوف وبتوجيه أشياخهم ليبقوا يركبون ظهور مريديهم ويسوقونهم سوق البهائم لكسب ولائهم الدائم .. ومن كلامهم العجيب (من كان شيخَه كتابُه، كثر غلطُه وقل صوابُه) كل ذلك ليبقى الإنسان مربوطاً إلى شيخ لا يستطيع التفلت والانعتاق، وهو منهج الصوفية الباطل .. وكم من العلماء من تعهد نفسه بالعلم من بطون الكتب فخرج بعلم مؤصل، فاق به من تخرجوا على أيدي الأشياخ وانصبغوا بصبغتهم وولاءاتهم وتبعيتهم ولم يستطيعوا التحلل من ذلك. ولا أتردد، ولا أتحرج من ضرب المثل بالشيخ الألباني رحمه الله .. ولقد سمعت أذني مباشرة تعليقاً من الشيخ العثيمين رحمه الله في محاضرة جامعة له، سئل عن المقولة الأخيرة فأجاب قائلاً: (كانت تلك لغير زماننا، يوم كان الكتاب نادرا والمشايخ كثيرين، أما اليوم فالكتب مبذولة لكل أحد، والمشايخ نادرون، ولو وجدوا لكان من الصعب الوصول إليهم لكثرة مشاغلهم وعدم بذلهم وقتهم وعلمهم للناس).
النتيجة الرابحة في التربية، وبالمناسبة أريد أنْ أستطرد فأؤكد أنّ المعركة القادمة والجهد الرئيسي فيها دعوي تربوي. أعود فأقول: النتيجة الرابحة في التربية محصلة جهود كثيرة متضافرة وعلى كل أحد مسؤولية إنجاحها، وأذكر أنّ مهمة نبيكم عليه السلام كانت طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة دعوية تربوية، ليس غير. وأصر على كلمة ليست غير، وأقصد لم يكن يشوبها أي جانب قتالي أو تحرشي بالكفار، رغم ما ينزلونه من أذى بالمسلمين في مكة. ولقد نزلت آيات تُبَكِّت وتنعى على من أرادوا القتال موقفهم وهم، ولا شك، صحابة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
ويعلق الأستاذ محمد قطب في كتابه (كيف ندعو الناس) على تلك الحقبة فيقول: (من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين.
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرنا بقتالهم)).
لكل مرحلة إذن خصائصها، وما ينبغي فعله فيها خدمة للهدف الأعظم. ولا يدير الأمور إلا القادرون عليها، المستشرفون للواقع كله من حولهم بكل ما فيه، وقبل ذلك كله يستحضرون الحكم الشرعي والاتباع. وبلفظة النبي صلى الله عليه وسلم يلي الأمر الأكابر لقوله عليه السلام (البركة مع أكابركم)، لا أنْ يلي الأمور الكبرى كل أحد، ممن يحسن ومن لا يحسن فيصير أمر الأمة فرطا.
ثالثاً: الأخلاق والسلوك…
(فوصيتي لكل مسلم، على وجه الأرض، وبخاصة إخواننا الذين يشاركوننا الانتماء إلى الدعوة المباركة، دعوة الكتاب والسنة، على منهج السلف الصالح، أوصيهم ونفسي بتقوى الله تعالى أولا، ثم بالاستزادة من العلم النافع، كما قال الله تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله) وأن يقرنوا علمهم الصالح الذي هو عندنا جميعا لا يخرج عن كتاب وسنة على منهج السلف الصالح، والاستزادة منه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأن يقرنوه بالعمل بهذا العلم حتى لا يكون حجة عليهم إنّما يكون حجة لهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم أحذرهم من مشاركة كثيرين ممن خرجوا عن خط السلف بأمور كثيرة وكثيرة جدا يجمعها كلمة الخروج على المسلمين وعلى جماعتهم، وإنّما نأمرهم بأن يكونوا كما قال عليه الصلاة والسلام (وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله) وعلينا كما قلت في جلسة سابقة وأعيد ذلك مرة أخرى وفي الإعادة إفادة، علينا أن نترفق في دعوتنا مع المخالفين لها، وأن نكون مع قوله تعالى دائما وأبدا (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وأحق من يكون باستعمالنا معه هذه الحكمة هو من كان أشد خصومة لنا في مبدئنا وفي عقيدتنا حتى لا نجمع بين ثقل دعوة الحق التي امتن الله عز وجل بها علينا وبين ثقل أسلوب الدعوة إلى الله عز وجل فأرجو من إخواننا جميعا في كل بلاد الإسلام أن يتأدبوا بهذه الآداب الإسلامية ثم أن يبتغوا من وراء ذلك وجه الله عز وجل لا يريدون جزاء ولا شكورا ولعل في هذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين).
بدأت هذه الفقرة الثالثة بوصية قدمها الشيخ الألباني رحمه الله وهو على فراش المرض قبل موته بشهر أو يزيد قليلاً للأمة جمعاء بناء على طلب أحد العواد. ويُلاحظ أنّ الوصية تؤكد على أمرين أساسيين: العلم المؤصل على الوحيين وطلب الاستزادة منه، والسلوك والأخلاق والأسلوب الصحيح لمن يحمل ذاك العلم الشريف ويتحرك به .. ولا بد من أنْ نعترف أنّ بعض أصحاب المنهج السلفي يتساهلون في هذا الجانب المهم من أخلاقيات الدعوة، ويعطون بذلك الفرصة لمن ديدنهم بالأصل الرفض والإعراض والتهجم، أنْ يجدوا السبب والمبرر.
وكما اعترفنا بوجود هذا الخلل عند بعض الإخوة فإنّنا نعترف أنّ الطرف الآخر المنتقد يبالغ ويضخم وينشر ويعلن، وهم وإنْ كانوا متحاملين وليسوا ناصحين إلا أنّهم لم يصدروا عن فراغ، بل يجدون بين أيديهم مادة للتجني. وفي بعض أشرطة الشيخ الألباني كلام لطيف حول هذه الفكرة لما سأله أحد الحاضرين: (هل صحيح أنّ السلفيين عندهم غلظة في الدعوة؟) فأجاب رحمه الله: (أنا أعتقد أنّ لهذه التهمة أصلا، لكن يبالغ فيها. ولا نستطيع أن نبرأ أنفسنا من مثل هذا العيب، لكنّني أعتقد جازما أنّ خصوم الدعوة يبالغون في تصويرها، ولذلك أسباب بعضها من طبيعة الجماعة، فإن كان هناك جماعة من المسلمين عامة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فهي هذه الطائفة، فلذلك حين يلحون على بعض الأمور في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يصبح هذا الأمر بالنسبة للآخرين المتساهلين بالقيام بالواجب في تلك الأمور شدة وتطرفا).
فليكن نصب عين كل أحد أنّ الأسلوب الحسن لا يقل أهمية في خدمة الدعوة ونجاحها عن العلم المُبَلَّغ. وحينما أتكلم وأشدد على أمر الأسلوب والأخلاق لا يعني بحال القبول بالمجاملة على حساب الحق واعتبار ذلك من الحكمة والموعظة الحسنة..! أنا أستطيع أنْ أقول بملء فمي خطأ، انحراف، ابتداع و..و..و.. ولا أجامل .. لكنّني أعطي الانطباع للمقابل لي أنّني ناصح أحب له ما أحب لنفسي من الهداية .. وكنا تسوؤنا الممارسات السلبية غير اللائقة عند بعض من دعاة الكتاب والسنة، فإذا بنا تفجؤنا فواجع من الانحرافات المذهلة والتجاوزات الخطيرة للمنهج لدى من عرفوا فيما بعد (بالسلفيين الجهاديين التكفيريين) الذين استغلهم تنظيم القاعدة وأمدهم بآلة الخراب وزودهم بما يحتاجون لقتل الأبرياء. وكان ذلك أكبر تشويش على المنهج الحق .. وتلقف العالم الحاقد على الإسلام هذه المشكلة ليخلص منها بإعلان الحرب على الإسلام تحت شعار (الحرب على الإرهاب) وتواصى به أهل الأرض واجتمعوا، وتآزروا عليه وفيهم مسلمون..! ومما زاد الأمر ضغثاً على إبالة تباطؤ وأعتذر أنْ أقول (تقاعس) العلماء عن التصدي لتلك الظاهرة وسكوتهم طويلاً، عن تبرئة الإسلام وكل تعاليمه منها، والحكم على الظاهرة بأنّها خروج عن روح الإسلام وانحراف عن تعاليمه .. وكان أنْ سبق الحكامُ العلماءَ في ذلك، وتُصُدِّي لتلك الظاهرة بالأمن بدل العلم، مما زادها شراسة، وبغياً. وخرجت أطراف وجدت فرصتها لتلعب لعبتها المواتية لمصالحها في ذاك الجو الملتهب المضطرب. ويوم صحا العلماء من غفوتهم وخرجوا عن صمتهم كان الخرق قد اتسع على الراقع.
وقد يتساءل البعض ما سبب تباطؤ العلماء عن التدخل؟ أقول وجدوا أنفسهم بين كره لذم شباب كانوا بالأمس في مجالس العلم، وتهيب النيل من شخص أسامة بن لادن رحمه الله، وصحبه بوصفهم (مجاهدين)، وبين الرغبةِ في عدم السيرِ في هوى الحكام، المستهدفين بذاك الخروج .. وبين ذينك الحسابين ولد التفريط..! والضحية الأمة ودينها .. ولا زال خطر هذه الفئة قائماً، فما عسانا نقول في أولئك الذين قاموا بنبش قبور الأموات وتفجير المساجد في ليبيا التي لم تستقر أمورها السياسية والاجتماعية بعد، باسم السلفية .. وإنّي لا أدافع عن القبور والقبوريين، ولكنّي أنتقد وبشدة أسلوب المعالجة..! ولنقل الشيء نفسه في ما يفعله السلفيون في تونس، وستشهد مصر وغيرها من البلدان مثل تلك الممارسات لغياب الأخلاق والسلوك الدعوي عند من هم أولى الناس بذلك.
خواطر بعثها في النفس التفاؤل بالمستقبل الواعد، والتفاؤل من شيمة المسلم. والثقة بما عند الله فهو مع المظلوم على ظالمه ولن يكون مع الظالم أبداً لكنّه يمد له مداً حتى إذا أخذه لم يفلته .. والواقع يبشر أنّ الفرج قريب…
فالمستقبل ينتظرنا، والمشروع الإسلامي العظيم يدعونا، وجنة عرضها السماوات والأرض تنادينا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون … والحمد لله على نعمائه وتوفيقه