يقول الله تبارك وتعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
المثل المضروب للناس في هذه الآية يضم صورتين من الواقع المشاهد والمألوف، الأولى عن رجل مستأجر لعمل؛ لكن أصحاب العمل شركاء متشاكسون، لا يتفقون على رأي، ولا يستقرون على قرار .. فهل يستطيع إرضاءهم جميعا، أم أنه يبقى مطلوبا ومعنفا من كل واحد منهم. وهل يرتاح، ويقر له قرار..؟
والصورة الثانية؛ لأَجير عند صاحب عمل واحد، رأيه ورغبته وقراره واحد، ولا يشاركه أحد. فكيف يكون حال الأجير معه؟ وفاق وتفاهم دائمين.
ونأتي الآن للمقارنة، هل حال الأجيرين متشابه، من حيث الراحة في العمل، والتفاهم مع صاحب العمل؟ لا، ولا يستويان مثلا…
وترك ربنا تبارك وتعالى تطبيق المثل لنا على حالات كثيرة في واقعنا، مع أن أكثر المفسرين ذهبوا إلى تطبيق واحد، وهو أساسي دون شك، لكنه ليس الوحيد في حياة المسلمين الحاضرة تخصيصاً. يمثل ذلك ما جاء في تفسير السعدي رحمه الله، وهو نموذج: (كذلك المشرك، فيه شركاء متشاكسون، يدعو هذا، ثم يدعو هذا، فتراه لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه في موضع، والموحد مخلص لربه، قد خلصه اللّه من الشركة لغيره، فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة، فـ {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ} على تبيين الحق من الباطل، وإرشاد الجهال. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}).
ومرة أخرى، أليس في واقع المسلمين اليوم حالات أدعى إلى تطبيق المثل وضربه لها؟ فلنستعرض:
لقد أراد الله الدين واحداً، فأنزل قرآناً عربياً غير ذي عوج، وأرسل رسولا يُعلم الناس ما أراد ربهم منهم أن يعلموه، صلوات الله وسلامه عليه .. وقد ترك بعده سنة وهدياً، محفوظين بحفظ الله لهذا الدين (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). فأبى بعض المسلمين، بل جلهم، على مر الزمن، إلا أن يغيروا ويتغيروا .. فكانت المذهبية أولاً، ثم تعددت الكيانات (المشيخية)، ثم ظهرت الفرق التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق، الذي أعرض عنه كثير من الناس، ومعهم نخبهم، بحجج شتى، لا تنفق واحدة منها في سوق المناظرة، لأنها وليدة الهوى، وما كان الهوى في الدين إلا مرديا..!
وانتشرت تلك الفرق بفُهومها المختلفة والمتناقضة، وصارت مع انتشار مقولة (الاختلافُ رحمةٌ)، غطاءً لها، تمثل كلها الإسلام (زعموا..!)، وعلى المسلم أن يتخير..! وكثر الدعاة والوعاظ، وصار لكل مشربه وتوجهه، وتفرق الناس تبعا لذلك. ثم جاءت الفضائيات فزادت الأمر ضِغْثا على إبَّالَة، وهو مثل عربي؛ وفي (كتاب مَجمَعُ الأَمثال للميداني): (الإبَّالة: الحُزْمَة من الحَطَب، والضِّغْث: قَبْضَةٌ من حشيش مختلطة الرطب باليابس، وأنشد الشاعر: {لي كُلَّ يَومٍ مِن ذُؤالَة — ضِغْثٌ يَزيدُ عَلى إبالة}. ومعنى المثل بَليَّةٌ على أخرى).
فأضحت كلُّ جهة تريد أن تطبع الدين بطابعٍ ارتضته، وتجند لدعوتها كل فنون الدعوة والدعاية، فكيف يكون حال المسلم اليوم؟ هل أبرأ ذمته، وأدى ما عليه كما أمره ربه، وبين له نبيه؟ لا، وإنما هو في حيرة مما يسمع، وإما أن تخطفه إليها واحدة من تلك الجهات، ويرى أنه قد استراح، أو أنه يدرك أنه في ضياعٍ، وعليه أن يبحث عن المخرج..!
وما أن يبدأ المسلم التفكير للوصول إلى حلٍ صحيحٍ، يجعله يأوي إلى ركن الحق والصواب، حتى تتبدى له أهمية وجود معيار مجمع عليه، في أمر الدين، لمعايرة الأشكال المتعددة للالتزام، المطروحة عند الناس، والجهات التي تفرض تلك الالتزامات..! ولن يجد الباحث المنصف، الحريص على الوصول إلى الله، وإلى الحق المبين، حلاً لهذه الإشكالية الخطيرة، التي تخص سلامة الدين، وصحة التدين، والفوز في الآخرة، إلا الاختيار الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، بعد أن حذرهم من الاختلاف، وهو لزوم منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، شعار الفرقة الناجية وعنوانها .. فهل يجوز الاختلاف فيه، والرغبة عنه..؟
والعجيبُ بل المحيِّرُ اليوم، أن نجد النخب، وأعني العلماء والدعاة حصرا، أزهد الناس في ذلك..! فلماذا؟
ما زلنا نقرؤ في كتب العلم، ونسمع من أهل العلم، بيت أبي الطيب المتنبي يرددونه، حين يُعاينون الواقع، فيرون فيه الميل عن الفهم السليم، ومجانبة الرأي القويم:
وكيف يصح في الأفهام شيءٌ |
إذا احتاج النهار إلى دليل |
وليتني أجد سبباً واحداً مقنعاً، أو شبه مقنع أعلل به النفس، فتهدأ إذ تقنع فترى الخلل يسيراً، وواقع الحال ليس خطيرا. ولكن هيهات هيهات هيهات..!
ولن أبرح حتى أبرئَ الذمة (بمقالة)، وأنصح للأمة، وإنْ كانت غائبةً، (بعبارة).
أما (المقالة) فما قاله أنسٌ رضي الله عنه، يوم سُئل ما يُبكيك يا أبا حمزة؟ وإليكم الأثر؛ في صحيح البخاري، بَابُ تَضْيِيعِ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا، عن الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: (دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلاَةَ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ). وفي رواية عَنْ غَيْلاَنَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: (مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: الصَّلاَةُ؟ قَالَ: أَلَيْسَ ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ فِيهَا؟). وليكن القارئُ على ذكرٍ، أنّ أنساً رضي الله عنه كان يَتَّهِمُ جيل التابعين، وفيهم بعض صحابة..!
وأما (العبارة) ونحن في زمن الفتن، تأتينا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، يرقق بعضها بعضا، فيقول نبينا، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم: (إنَّها ستكونُ فتنةٌ. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟! أو كيف نصنعُ؟ قال: ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ).
فالرجوعَ الرجوعَ، أيها المسلمون، إلى أمركم الأول .. وما أمركم الأول إلا الذي دعاكم إليه نبيكم ناصحاً، ومشفقاً، وهادياً، ومحذراً. إنه طوق النجاة ألقاه إلى الغارقين في بحر الاختلاف، التائهين عن شاطئِ السلامة، (ما أنا عليه وأصحابي)، وليس غير (فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ) … والحمد لله رب العالمين