قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
الآية ركن ركين في تأسيس الحياة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي على ما يرضي الله تبارك وتعالى، ويكفل تعميق الالتزام بتعاليم الإسلام في حياة الناس، لتغدو عادات أصيلة، وأعرافاً سامية، تصطبغ بها الأجيال، مُنَشَّئَةً على هدي قويم، وخلق كريم، يسود بلا تكلفٍ وعناءٍ في العملية التربوية. ويحقق للمجموعة المسلمة أهلية قيامها بمهمة الاستخلاف على الأرض التي شاءها الله للبشر، لتصفوَ لهم دنياهم، وتسعدَ بالفوز أخراهم.
ولكن فهم الآية، وتطبيقها الصحيح، اعتراه تشويش عند كثير من الناس، قديماً وحديثاً. ولعل المحور الرئيس في هذا الموضوع، إزالة كل لبس في فهم وتطبيق الآية، لينتفع بها المسلمون.
وقبل البدء بذلك، نعرج في عجالة على تفسير مبسط للآية:
(علَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ): بِنَصْبِ أَنْفُسَكُمْ، على أنّ (عليكم) اسم فعل أمر، بمعنى الزموا، أو تعهدوا أَنْفُسَكُمْ، فتكون أنفسكم منصوبة باسم فعل الأمر. وتعهد النفس يكون بشيئين:
أولاً: بالعمل على اهتدائها بالوحيين باستمرار، لكي تتحقق النجاة، ولا نجاة إلا بالوحيين على سبيل الحصر، وهذا المعنى مأخوذ من قوله: (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، ويكون التأويل: ما دمتم اخترتم الهداية بما أنزل الله فتعاهدوا أنفسكم بذلك باستمرار، كي تسدوا عليها كل منافذ الباطل، من أي جهة أتى.
وثانياً: العمل على ألا تتأثر النفس بمن لم يسلك طريق الهداية، ويريد أن يجر غيره إلى الضلال، لتكثير سواد أهل الباطل. وقد أكد القرآن هذا المعنى في موضعين:
(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ). (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).
وفُسِّر ضررُ من لم يهتد على من اهتدى (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) بتفسيرين: إما أنّ من تعهد نفسه بالهداية فهو بمأمن من أن يتسلل إلى نفسه باطل من لم يهتد. أو أنّ من اهتدى وعمل بلوازم اهتدائه وهو الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلن يضره إعراض من أعرض عن الحق، ولا يعتبر مقصراً أو مسؤولاً، مادام ملتزماً الهداية في نفسه، داعياً إليها غيره. والنتائج بيد الله وحده .. وكلا المعنيين متوجه ولا تعارض.
ولقد تعرضت الآية المذكورة، كما أسلفنا، إلى نوعين من سوء الفهم؛ قديم حدث في الصدر الأول وفي زمن الصحابة تخصيصا، والثاني حديث في الزمن المعاصر.
فقد أشفق الناس على أنفسهم من ثقل التكليف، وهذا الإشفاق إما أن يكون من شدة الخوف من الله تبارك وتعالى، ومراقبة يوم الحساب، وهو حال أهل الزمن الأول أعني جيل الصحابة، وإما أن يكون رقة في الدين، وتقاعساً عن أداء الواجب الديني، وهو حال أهل العصر اليوم. كما أنّ عاملاً جديداً دخل في فهم الآية لدى أهل العصر، وهو فهمها وفق اللغة العامية الدارجة. ألا ترون أنّ العوام يقول واحدهم لصاحبه (عليك من نفسك) أو (عليك من بيتك) يعني لا تتدخل في شؤون غيرك..! فصار فهم الآية عند بعض الناس على هذه السلبية، والهروب من المسؤولية.
وكان لهذا الخلل في فهم الآية وإسقاطها، الصديق أبو بكر رضي الله عنه، يصحح فهم الصحابة، يوم فهموا من الآية أنّهم إذا اهتدوا في أنفسهم، سقط عنهم دعوة الآخرين وأمرهم ونهيهم، ولاسيما إذا كان الطرف المدعو أو المأمور والمنهي يبدي إعراضا، فقام فيهم خطيبا يُذكر، ويُصحح ويقول:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)).
ويجب أن تبقى كلمات الصديق رضي الله عنه ملء أسماع المسلمين في كل عصر، لينتفعوا بهذه الآية الكريمة، بعد فهمها على ما بين الصديق. فالذي بينه الصديق وأكده للأمة أنّ المسلم الذي مَنّ الله عليه بالهداية، وانتفع بما أنزل الله من الوحيين، تبقى في عنقه مسؤولية الجماعة من حوله، ولا تبرؤ ذمته إلا أن يكون فاعلاً في مجتمعه بدعوة أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، أو بالتصدي للظلم وأهله. فإنّ الله تبارك وتعالى أقام هذا الكون على العدل، ولا ينبغي لنزوات طائشة من بني البشر أن تدنس ذاك العدل: (قال الله تعالى: يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا).
وكانت لغير أبي بكر، من الصحابة، ردة فعل مماثلة للفهم الخاطيء لهذه الآية، كابن مسعود رضي الله عنه: (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قُرِئَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ (أَيِ النَّصِيحَةُ) وَلَكِنْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ). وَعَنْهُ أَيْضًا: (إِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤٌ وَنَفْسُهُ).
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ عن الآية: (إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي وَلَا لِأَصْحَابِي لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : (أَلَا لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ). فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودُ وَأَنْتُمُ الْغُيَّبُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَة لأقوام يجيؤون مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ).
فالنصوص المذكورة، وهي عن صحابة، تضع فهم الآية في نصابه، فَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْها أَنَّهَا رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي تَرْكِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِأَدِلَّةٍ طَفَحَتْ بِهَا نصوص الشَّرِيعَةُ، وكل ذلك المعنى تتضمنه الجملة الشرطية (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
ويؤكد هذا المعنى، وهو أنّ من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بمهتد، ما جاء في سورة العصر: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). وبعد أداء هذا الواجب، لا يضر الآمرَ ضلالُ من ضل.
وبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تناولته الآية بحث هام وطويل في العقيدة الإسلامية. ولقد اعتبره بعض علماء المسلمين ركن الإسلام السادس. ومن باب المذاكرة والتذكرة سنستعرض أهم مسائله باختصار:
المسالة الأولى:
إنّ كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أنّ من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله في جهنم يجر أمعاءه فيها. جاء في الحديث الصحيح: (يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِى النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ أَيْ فُلاَنُ، مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ).
ومن لطائف ما قرأت في تفسير أضواء البيان للأمين الشنقيطي رحمه الله قوله: (إنّ الذي يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، والذي يُؤمر ويُنهى فيعرض ولا يستجيب كل منهما حمار، أما الأول فدل عليه الحديث السابق، وأما الثاني فدل عليه القرآن الكريم في قول الله تبارك وتعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ)).
المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون عالماً بما يأمر وينهى. فالمعروف ما دل عليه الشرع والمنكر كذلك. فلو كان الآمر والناهي جاهلاً، لأمرَ بمنكر ونهى عن معروف..! والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قول ثقيل على الناس، لأنّه إخراج لهم من عاداتهم، واعتراض على سلوكياتهم، فإن لم تكن للأمر والنهي قوة يستمدها من النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل عليه، صار سبباً في إعراض المأمور، وصداً عن سبيل الله. وتتأكد أهمية هذه المسألة في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل، وصار فيه الحق منكراً، والمنكر معروفاً، والله تعالى يقول: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). والبصيرة هي العلم.
المسألة الثالثة:
لمّا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولاً ثقيلاً، كما ذكرنا فيما سبق، فمن شروط نجاحه، وإبراء ذمة فاعله، أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ومنتهى التلطف والرفق بالمأمورين. والله تبارك وتعالى يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، ويخاطب نبيه: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
كما أنّ الآمر والناهي يجب أن يتحلى بسعة الصدر والقدرة على التحمل لأنّ المهمة التي يضطلع بها يمكن أن تسبب له عنتا وأذى. ودليل ذلك نصيحة لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). وأثر عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقول: (ما ترك الحق لعمر صاحبا).
المسألة الرابعة:
أن لا يؤدي إنكار المنكر إلى ما هو أشد نكارة، وهذا أمر خطير تتجلى فيه حكمة الآمر والناهي. ولذلك أدلة أذكر منها اثنين:
. قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالأَرْضِ وَلأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ).
. وسار على هدي النبي صلى الله عليه وسلم هذا علماء منهم الإمام مالك رحمه الله، حيث نقل عنه أنّه قال للمنصور حين استفتاه بهدم الكعبة وإعادة تشييدها (يا أمير المؤمنين، لا تجعلها ألعوبة بيد الملوك..!). ويذكر ابن تيمية في بعض كتبه: (مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنّما حرم الله الخمر لأنّها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم). وكل ذلك من باب ارتكاب أهون الضررين، أو دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، وهو باب عظيم في الإسلام.
وتمشياً مع أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، كما ذكرنا، أحب التوسع قليلا فأضيف عنواناً جديداً وهو:
حِكَمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر…
استقراء لكل النصوص التي جاءت في شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستنتاجاً من الأهمية التي تحظى بها هذه الشعيرة، تحدث بعض العلماء عن الحِكَم الآتية:
أ. إقامة حجة الله على خلقه لأنّ الأمر والنهي يكونان بالأمر بما أمر الله ورسوله، والنهي عما نهى عنه الله ورسوله. وبالأمر والنهي يعرف الناس حدود ما أنزل الله.
ب.
في الأمر والنهي تعليم وتذكير مستمرين للناس بأحكام الدين التي تطمسها في عقول الناس الغفلة، ويبعدها عن سلوكهم النسيان، ويغيبها من حياتهم الجهل. وبخاصة أنّ الأمر والنهي قائمان في كل لحظة من حياة الناس، فيشكلان مدرسة عملية دائبة لا تتوقف. وقلت ذات مرة في مناقشة: إذا كان المتحمسون للتنظيم الحزبي الإسلامي يتحدثون عن (الحركية) التي لا يوجدها إلا التنظيم، فإنّ حركية الإسلام التي لا تتوقف، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..!
ج. بالأمر والنهي يبريء الآمر والناهي ذمته أمام الله تبارك وتعالى، وهي ولا شك مسؤولية شرعية عظيمة. (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ). وخاطب الله تبارك وتعالى نبيه قائلاً: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ) أي قد أبرأت ذمتك رغم عدم استجابة المخاطبين.
د. إيجاد فرصة للاستجابة والانتفاع أمام المأمور والمنهي، بتكثير فرص التذكير. يقول الله تبارك وتعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين) ويقول: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
ه. لقد حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منزلة عظيمة لحالة من حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تجعل فاعلها سيدا للشهداء كحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، يقول الرسول عليه السلام: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله). ولا بُد من وقفة مع هذا الحديث لأهميته، وبخاصة في أيامنا الحاضرة، وأحداثها المصيرية، والطروحات المنحرفة في فهم الإسلام (داعش وأضرابها)، وضرورة توجيه المسلم أن يتعامل مع ذلك بتأصيل شرعي. ولهذا الحديث نظائر يحسن استحضارها لتتكامل الصورة، ويستقيم التأصيل.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر). وفي رواية: (كلمة حق).
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أنّ رجلاً سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغرز: أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر).
وأحب قبل الكلام في الأحاديث المذكورة أن أُذكر وأؤكد على قاعدتين أساسيتين في مثل هذه الأبحاث:
أولاهما:
أنّه لا يجوز إطلاق حكم شرعي إلا بعد استقصاء كل النصوص المتعلقة بالموضوع.
والثانية:
الجمع بين الأدلة التي تبدو لبعض طلبة العلم، بل لبعض العلماء متعارضة، وهذا فن قل من يحسنه، فتكون النتيجة ضرب النصوص بعضها ببعض، أو إهدار بعضها وإسقاطه، وهذه إحدى الكبر.
وأعلق على الأحاديث الثلاثة الماضية، وهي تجري من واد واحد بما يأتي:
أ. من العلماء من قيد العمل بتلك الأحاديث بحديث: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق) فقال بعضهم: إذا غلب على ظن الرجل أنّ الحاكم سيبطش به إن أمره ونهاه فلا يفعل. وهذا مذهب قوي ومتوجه في المسألة. ومنهم من قال: إنّ الحديث على إطلاقه دون قيد، وحجتهم أنّ الرسول عليه السلام لم يعط تلك المنزلة، وهي الشهادة، لمن يأمر الحاكم وينهاه إلا لبذله نفسه لذاك الهدف، ولتكون هذه الأحاديث حافزا لظهور حالات في الأمة، تؤكد رقابة الرعية على الراعي.
ب. إنّ هذه الأحاديث لا تتحمل جدلاً طويلاً، يورث خلافات بين المسلمين لأنّها أصلا ليست على الوجوب، وإنّما هي للندب، وهي فرصة يعرضها النبي صلى الله عليه وسلم لمن يجد نفسه أهلا لها. ومادام الاختلاف فيها لا يفضي إلى ترك واجب شرعي فالأمر أهون من الأخذ والرد.
ج. أحب أن ألفت الانتباه إلى أنّ الأحاديث الثلاثة المذكورة تندب إلى عمل فردي، وهو مرة أخرى ليس واجباً شرعياً، ولا يجوز أن يصبح ثقافة تربى عليه كل ناشئة الأمة فيفضي إلى التطرف، وهذا هو الخطأ الفادح الذي ارتكبته تنظيمات الإسلام السياسي. وهو الذي أفضى إلى ظهور انحرافات القاعدة والنصرة وداعش (والحبل على الجرَّار كما يقول العوام)، ما لم يقم التصدي العلمي المؤصل، في وجه تلك الانحرافات. وللتأكيد على ما أقول، وبالأخص فردية تلك المبادرة، وطوعيتها، أسوق الحديث الآتي: عن أبي سعيد الخدري قال: (أخرج مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان، خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد الخدري: من هذا؟ قالوا: فلان ابن فلان، فقال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). ونلاحظ أنّ الذي أنكر على الأمير رجل تابعي غير معروف، ندب نفسه للانكار على الأمير، والذي أثنى على فعلته الصحابي أبو سعيد الخدري، وكان شاهدا، ولم يفعل، لأنّ الأمر اختيار، وليس بواجب، بحسب الظروف التي تحف به.
د. لا بُد من أن نلاحظ أنّ الأحاديث المذكورة تحض على أمر الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر، وهذا مختلف تماماً عن الخروج على الحاكم بالسلاح، وهو منهي عنه وله ضوابطه، فلا تُدخل مسألة في أخرى، وتكون النتيجة إراقة الدماء بغير حق.
ه. أريد أن أعقد مقارنة بين حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي ذُكر في شرح الآية: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ) والأحاديث الثلاثة المتقدمة، فانظروا، بارك الله فيكم:
أنّ التكليف هنا، في حديث أبي بكر، جماعي، يخاطب الناس، ويتوعدهم بعقاب إن لم يفعلوا، وبالتالي ففي الحديث تكليف بوجوب الأخذ على يد الظالم، حاكماً كان أم غير حاكم، وليس مجرد حض على أمره ونهيه، كما في الأحاديث الثلاثة. وانتبهوا إلى أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم جعل مسألة الأخذ على يد الظالم، مسألة منفصلة عن الأمر بتغيير المنكر، وإن كانت متضمنة لذلك، ولكنّ المراد والله أعلم، إعطاء مسألة الأخذ على يد الظالم أهمية خاصة..!
وهذا الحديث ألصق تلك النصوص بما يجري الآن في سوريا. وهل الذي يجري إلا أخذا على يد الظالم من قبل المظلومين..؟ وأضع خطوطا تحت حكم الوجوب، المأخوذِ من التوعد بأن يعم الناس عقاب من الله إن لم يفعلوا..! وفي صحيح مسلم وغيره من دواوين السنة حديث جامع يبين بوضوح موقف الناس الشرعي إزاء إمام جائر يحكمهم، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ). قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ: (لاَ مَا صَلَّوْا)).
ولقد حدد الحديث أحوالاً ثلاثة في مواجهة ظلم الحاكم:
1. القدرة على نصح الحاكم وأمره ونهيه، مع السلامة من بطشه. وفاعل ذلك مجاهد أبرأ ذمته، وسلم من الإثم وهي أمثل الحالات، (وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ).
2. أن لا يَقدر المسلم على نصح السلطان الجائر وأمره ونهيه لبطشه، والخشية من حدوث ما هو أنكر، لكنّه يكره ذلك ولا يرتضيه، فيتعين هنا الانكار القلبي، الذي يخرجه من إثم الموافقة والرضا، (فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ).
3. الرضا بجور السلطان وعدم الإنكار حتى بالقلب، ومن هذا حاله فهو شريك للحاكم الظالم في الإثم، وأي إثم أعظم من الظلم للعباد..؟ ويقول النووي رحمه في تلخيص معنى الحديث: (وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ لَا يأثم بمجرد السكوت بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِالْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ).
وقد سكت الحديث عن حالة بطش السلطان بمن قام يأمره وينهاه، لأنّ تلك الحالة تصل بصاحبها إلى الشهادة فأفردت لها أحاديث خاصة مرت معنا.
بقي إيضاح ضروري، فقد يخطر في بال أحد أن يقول الآتي: ما دمت ذكرت في شرح الأحاديث الثلاثة التي تحض على أمر الحاكم ونهيه، أنّها لا توجب ذلك بل تندب إليه، فلِمَ ندعو الناس اليوم إلى الثورة والتعرض للقتل والأمر واسع..؟ فأجيب بأنّ هناك فرقاً كبيراً، واقعياً وعقلياً وشرعياً، بين من يقوم إلى حاكم جائر ليأمره وينهاه، ليس من أجل حظ نفسه، فقد يكون غير متضرر، ولكن من أجل الأمة، وإقامة الحق، والصدع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سعة من دينه، فله أن يختار الإنكار القلبي، فيجلس في بيته ويسلم وتبرأ ذمته، وبين مظلومين خرجوا ينتصرون من بعد ظلمهم، فأولئك ما عليهم من سبيل. وتحركهم أصلا باختيارهم من أجل أنفسهم، وليس لأحد تحت أي تعليل أن يمنعهم من ذلك الحق بعد إذن الله لهم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)، وحض نبيهم صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك الفعل، ومناهم بالشهادة، تشجيعاً، في قوله: (ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد).
تفصيل وتأصيل، لخطاب رباني، وجدت في تناوله مقاربة للأحداث المصيرية التي يمر بها الوطن، بل الأمة جمعاء. وكما قلت هي مقاربة وليست دخولا في العمق، الذي أتركه لكم، ولعلي وفقت..! والحمد لله على فضله وتوفيقه…