Skip to main content

كلماتٌ معدودةٌ في مسألةٍ مكدودةٍ

By الجمعة 2 رمضان 1436هـ 19-6-2015ممحرم 21, 1441مقالات

المقصود (بالمسألة المكدودة): (صلاة التراويح) … ومعنى المكدود، في قواميس اللغة، المُتْعب والمُجْهد. واستعرت هذا الوصف، تعبيراً عن أنّ مسألة صلاة التراويح، قد أشبعت، بل أنهكت بحثاً، على مر قرون .. وكلما جاء رمضان تجددت فيها المعارك والمناظرات، ومع ذلك فلما تقرَّ على قرار بعد..! ولو طرح علي السؤال، لماذا؟ لقلت: المذهبية والمجاملة. أما التمذهب ومعه التعصب، فيورث صاحبه التقليد الأعمى وإغماض العينين، وصم الأذنين عن كل مناقشة بل دراسة تخالف المذهب .. وأما المجاملة، فمجاملة المخالفين المبتدعين وتبرير مخالفاتهم، بدعوى كون الصلاة سنة، فالخلاف فيها يسير بل عندهم مقبول، بل واجب، صيانةً وحفاظاً على وحدة المسلمين، زعموا. وقد بُثت في المسلمين قواعد، تعتبر من أعمدة الحكمة..! مثل (مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب) ، و(نتعاون في ما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه). وكان من شأن هذا التوجه والتوجيه، تضييع أعظم أصل في الدين وهو الاتباع .. وأيا كان قائل العبارتين، فما دام ليس رسول الله المعصوم عليه السلام فإنهما تقبلان النقد بل والرد، فلو سلم منهما المسلمون لكان خيراً وأحسن تأويلاً.

إني أمقت (إمساك العصا) من الوسط، كما يقال، أو ما يعبر عنه (بحكومة الضب)، ولهذا العنوان قصة طريفة معبرة من (قصص العرب)، فليراجعها من شاء. إنّ (إمساك العصا من الوسط) أو (حكومة الضب)، أسلوب حكيم جداً، ولكن في باب السياسة، وقد يأتي بنتائج طيبة .. أما في الدين فتضييع للحق، وتمييع للمواقف.


ومناسبة ذلك عند الحديث عن صلاة التراويح، أنّ بعض المتشدقين لا يطيلون الوقوف معها، ويكتفون بالقول: إنها سنة، والأمر فيها واسع، والأولى الاشتغال بما هو أجدى .. وكان الأحرى بأصحاب هذا القول، أنْ ينظروا للموضوع من زاوية أخرى، وهي أنّ الأمر دين، والاتباع فيه، هو الأصل الأصيل، والركن الركين … ولهذا الاعتبار عزمت على الكتابة. وأؤكد ابتداءاً، أني لا أريد أنْ أعيدها جذعاً، فلا تنتهي المناقشات فيها إلى نتيجة، لسبب ذكرته قبل قليل، ولكني أكتب من باب (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)، وإبراءاً للذمة، والمناسبة قد حضرت. وانسجاماً مع ما ذكر سيكون الموضوع على شكل تعداد نقاط، والاختصار قدر الإمكان، مع كفاية البيان، لتكون كلمات معدودة .. ولمّا وصلت إلى هذه النقطة في الكتابة، أتتني رسالة إلكترونية تحمل إلي، آخر ما صدر عن المكتب العلمي، (لهيئة الشام الإسلامية)، حول صلاة التراويح، والحمد لله، أنه أحدثُ وأوضحُ شاهدٍ على ما ذكرت قبل سطور من (تضييع أعظم أصل في الدين، وهو الاتباع)، ولا أجد ما أقول، إلا أنهم، هداهم الله، (اعتقدوا ثم استدلوا)، والقاعدة الذهبية لصلاح أمر الدين (استدل ثم اعتقد). ولا أعجب، فإنّ بدعة (الإسلام السياسي) قد أفرزت، من يفتي في الدين بقواعد السياسة (ومسح اللحى)..! وإلى نقاط البحث …


أولاً:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
:
(أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة). رواه البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث.

هذا الحديث يشكل أعلى وأقوى مراتب الاستدلال في الدين، لأسباب، نوجزها في الأتي:

1. أخرجه الشيخان، البخارى ومسلم، وناهيك بهما .. ومعهما مالك، وثلاثة من أصحاب السنن. فقد تجاوز في الصحة القنطرة.

2. راويته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من هي فقهاً وعلماً، ويكفي أنها كانت مرجعاً معتمداً للصحابة، يسألونها عما استشكلوه. وهي أعلم الخلق بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتية، وصلاة الليل منها. ولذلك قُدمت روايتها على رواية الصحابي ابن عباس رضي الله عنهما في الثلاث عشر ركعة، مع أنها في الصحيحين أيضاً.

3. استعملت فيها رضي الله عنها أقوى أساليب النفي في اللغة العربية وهو، الكون المنفي (ما كان، ما يكون، لم يكن). وفيه زيادةً على قوة النفي، معنى أنْ المنفيَّ لا يليق بالمنفيِّ عنه. وهذا الأسلوب كثير في كتاب الله (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ) ، (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)، وقد يؤكد هذا التركيب أحياناً باللام، وتسمى (لام الجحود {النفي})، تدخل على الفعل المضارع فتنصبه، ومثاله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا).

4. وأم المؤمنين رضي الله عنها لم تَنْفِ في الحديث علمها أو رؤيتها، كما يشوش بعضهم .. إنما نفت الفعل منه عليه السلام: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره). يؤكد ذلك أنّ روايتها بنفي الزيادة لم تعارَض من أحد من باقي أمهات المؤمنين، لأنهن رضي الله عنهن رأين من فعله في رمضان، ولا شك، ما رأت عائشة رضي الله عنها. كذلك فإنها لم تعارض من أحد من الصحابة عليهم رضوان الله.

ثانياً: إنّ مٌتَعَلَّق القائلين بالزيادة، نسبةُ ذلك إلى بعض الصحابة، وعمر رضي الله عنه تحديداً. ولم تصح نسبة الزيادة سنداً، لا لعمر ولا لغيره من الصحابة، وهذا لا يعرفه ولا يفهمه إلا المشتغلون بعلم الحديث .. وتَنَزُّلاً مع الخصم نقول: إذا صح ذلك عن عمر أو غيره، فالاتباع في الدين لمن يكون للنبي أم للصحابي..؟ وأذكر من يجهلون هذا الأمر بقاعدة رائعة قعدها ابن عمر رضي الله عنهما لعلهم يتعلمون منه قبل أنْ يُفتوا..! في سنن الترمذي: (أن سالم بن عبد الله حدثه أنه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال عبد الله بن عمر هي حلال فقال الشامي إن أباك قد نهى عنها فقال عبد الله بن عمر أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولنتعلم من ابن عباس رضي الله عنهما كيف نتبع أيضاً، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد قال: (جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني وصاحب لي كنا في سفر فكنت أتم وكان صاحبي يقصر فقال له ابن عباس: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك الذي كان يتم {لأنه كان متبعا نبيه}).

ومن العجيب أنْ يصدر عن جهات تدعي العلم الشرعي، مثل من سموا أنفسهم (رابطة علماء الشام) كلام لا يقبله أطفال المسلمين من مثل باقعة: (إنّ أئمة الإسلام من الفقهاء والمحدثين والمفسرين أطبقوا على العشرين وما فوقها).

نقول: ولو أطبق أهل الأرض جميعاً، فنحن نعمل بهدي محمد صلى الله عليه وسلم وهو خير من أهل الأرض جميعا ومثلهم معهم.

وباقعة: (إن الحرمين الشريفين لم يعرفا إلا العشرين من أكثر من ألف سنة، وحتى يومنا هذا).

ونقول ثانية: هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين، في أنّ شرائع الإسلام مصدرها الحرمان..؟ لكنني أعيد ما قلته قبلاً، هذا من عجائب أهل السياسة حين يتكلمون في الدين، ويظنون المسائل تنتهي (بمسح اللحى)..!


ثالثاً: مع كل ما سبق، يحتج أنصار الزيادة بأنّ التراويح نفل مطلق والزيادة فيها مباحة، ونقول لهم إنها: نفلٌ مقيدٌ بهدي محمد، الذي لم يزد فيها ولو مرة واحدة. شأنها شأن صلاة الكسوف والاستسقاء وكل الرواتب.

ومن كلامهم الباطل، إنّ النبي عليه السلام صلاها فعلاً بعدد محدد لم يزد عليه، ولكن ائتونا بنص نبوي يمنع من الزيادة، نرد عليهم السؤال فنقول: ائتونا بنصٍ نبويٍ يمنع الزيادة في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء وباقي الرواتب والنوافل..؟! وقد فاتهم، وليس بمستغرب، أنّ العبادات مبناها على الحظر .. فالزموا الحق، واتقوا الله.

ومن الأعاجيب والألاعيب، تحريف الكلم عن مواضعه ليواطيء الابتداع، ولنقرأ الحديث الآتي:

عن أبي ذر، قال: (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان فلم يقم في شيء من الشهر حتى كانت ليلة سابعة بقيت فقام بنا إلى نحو من ثلث الليل، ثم لم يقم بنا ليلة سادسة بقيت، فلما كانت ليلة خامسة بقيت قام بنا إلى نحو من شطر الليل، فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: (إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)). الصحابة يطلبون الزيادة عن المسنون صراحة من رسول الله، لشدة تفاعلهم مع تلك الصلاة، ونسيان أنفسهم وأهليهم..! فهل أجابهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما طلبوا؟ لا، وإنما أرشدهم أنّ العبرة ليست بالكم، وإحياء الليل كاملاً، وإنما يغني عن ذلك، حسن الاتباع في موافقة الهدي. وأي هدي..؟ ليس هدي أي إمام، أو إمام جاهلٍ مبتدعٍ. إنما الإمام الذي يصلي بالناس بهدي نبيهم. فَأَلْ التعريف في لفظة الإمام في الحديث، هي أل العهد وليس ألْ الجنس أو الاستغراق .. واقرؤوا هذا التحريف في فتاوى (هيئة الشام الإسلامية) يقولون في آخر ما صدر عنهم: (فقد أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أبا ذر رضي الله عنه على طلب الزّيادة في الركعات، (أين هذا الإقرار في الحديث ، أم هو تقول على رسول الله في عقل {المفتي}) ولم يضع لها حدّاَ، ولو كانت الزيادةُ على ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم غيرَ جائزةٍ لنهاه عنها، وبيّن له عدمَ جوازِ ذلك. (أين وجدت، أيها المفتي، الإشارة إلى فعل هذه الزيادة التي لم ينه عنها رسول الله..؟)). ما لكم كيف تحكمون .. بل كيف تفهمون .. بل كيف تفتون..؟


رابعاً: من الاستشهاد غير الموفق، لأنّ فيه لَيَّاً لأعناق النصوص. استشهادهم بحديث (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) على أنه نص في إطلاق العدد..! وهو مرة أخرى دليل على الخطأ لاتباعهم قاعدة (اعتقد ثم استدل). ففي هذا الحديث يبين الرسول عليه السلام كيفية صلاة الليل وليس العدد، بدليل أنّ أكثر روايات الحديث وهو من رواية ابن عمر في مسلم، جاءت (أن رجلا سأل النبي كيف صلاة الليل..؟) فالسؤال بكيف وجاء الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيف .. ويؤيد ذلك ما جاء في مسلم (فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: أن تسلم في كل ركعتين). وابن عمر هو راوي الحديث طبعاً، وتأويله لما روى مقدم على غيره، وهي قاعدة معروفة. ومعلوم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت عنه روايات صحيحة في صلاة الليل، يصلي فيها خمس ركعات أو سبع أو تسع متصلات بسلام واحد. وفي هذا الحديث أرشد الأمة بحديث قولي إلى أبسط الصيغ وهي السلام من كل ركعتين، وهي الأسهل والأرفق في الصلاة لا سيما الجماعة. ولأنّ النبي حدد العدد بفعله بأقوى الأدلة كرواية عائشة المذكورة، وبقوله في رواية أبي ذر، فلا حاجة لتكرار الحديث عن العدد هنا، فكان السؤال والجواب عن الكيف .. وليس من تمام البيان أنْ يقول للسائل إياك أنْ تزيد لأنه أرشده إلى صلاة ركعتين ركعتين مقيداً بما جاء، في الأحاديث الأخرى من العدد.


هذا ما لزم ذكره، والأنفع أنْ نقول: فلنتق الله في أنفسنا وعباداتنا وديننا. ولنطَّرِحِ الهوى، والتقليد فليس لهما نَفاقٌ في سوق الآخرة … (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) … والحمد لله رب العالمين.