Skip to main content

الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ بِشَكْلٍ جَمَاعِيّ

By الثلاثاء 5 رجب 1429هـ 8-7-2008ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

إنّ من وراء اختيار هذا الموضوع للمذاكرة بواعث لا بُد من إيضاحها، لأنّها تسهم في إيضاح مبكر يتقدم الموضوع، فيعمق فهمه ويسهل استيعابه. وأقول ابتداء إنّي جمعت بين الذكر والدعاء في بحث واحد للتشابه الكبير بينهما، فكلاهما عبادة من أجلّ العبادات، وقد فعل فيهما الابتداع فعلا كبيرا، وأخيراً فإنّ الأدلة على أحدهما هي أدلة للآ خر، ولا يخلو وجود فوارق بسيطة سيشار إليها .. وإلى البواعث:

1. إنّهما من أمور العبادة، ولا يخفي عليكم أنّ العبادات توقيفية، فلا يجوز السكوت عما يعتريها من تحريف، وما يشوبها من ابتداع .. وإذن فالطرح واجب وليس اختيارياً.

2. إنتشار الوجه البدعي لهاتين العبادتين بين الناس انتشاراً غير مقبول ولا معقول، بل غلب على الوجه السني فأبعده من حياة المسلمين، وللأسف الشديد فالانتشار البدعي سرى بين المشايخ الذين يعلمون الناس أيضاً. وكثر في المسلمين من يدافع عن هذا الواقع البدعي بطرق شتى، وأساليب متنوعة، ومع انقلاب المفاهيم في زمن فتنة التبديل التي سبق الحديث عنها مرات، صارت السنة بدعة والبدعة سنة، وسكت بعض العالمين العارفين اعتزالاً، والأصح أن أقول استسلاماً، وآخرون كان سكوتهم مغطى بفلسفة أنّه لا بد من الانحناء أمام العاصفة .. وداهن قوم وهم يدعون الحرص على وحدة المسلمين وعدم شق الصف وتصديعه .. ولهؤلاء نقول أين الوحدة التي تحرصون عليها، أهي موجودة..؟ وهل الصف الذي تحرصون على سلامته سليم حقاً، أم أنّ كل ذلك يخيل إليكم لرهبتكم الواقع، ولإذعانكم لضغوطه..!

والفريق الثالث أهل المصلحة والمعاش، هونوا الأمر بتمثلهم قاعدة (كله خير وبركة)، وستروا جهلهم تحت شعار (لا تتشددوا). ولا شك أنّه قد صدق فينا أثر بن مسعود رضي الله عنه الذي أعطاه المحدثون صفة المرفوع: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير وتتخذ سنة فإن غيرت يوما قيل هذا منكر. قيل: ومتى ذلك؟ قال: إذا قلت أمناؤكم وكثرت أمراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت قراؤكم، وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة).

3. إنّه لدى الشرح للموضوع سنمر على قواعد من أساسيات ومرتكزات المنهج يعمقها البحث، وعلى أساس منها تعالج كثير من المشكلات الشرعية المعاصرة، فيكون البحث واسع النفع، إن شاء الله، يتعدى الموضوع الذي تحت أيدينا وتقاس عليه موضوعات أخرى.

ما المقصود بالذكر الجماعي؟

الذكر الجماعي، أن يعمد جمع من المسلمين إلى الجهر بذكر واحد (كالتسبيح والتحميد والتهليل) بإيقاع واحد يبدؤون الجملة معاً، وينتهون معاً، ويتوقفون لفاصل معاً، وقد يؤدون ذلك بأنغام ابتدعوها .. وأحياناً يتولى قيادة هذه العملية شخص لضبط الإيقاع .. وكثيراً ما يكون ذلك بعد الصلوات المفروضة، أو في التلبية في الحج والعمرة، أو في تكبيرات العيد.

ومما أسهم في ترويج هذا اللون من الابتداع، وتزيينه في أعين الناس، اتخاذ بعض وسائل الإعلام منه شعارا لمواسم دينية من خلال شارات صوتية تبث باستمرار بين البرامج.

ويخلط الكثيرون بين مسألة الجهر ببعض الأذكار، وأدائها بشكل جماعي، ويحتجون بشرعية الأولى على من يعتبر الثانية من البدع.

أما الدعاء الجماعي، فهو أن يدعو إنسان في جمع من الناس ويؤمن المجتمعون على دعائه، كما يفعله الخطباء على المنابر، والأئمة بعد الصلوات، ومناسبات الأفراح والأحزان، وفي المشاعر في الحج ولا سيما في عرفة.

الأدلة على عدم جواز الذكر الجماعي

إنّ أقوى الأدلة بل يكاد يكون الدليل الوحيد الاحتكام إلى السنة الفعلية، وهي ولا شك دليل شرعي معتبر، لأنّ السنة الفعلية من أقسام السنة النبوية، وهي الأصل الثاني في دين الإسلام. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع أفعاله مثل:

. (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).

. (لتأخذوا عني مناسككم، فإنّي لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه).

إضافة إلى وجوب التزام ما كان عليه المسلمون على مر العصور، وهو دليل شرعي معتبر وأصلي لقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

ولمّا لم يثبت الذكر الجماعي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجر عليه عمل المؤمنين ولا سيما في القرون الثلاثة المشهود لها بالخيريةن تصبح كل الأدلة الآمرة بالاتباع، والناهية عن الابتداع، نصوصاً تُحرم الذكر الجماعي، وتعتبره من البدع المحدثة. وعلى رأس تلك النصوص، قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ).

ويجيء الآن دور تفنيد أسلوب يتبع للالتفاف على النصوص، ولتسويغ البدع، وتكريس انتشارها بين الناس .. ولا شك أنّ المروجين لهذا الأمر، وفيهم مشايخ وعلماء، يعلمون في أنفسهم أنّ دعواهم باطلة، ولكن الذي يغريهم بها وبالدعوة لها تقبل العوام والجهال لها، من جهة، ومسايرتها ومجاملتها للواقع البدعي السائد، من جهة أخرى، مما يرضى الدهماء عنهم ويجعلهم يثنون ركبهم بين أيديهم، ويكثرون من الثناء عليهم ووصفهم بالوسطية والاعتدال .. وهذا الأسلوب متبع في تحسين، وتزيين كثير من البدع اليوم، وهذا ما أشرت إليه في أسباب طرح هذا الموضوع، من أنّ معالجته ستتعداه لتكون معالجة لمشكلات شرعية أخرى. وانتبهوا للأهمية.

درج بعضهم إنْ لم أقل كثيرون منهم لدى مناقشتهم على القول: إنّنا نسلم معكم أنّه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه فعل الذكر الجماعي، ولكن ائتونا بنص واحد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، أو حرمه، أو توعد فاعله .. وأنّى لكم ذلك..؟

ولا بد من أن نقول لهؤلاء البيت المشهور بروايتيه:

قل للــذي يدعي علمـــــاً ومعرفــــة علمت شيئا وغابت عنك أشياء

فاحفظ وقل للذي رام العلا سفها علمت شيئا وغابت عنك أشياء

والله إنّي لا أتردد في أن أضيف لهؤلاء ومتبعيهم فأقول:

إن كنتم تعلمون بطلان ما تقولون شرعياً وأصولياً، فقد والله أوبقتم أنفسكم وغششتم المسلمين، مسايرة للواقع، وطلبا لنعت الوسطية، وحفاظا على وحدة صف المسلمين. زعموا..! وإن كنتم تجهلون ما تقولون وتهرفون بما لا تعرفون، فما أحرانا أن نقول لكم (ليس هذا عشك فادرجي)…

وقد ينبري أحد دعاة السلام والمولعين بأنصاف وأثلاث وأرباع الحلول ليقول: لم التشنيع والتبكيت والتقريع..؟ هبهم يا أخي ممن اجتهد فأخطأ، أقول تلك أسوأ من سابقتها لأنّ المسألة لا تقبل الاجتهاد وقد حسمتها نصوص كالجبال في الصحة والوضوح .. إلا إذا كان هؤلاء المعترضون على طريقة شيخ الوسطية المعاصر الذي يقول: (ومعظم نصوص القرآن والسنة كذلك (ظنية الدلالة). فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو أخذت آية مثل (آية الطهارة) في سورة المائدة، وقرأت ما نقل في استنباط الأحكام منها، لرأيت بوضوح صدق ما أقول).

وبعد أن انتهينا من الرد الشديد، نترك الشدة والحدة لنقول:

أليست الأوامر التي في القرآن والسنة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع سبيل المؤمنين، كافية لكل مسلم يرجو الله والدار الآخرة، لتوقفه عند الحد الذي أوقفه نبيه عنده دون أي تجاوز لذاك الحد..؟

ثم لا بد لكل مسلم أن يعرف القاعدة التي غابت من كثير من الكتب أو غُيبت، وهي أنّ سنة نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، فعلية وتركية، وهذا يقتضي أن فعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم اتباع وسنة، وأنّ ما تركه صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لفعله، فتركه اتباع وسنة أيضا .. وبكلمات أخر: فإنّ الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم دين، وكذلك الترك منه صلى الله عليه وسلم، دين أيضا.

وبعبارة أخرى لزيادة الإيضاح: فإنّنا مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في ما فعل وفي ما ترك على سواء .. أما الذين حددوا الاتباع في الفعل، واعتبروا الترك من النبي صلى الله عليه وسلم إذناً من الله ورسوله، بفعل الأمر المتروك لمن شاء، فهذا مع حسن الظن جهل ينبغي الرجوع عنه، ومع الأمر الآخر تضييع وتمييع للدين تجب التوبة منه.

ولا بد هنا من إضافة تَخُصُّ موضوع الدعاء وتتصل بالفكرة السابقة وتؤكد عدم جواز الدعاء الجماعي. إنّ السيرة ذكرت لنا مواقف ثلاثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نتصور بعقولنا التي نقدمها على النصوص أحياناً، والتي تزين لنا البدع مراراً، أنّها مواطن تستدعي من رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أن يحشد أصحابه ويقول لهم أيّها الناس إنّي داع فأمنوا، ثم يجتهد فى الدعاء، لكنّه لم يفعل مما يؤكد لنا أنّ الدين ليس بالعقل والعواطف والهوى. ما هي هذه المواطن الثلاثة؟

. وقوفه للدعاء في عرفة والمزدلفة.

. اجتماعهم معه ثلاث ليال من العشر الأواخر من رمضان، وقد صلى بهم صلاة القيام، ثم ترك ذلك خشية أن تكتب عليهم.

. المعارك التي خاضها مع أصحابه في ظروف كانت في غاية الصعوبة، كبدر والأحزاب. وكل ما قيل من أدلة في منع الذكر الجماعي تقال في الدعاء الجماعي.

وإلى مجموعة من النصوص تحكي مواقف السلف من الذكر الجماعي لأنّهم عايروا الأمر بالمعايير الشرعية السابقة الذكر، وليس بمعايير الاستحسان العقلي (فمن استحسن فقد شرع)، أو بمنطق الرضوخ للواقع، أو المصالحة مع الابتداع وتسويغه وتسويقه:

1. عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال: (كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه: أن ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير. فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك فأقبل. فقال عمر، للبواب: أعِدَّ سوطاً، فلما دخلوا على عمر، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط).

2. وممن أنكر ذلك من الصحابة: خباب بن الأرت، فقد روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال: (بينما نحن في المسجد، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي. فأرسل إليَّ أبي. فوجدته قد احتجز معه هراوة له. فأقبل عليَّ. فقلت: يا أبت! مالي مالي؟! قال: ألم أرك جالساً مع العمالقة)؟ ثم قال: هذا قرن خارجٌ الآن.

3. ومن ذلك: كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان. وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية. وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب، وقوله: إنّه شيء أُحدث، وإنّ السلف كانوا أرغب للخير، فلو كان خيراً لسبقونا إليه.

4. قال ابن تيمية: (لم ينقل أحد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعاً، لا في الفجر، ولا في العصر، ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنّه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة).

وقد درج على منوالهم فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم، فمن ذلك:

. ذكر الإمام علاء الدين الكاساني الحنفي في كتابه (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)، عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: (أنّ رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل، لأنّه ذكر. والسنة في الأذكار المخافتة؛ لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}. ولذا فإنّه أقرب إلى التضرع والأدب، وأبعد عن الرياء فلا يترك هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص).

. وقال العلامة المباركفوري في (تحفة الأحوذي): (اعلم أنّ الحنفية في هذا الزمان، يواظبون على رفع الأيدي في الدعاء بعد كل مكتوبة مواظبة الواجب، فكأنّهم يرونه واجباً، ولذلك ينكرون على من سلم من الصلاة المكتوبة وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ثم قام ولم يدع ولم يرفع يديه. وصنيعهم هذا مخالف لقول إمامهم الإمام أبي حنيفة، وأيضاً مخالف لما في كتبهم المعتمدة).

. ومما يتعلق بمذهب مالك رحمه الله في الذكر الجماعي ما جاء في كتاب (الدر الثمين) للشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي:(كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبة جهراً للحاضرين).

. وأما مذهب الشافعي رحمه الله، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الأم): (وأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الانصراف من الصلاة، ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماماً يجب أن يُتعلم منه فيجهر حتى يرى أنّه قد تُعُلِّم منه ثم يُسِرُّ، فإنّ الله عز وجل يقول: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}. ذكر ابن مفلح قال: قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم، فيدعو هذا، ويدعو هذا ويقولون له: ادع أنت. فقال: لا أدري ما هذا؟! أي: أنّه استنكره).

. وقال الفضل بن مهران: (سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قلت: إنّ عندنا قوماً يجتمعون، فيدعون، ويقرأون القرآن، ويذكرون الله تعالى، فما ترى فيهم؟ قال: فأما يحيى بن معين فقال: يقرأ في مصحف، ويدعو بعد الصلاة، ويذكر الله في نفسه، قلت: فأخ لي يفعل ذلك. قال: أنهه، قلت: لا يقبل، قال: عظه. قلت: لا يقبل. أهجره؟ قال: نعم. ثم أتيت أحمد فحكيت له نحو هذا الكلام فقال لي أحمد أيضاً: يقرأ في المصحف ويذكر الله في نفسه ويطلب حديث رسول الله. قلت: فأنهاه؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يقبل؟ قال: بلى إن شاء الله، فإنّ هذا محدث، الاجتماع والذي تصف).

. وقال الإمام الشاطبي في بيان البدع الإضافية ما نصه: (كالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان. فإن بينه وبين الذكر المشروع بوناً بعيداً إذ هما كالمتضادين عادة).

. وقال ابن الحاج: (ينبغي أن يُنْهى الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة، أو بعدها، أو في غيرهما من الأوقات).

. وقال الزركشي: (السنة في سائر الأذكار الإسرار. إلا التلبية).

. جاء في (الدرر السنية): (فأما دعاء الإمام والمأمومين، ورفع أيديهم جميعاً بعد الصلاة، فلم نر للفقهاء فيه كلاماً موثوقاً به. قال الشيخ تقي الدين: ولم ينقل أنّه صلى الله عليه وسلم كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام. بل يذكرون الله كما جاء في الأحاديث).

. وجاء في فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا ما يلي: (ختام الصلاة جهاراً في المساجد بالاجتماع، ورفع الصوت، من البدع التي أحدثها الناس، فإذا التزموا فيها من الأذكار ما ورد في السنة، كانت من البدع الإضافية). وقال في موضع آخر: (إنّه ليس من السنة أن يجلس الناس بعد الصلاة بقراءة شيء من الأذكار، والأدعية المأثورة، ولا غير المأثورة برفع الصوت وهيئة الاجتماع. وأنّ الاجتماع في ذلك والاشتراك فيه ورفع الصوت بدعة).

متى ظهرت بدعة الذكر والدعاء الجماعي؟

كان مبتدأ نشأة الذكر الجماعي وظهوره في زمن الصحابة رضي الله عنهم وهو ما يعبر عنه الحديث الصحيح الآتي:

(أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِىُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا: لاَ، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعاً، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّى رَأَيْتُ فِى الْمَسْجِدِ آنِفاً أَمْراً أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ خَيْراً. قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ – قَالَ – رَأَيْتُ فِى الْمَسْجِدِ قَوْماً حِلَقاً جُلُوساً يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ، فِى كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِى أَيْدِيهِمْ حَصًى فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً. قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئاً انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتِظَارَ أَمْرِكَ. قَالَ: أَفَلاَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ. ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِى أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ.
قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَىْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- مُتَوَافِرُونَ وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِى نَفْسِى فِى يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِىَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِى بَابِ ضَلاَلَةٍ. قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ. قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْماً يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِى لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ. ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ
).

وقد أنكر الصحابة هذه البدعة لما ظهرت وقد قل انتشار هذه الظاهرة، وخبت بسبب إنكار السلف لها. ثم لما كان زمن المأمون، أمر بنشر تلك الظاهرة. فقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير بعد الصلوات الخمس. فقد ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام 216 هـ
ما نصه: (وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، من هذه السنة).

وجاء في تاريخ ابن كثير: (وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد، يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس).

فكان هذا مبتدأ عودة ظاهرة الذكر الجماعي إلى الظهور وبقوة، بسبب مناصرة السلطان لها. ومن المعلوم أنّ السلطان إذا ناصر أمراً، أو قولاً ما، ونشره بالقوة بين الناس، فلا بد أن ينتشر ويذيع، إذ إنّ الناس على دين ملوكهم. واستمرت هذه الظاهرة منتشرةً بين الرافضة والصوفية ومن تأثر بهم.

حجج المجيزين للذكر والدعاء الجماعي

لم يتعلق المجيزون بما هو نافق في سوق المناظرة. فأدلتهم إما أحاديث صحيحة لووا أعناقها لتأييد ما ذهبوا إليه، وإما أحاديث ضعيفة هالكة الأسانيد، وإما أدلة عقلية تسقط أمام النصوص الشرعية .. وتجنبا للإطالة سأذكر نماذج للتعريف:

النوع الأول: ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضْلاً يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ – قَالَ – فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ فَيَقُولُونَ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِى الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ…). وفي نهاية الحديث يقول الله: (… قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا).

وموضع الإشكال عبارة (جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِى الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ). فلا تفسر العبارة أنّها مجالس لترديد ذكرٍ جماعيٍ بالكلمات السابقة فذلك لم يأت عليه دليل، ولم تأت به سنة، ولم يمض به عمل المسلمين. وإنّما التفسير الصحيح يبدأ من معرفة المعنى الصحيح لعبارة (مجلس الذكر) وهو كل مجلس يجتمع فيه الناس ليتداولوا ويتعلموا أمور دينهم كالتفسير والحديث والعقيدة والفقه والوعظ والإرشاد والتذكير، وكل هذه الموضوعات لا تخلو من تسبيح لله وتكبيره وتحميده وسؤاله، كما نقل الملائكة .. أما المفهوم المحدث لمجالس الذكر والمرتبط ببدع الصوفية والقائم على الحضرات والذكر المفرد بصخب كقولهم (الله هو…)، فباطل جملة وتفصيلا.

النوع الثاني: ما أخرجه أحمد من طريق: إسماعيل بن عياش، عن راشد بن داود عن يعلى بن شداد، قال: حدثني أبي شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت حاضر يصدِّقه، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل فيكم غريب؟) يعني أهل الكتاب، فقلنا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب، وقال: (ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله) فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال: (الحمد لله، بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله عز وجل قد غفر لكم). وضعف النص محل إجماع المحدثين، بل قال بعضهم بوضعه.

النوع الثالث: مقولات عقلية كقولهم: الالتقاء على الذكر أو الدعاء ورفع الصوت به جماعة أحرى بالإجابة. وقولهم إنّ في ذلك تعويد وتقويم لألسنة الناس. وقولهم لأنّ هذا الاجتماع من باب التعاون على البر والتقوى.


وختاماً … إنّ حياتنا الدينية ملآى بالبدع، وإنّ مساجدنا تعج بها .. ومهمة الإصلاح ملقاة على عواتقنا جميعا وجوبا .. فليكن شعار كل أحد منا (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) وليكن دعاؤنا على هذا الطريق الشاق (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِى) والله يتولانا أجمعين.