Skip to main content

حَالٌ لاَ تَسُر

By الجمعة 22 شعبان 1427هـ 15-9-2006ممحرم 21, 1441مقالات

لو شاء امرؤ توصيف حال المسلمين اليوم، بقصد النقد البناء والإصلاح، ولكي يصيب كبد الحقيقة فلا يكون مبالغا ولا متجنيا، فلن يجد إلا الوصف القرآني والحديثي .. وبالطبع فإنّي لا أعني بتوصيف حال المسلمين حالهم السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا العسكري ولا العالمي ولا…ولا …ولا… وإنّما أقصد حالاً واحدة تعنيني وتعنيكم وهي حالهم الديني، وبعبارة أدق: حالهم مع الله تبارك وتعالى.

وقد يسأل سائل: ألا يعنيك حال المسلمين السياسي والاقتصادي والاجتماعي .. إلخ، فلِم تستبعد الحديث في ذلك؟ أقول: إنّي أجزم، ومن خلال منظور قرآني، وفهم دقيق لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) أنّ المسلمين، أمة وأفراداً، إذا قام فيهم أمر الله حق القيام قامت معه وبه كل الأمور الدنيوية والأرضية الأخرى. وأعني تفصيلا الأمر السياسي، والاقتصادي، والعسكري والاجتماعي، والحضاري، وغير ذلك .. لأنّ الله تبارك وتعالى ما كان ليُمَنِّيَ المؤمنين ويعدهم، مكافأة لاستجابتهم له ولنبيه، إلا بأحسن حياة تعرفها الأرض وأهل الأرض .. فإصلاح الحال مع الله هو الأصل والمدخل لكل عمل إصلاحي .. ودليل هذا الكلام قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

نعود إلى موضوع التوصيف فأقول: إنّ المسلمين يعيشون أسوأ حالة مرت بهم في حياتهم الدينية حتى اليوم، وهي باللفظتين القرآنية والحديثية: يعيشون مرحلة الإخلاد إلى الأرض، والغثائية .. ولنستعرض الآية والحديث:

يقول تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).

وليدع كل منا المكابرة، والتهرب من الاعتراف بالحقيقة والواقع، فالواقع لا يشهد إلا بالتوصيف الذي ذكرت .. وبالتأمل الدقيق للآية والحديث يمكن أن نستنتج أنّ حالة الغثائية هي نتيجةٌ لحالة الإخلاد إلى الأرض التي تسبقها .. وإن شئنا قلنا إنّهما حالتان متعاقبتان، تبدؤ حالة الإخلاد إلى الأرض ثم تعقبها حالة الغثائية، فتكونان كالسبب والنتيجة .. وقد يستمر هذا التسلسل، ومن يدري، فقد تأتي حالات أسوأ فلنبحث لها عن أسماء.

ما الذي يصل بالفرد أو الأمة إلى حالة الإخلاد إلى الأرض؟ وقبل الجواب ما هو معنى الإخلاد إلى الأرض؟ ما دامت الآية الكريمة تحدد ذاك المعنى فلا حاجة أن نلجأ إلى عقولنا .. إنّ الإخلاد إلى الأرض ضد الرفعة والسمو، دققوا في الآية: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) الله تبارك وتعالى، بما أنزل لأهل الأرض يوم قضى على بني آدم أن يعمروها، أراد أن يرفعهم من ملابسة وملاصقة الطين، وهو أصلهم الأول، بنفحات علوية ربانية هي تعاليم الدين المنزلة، لتكون عمارتهم للأرض على خير وجه يرضي الله ويحقق سعادتهم في الدنيا قبل الآخرة، ولو هبطوا إلى أصلهم الطيني أحيانا فإنّما هي حالة ضرورية لتلقي درسا في التواضع يوم يداخل نفوسهم الكبر والتعالي، لذلك كثر في القرآن الكريم تذكير الإنسان بأصله الطيني: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) .. لكنّهم سرعان ما يعودون إلى سموهم وعلوهم كما أراد لهم ربهم. أما الإخلاد إلى الأرض فهو الهبوط الدائم في كل شيء.

ولا بد أن أوضح أنّ بعض كتب التفسير، ذكر أهلها أسماء في التاريخ البشري تصوروا، بنوع من السبق الصحفي بالتعبير المعاصر، أنّ الآية نزلت فيهم، وقد اختلفوا في ذلك. ولنا أن نعتمد القاعدة الشرعية (العبرة بعموم النص لا بخصوص المناسبة) ما دام لم يأت ما يُعَوَّل عليه، في تحديد الأسماء، فنريح أنفسنا من ذاك الخوض .. كما أنّ لفظ الآية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ…) يؤكد أنّ المثل مضروب بفرد، فهل من مانع من إسقاط المعنى على حال الأمة..؟ أجيب فأقول: وهل الأمة إلا تجمع أفراد أمراضهم مرض للأمة، ومشكلاتهم هي مشكلة للأمة، وعافيتهم عافية للأمة..؟

ونعود إلى طرح السؤال ثانية: ما الذي يصل بالفرد والأمة إلى حالة الإخلاد إلى الأرض؟

حالات ثلاث يمر بها الفرد أو تمر بها الأمة لتهوي في حضيض الإخلاد إلى الأرض هي كما بُينت في الآية:

1. الانسلاخ من كل ما جاء من عند الله.

2. تسلط الشيطان وإغواؤه.

3. فقدان إرادة الارتفاع والسمو، وبعبارة أخرى فقدان إرادة الانتفاع بما جاء عن الله.

وإلى تفصيل كل واحدة:

1. الانسلاخ من كل ما جاء من عند الله.

أما الانسلاخ، فلعلي أتجرؤ أن أقول أنّي لم تقع عيني على تعبير عن الإعراض عما جاء من عند الله من الهدى، وإدارة الظهر له وترك الانتفاع به، نعم لم تقع عيني أبدا، حتى في كتاب الله وسنة نبيه على تعبير أكثر إيحاء، ولا أبلغ تصويرا من عبارة (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) .. والصورة مركبة وتحوي أكثر من مشهد. فالانسلاخ يعني الانفصال الكامل، كما يعرفها كل من رأى حيوانا يُسلخ من جلده، فيفترق الجلد والجسد إلى غير ما التقاء. والسلخ لفظة تستعمل لنزع الجلد عن الجسد، وليست لشيء غيره، فالصورة القرآنية توحي أنّ آيات الله هي الجلد الحامي والحاني، وهي الدرع الواقي، فإذا نزع الجلد تعرض الجسد لكل آفة ضارة وهذا أمر، أعني دور الجلد في حماية الجسد، للطب فيه كلام عجيب يؤيد مفهوم الآية.

وآيات الله وما نزل من عنده حصن المؤمن من كل ما يؤذيه في دينه ودنياه، وهي أيضا الدرع الذي يقيه من كيد العدو الأول والألد، وهو الشيطان، وبالانسلاخ منها يُمَكِّن الإنسانُ الشيطانَ من نفسه، أشد تمكين. فلنعد قراءة الآية: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ).

2. تسلط الشيطان وإغواؤه.

حين يفقد الإنسان الحرز والحصن والوقاية بآيات الله، يُعرض نفسه لكل مضاد للهدى والاستقامة، ومنْ غيرُ الشيطان أولى بهذه المهمة الخبيثة..؟ فليتذكر كل مخلوق من ولد آدم فعل الشيطان بأبيه آدم منذ بداية الخليقة وهو الإغواء: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) .. وهذا القرآن يذكرنا باستمرار بتلك البداية حتى لا نسمح للشيطان بتكرارها معنا فنسلك طريق الغواية (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).

فإلامَ انتهت حال ذلك المنسلخ؟ (فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) إنّه الطريق الثنائي ولا يمكن أن يكون ثلاثيا أو رباعيا أو أكثر .. طريق الرحمن
أو طريق الشيطان .. فلا توجد طريق ثالثة..! بين طريق الرحمن وطريق الشيطان. وكم من آية في كتاب الله جاءت تؤكد هذه الثنائية:

. (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).

. (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).

. (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا).

3. فقدان إرادة الارتفاع والسمو.

أراد الله لكل أحد من ولد آدم أن يرتفع ويسمو بما جاء عن الله من الهدى والبينات، لكن بعضهم بل أكثرهم يأبون. ويمكن أن نعيد الفكرة بعبارة أخرى فنقول: لقد خلقنا الله للجنة وشاء لنا أن نُنَعَّم فيها، لكنّنا باختيارنا نرفض الجنة وندخل النار .. واقرؤا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يوضح الفكرة بأسلوب آخر: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ كُلُّكُمْ إِلَّا مَنْ أَبَى وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ كَشِرَادِ الْبَعِيرِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى)).

يتجاذب الإنسان مصيران: مصير أراده الله له وهو الارتفاع والانتفاع وفي النهاية الجنة، ومصير يختاره الإنسان بنفسه ولنفسه وهو الإخلاد إلى الأرض ومنتهاه النار. واقرؤوا قول نبيكم الذي يؤكد هذا المعنى ويؤكد تلك الازدواجية: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ – أَوْ تَمْلأُ – مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا).

وفي هذا الجزء من الحديث رد على دعاة الجبرية والمروجين لها لتبرير المعصية والانحراف. والنصوص في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

فالالتزام بأحكام الدين، وفعل الخيرات، واجتناب المحرمات وطاعة الله كلها أفعال لا تكون إلا بالإرادة من فاعلها، كذلك فإنّ أضداد تلك الأفعال كالمعصية وفعل المنكرات وضعف التدين لا تحصل إلا بإرادة فاعلها. والإرادة وحدها، بعد الله تبارك وتعالى، هي التي تسير الإنسان وتتخذ القرار الأخير .. وشاء الله أن تكون تلك الإرادة من بني البشر محررة من كل ضغط إلا ما يختاره الإنسان بإرادته. فالسعيد من وظف إرادته لطاعة الله، والشقي من وظفها لطاعة هواه .. وإلا فلا يوجد في حياة المرء عمل لا تسبقه الإرادة إلا عملا أكره عليه.

وإذا تأملنا قوله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). نرى أنّ الله تبارك وتعالى أثبت الإرادة الحرة لبني البشر، وجعلها تحت إرادته ومشيئته، لكن الحكمة البالغة أنّ إرادة الله ومشيئته لا تتدخل في إرادة الإنسان لا عجزاً، بل عدلاً في أن يكون الاختيار حرا وتحمل المسؤولية كاملا.

ويوم تحرر ذلك المخلوق المنسلخ من تعاليم الدين وأوامر الله وهدي النبي، لم يعد له إلا قائدان يقودانه: الشيطان والهوى، ويمكن لذينك القائدين أن يتماهيا معا في أحدهما وهو اتباع الهوى فما الهوى إلا من وسوسة الشيطان .. ولو لم يرد من ذم للهوى إلا هذه الآية لكفت: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..
وبأبسط عبارة فمن كان قائده هواه، فهل سيوصل هذا القائد الأرضي إلى الجنة..؟

بقي في الآية الكريمة لغز وهو قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). ولماذا الكلب حصراً؟ القرآن الكريم شبّه أكثر من مرة الكفار بالأنعام وهي الحيوانات، والكلب من عالم الحيوان، لكنّه خص المنسلخ هنا بالكلب، فما وجه الشبه يا ترى؟

مهانة الكلب ودناءته وحقارته، ومعظم أمم الأرض تستعمل لفظة الكلب للشتيمة. والأهم أنّ ما يميز خلق الكلب لهاثه الدائم، تَعِبا كان أم مرتاحا .. وحال ذاك المنسلخ والمخلد إلى الأرض اللهاث وراء أهوائه ونزواته الأرضية دون انقطاع وراحة، وسيبقى لاهثاً لا يصل إلى حد الاكتفاء إلا باللهثة الأخيرة التي تخرج معها روحه .. ويمكن أن يفسر لهاثه بأنّه يلهث وراء فوز أو نجاح أو هداية، لكنّه لن يحظى بذلك لأنّه قطع الصلة بما جاء من عند الله .. وهل تدرك هداية، وهل يحرز فوز، وهل تكون نجاة إلا من طريق واحد وهو طريق الله ورسوله..؟

ولعل المثل من هذه النظرة ينطبق على أهل البدع والأهواء الذين أرادوا الوصول إلى الحق عن طريق عقولهم وليس بما أنزل الله .. فسيظلون في لهاث وراء الحق الذي أضاعوه إلى أن تقطع قلوبهم من اللهاث، يريدون الجنة من غير طريق الوحيين والاتباع.

أما عن الغثائية فلنبدأ بمعنى الغثاء:

جاء في لسان العرب: (الغُثاءُ بالمدّ والضم ما يجيءُ فوقَ السيلِ مما يَحْمِلُه من الزَّبَدِ والوَسَخِ).

ها هي الأمم قد تداعت على أمة الإسلام وتكالبت، يرمونها عن قوس واحد لإذلالها وسلب خيراتها .. وقد عز النصير .. وقل من يقول كلمة الحق .. وليس للمسلمين أن يُحملوا أحدا مسؤولية هذا المآل، بل هم وحدهم الذين يحملون مسؤولية ذلك بارتضائهم العيش في حالة الغثائية .. وهل من شك أنّ المسلمين يعيشون اليوم هذه الحالة..؟

وظن السائل المغتر بعديد المسلمين، وهم اليوم مليار ونيف، أنّ كثرتهم ستغني عنهم ونسي قصة حنين: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).
فيُذكر النبي صلى الله عليه وسلم السائل بما نسيه من حُنين، ويؤكد كثرة المسلمين حال تداعي الأمم، ويصف تلك الكثرة بالغثائية نتيجة الفشل وذهاب الريح، وانعدام الفعل، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم للسائل الذي غرته الكثرة: (بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل).

ودون أن يسأل سائل يبين الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتحول العدد الكبير إلى غثاء كغثاء السيل، وأنّ ذلك من فعل الله وتدبيره عقوبة جماعية للمسلمين يوم يتخلون عن الهمّ الأعظم في حياتهم وهو همّ الدين والتزامه ونصرته والدعوة إليه، ليجعلوا همهم أرضيا يزيد تعلقهم بالحياة ولو كانت ذليلة، ويخافون الموت دفاعا عن دينهم وحرماته: (وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ).

وهل يمكن لمن انسلخ من آيات ربه، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه أن يحسن غير هذا الخذلان .. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينزل الفجار منازل الأبرار وهما طريقان فأيهما أخذتم أدركتم إليه).

وتثير كلمة (العقوبة الجماعية) المذكورة قبل قليل في بعض الأنفس شيئا فنرد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن زينب بنت جحش قالت: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ). وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا. قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)).

وختاماً، كيف السبيل إلى الخروج من حالتي الإخلاد إلى الأرض والغثائية للأفراد والأمة؟ باختصار شديد:

1. أن نقوم بعمل مضاد للانسلاخ، وهو أن نرجع إلى الوحيين الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة لهما، علما وعملا وتعليما للناس.

2. إنّ المسلمين يعيشون بُعدا عن الوحيين، لكنّ هذا البعد خداع لأنّه بعد في حقيقته، وقرب في ظاهره. إنّ القرب الحقيقي من الوحيين يكون بتطبيقهما. والحاصل أنّ كثيرا من الأمور الدينية عند المسلمين اليوم ليست على الوحيين بفهم السلف، إنّما فعل فيها التأويل والتبديل فعله .. حتى العقيدة لم تسلم من التأويل والتبديل .. فلا بد من رجعة جادة.

3. إنّ الخلل في البندين السابقين في حياة المسلمين الدينية، كشف الكيان الديني للأمة والأفراد، لفئات انحرفت عن الإسلام ووجدت الفرصة مواتية لتصفي حسابات تاريخية مع الإسلام وأهله، فهي الآن تجمع شتاتها، وتوحد صفها، لتحقق مآربها في التشويش والتشويه. وما أكثر هؤلاء..! وأمثل لهم بالمدرسة العقلية التي قامت بإفساد العقيدة أيام المعتزلة وها هي تطل من جديد لتقوم بالإفساد نفسه.

وقد يعترض معترض على نعتهم بالإفساد فأقول: هل من إفساد أكبر من أن يقال (إذا تعارض العقل والنقل فالحكم للعقل). وقد وجدوا عصر العلم والاختراع والالكترون وغزو الفضاء مواتيا لتضخيم دور العقل وإعادته إلى المنزلة التي أرادها المعتزلة له .. ولا يمكن صد تلك الهجمات، وما أقواها وما أكثرها، إلا بالتمسك بالوحيين حقيقة. والفِرق كثيرة وقد مثلت بالعقلانيين فقط توفيرا للوقت.

4. إنّ الفضائيات وقد أوشكت أن تصبح بعدد نجوم الفضاء، أوجدت منابر عالمية لأفراد وجماعات ما كانوا ليتبوؤا تلك المواقغ لولا غثائية المسلمين وإخلادهم إلى الأرض، ويصدق في كثير من هؤلاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه؛ يتكلم في أمر العامة).

وصار الناس يعتقدون أنّ كل ما سقط عليهم من الفضاء صواب، فكانت أعظم فرصة للرويبضة يفتون ويحلون ويصوبون ويخطئون، لسان حالهم يقول خلا لك الجو فبيضي واصفري .. ولا شك أنّ المسلمين ليس بوسعهم إقصاء أحد ولا إسكات أحد ولا إيقاف قناة، لكن الذي بيدهم إن أصلحوا حالهم تحصين الناس بمعيار الوحيين من أن يجتاح عقولهم وعقائدهم أي ناعق.

5. يجب نشر ثقافة البدع، بعد أن طال على الناس الأمد فحسبوا السنة بدعة والبدعة سنة .. فلا بد أن يعرف المسلمون اليوم ما معنى البدعة وما حجم خطورتها في الدين وعلى الدين، وأنّ البدع ليست من دين الإسلام في شيء لأنّها أرضية المنشأ عقلية المولد، ولأنّها دين ثان غير دين الإسلام لأنّها تحمل أسوأ معنى وهو الاستدراك والاستغناء
عن الوحيين .. وقد وُجد من الرويبضة في هذا الزمن من يبدع أصحاب السنة والمتمسكين بها، ويزكي البدع وأهلها ويسعى في ترسيخها في عقول الناس، وقطيع من المسلمين يؤمنون على مقالته. وقد وجد هؤلاء في زوايا خزائن التراث المهملة صحائف سودت بالباطل، وأقحمت في التراث في غياب غلبة أهل الحق، وتنطع أهل التقليد، وأهل التعصب، وتقديس الموروث .. فصار كل صاحب باطل اليوم يجد له حجة في قول شاذ حفظه لنا التراث .. آن لنا أن نقول إنّ التراث يحترم ولا يُقدس، ولا قدسية في الكون كله إلا لنصوص الوحيين.

هذا ما يسر الله بيانه، وأعان على إتقانه، ولعل فيه ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد … والحمد لله رب العالمين