نعم، نُحب الشام، أغاثها الله، ونتغنى باسمها، ونسمر ونأنس باسترجاع ذكريات مرابعها، ومصائفها، ومشاتيها، ويحن إليها من بَعد عنها، ما ناحت مطوقة .. ونخلع ونقلي شانئها، ولن نسالم من كان حرباً عليها .. وهل يُلام أحد في حب الوطن؟ .. لكنّ الله حبا الشام الكثير، ومن خير ما حباها، أن جعل لها حُباً من نوع آخر، أسمى بكثير من الحب الأرضي النزعة .. واصطفاها وفضلها على كثير من المدائن والأماكن في الأرض.
فيا أهل الشام .. ويا محبي الشام .. ابحثوا عن ذاك الحب، لتحبوها به، إضافة للحب الجبلي، فأين تجدون خبره؟
إنّكم واجدوه عند الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى..! فاقرؤا ما روى عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكُمْ ستُجَنَّدُون أَجْنَادًا: جُنْدًا بِالشَّامِ وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خِرْ لِي؟ قَالَ: (عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بيَمَنهِ ولْيَسْقِ مِنْ غُدَرهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وأهله)) وورد بلفظ: (عَلَيْك بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ).
فمن لا يُحب أن يكون من خيرة خلق الله، ويسكن خيرته من أرضه..؟
إنّا لا نستعرض روايات تاريخية، ولا أقوال علماء ومفكرين، إنّما هي السنة الصحيحة، الوحي الثاني، وبالتالي فالموضوع أبعد ما يكون عن الجدال والأخذ والرد لمن يعرف الثوابت ويلتزمها .. ولنستعرض نصين آخرين عن الصادق المصدوق:
. يقول عليه السلام (يا طوبى للشام يا طوبى للشام يا طوبى للشام) وفي إحدى الروايات: (لأهل الشام) قالوا يا رسول: وبم ذلك، قال: (تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام).
. ويقول: (إنّي رأيت عمودَ الْكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فنظرتُ فَإِذَا هُوَ نورٌ ساطعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلا إِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتِ الفتن بالشام).
فيا أهل الشام .. ويا محبي الشام .. أحبوا الشام بهذا الحب الذي علمكموه نبيكم، فتؤجروا مرتين: على التصديق وعلى الحب، فتكونوا كأم موسى ترضع وليدها وتأخذ أجرها..! وقولوا للناس إنّ حُبنا بلدنا ليس كحب سائر الناس بلدانهم..! إنّ حُبنا للشام دين..! وهل من مراء في الدين..؟
ولكنْ، إنّ حُب الشام بالمعاني السابقة كلها يُحَمِّل مُكابِدَهُ تبعةً كبيرةً، وحِملاً ثقيلاً من التكليف، يتضح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ)، فحينما يربط نبي الأمة خيرية الأمة بخيرية أهل الشام، صار أهل الشام مُلزمين بالمحافظة على خيريتهم الدينية التي تحفظ للأمة خيريتها، وسيسألون عن ذلك..!
بعد ما عُرض، يبقى سؤال لا أتردد في وصفه بأنّه مُحيِّر، وهو على بال كل أحد: كيف يمكن الجمع بين النصوص السابقة، وواقع الشام الآن، وحتى قبل الأحداث، والظاهر للنظرة الأولى التناقض الشديد؟
والجواب السريع: أنّ النصوص تتحدث عن أحوال ستأتي وليس عن الواقع المعاصر. فهل أهل الشام اليوم معنيون بذلك إذن..؟ أقول: إنّ النصوص تتحدث عن أحوال مقبلة في الشام، ولا شك، والمؤكد أنّه لا يعلم أحد متى تكون .. وليس مقبولاً أنْ يقال إنّ ساكني الشام الحاليين، ومحبي الشام ليسوا معنيين بها .. فإن كان أهل الشام الحاليين لا يحملون الأوصاف التي جاءت في النصوص ولا يستحقونها، لكنّهم سيحملون مسؤولية التغيير للوصول إلى تحققها واستحقاقها .. فلِمَ لا تُعتبر الأحداث الجارية على أرض الشام إرهاصاً لتلك الأحوال التي أُنبئنا عنها، وأنها بدايات وإشارات لتغيرات في المنطقة كلها تُعيد إلى الشام خيريتها فتُسهم في صبغ الأمة كلها بالخيرية..؟ ومثل تلك التغييرات الكبيرة لا تتأتى بين عشية وضحاها، بقدرة قادر..! إنّ لها نواميس وسُنناً، وهي مُحصلة التزام وعمل منهجي مُؤصل، يتحمله من وفقه الله من أهل تلك الديار، أفراداً وجماعاتٍ.
وإذن .. ماذا يترتب على أهل الشام، بل ماذا ينبغي لهم؟
إنّه الاستعداد، وإعداد الأنفس للمهمة العظيمة التي تُقربهم من تحقيق الخيرية في أنفسهم، وفي الأمة، كما وعد الله على لسان نبيه الذي لا ينطق عن الهوى. ولن يُبريء أهل الشام ذممهم تجاه وعد الله إلا بذلك، وإن كان زمنه بعيداً، فليس في موعود الله بعيدٌ مادام مستيقنا.
ولا أُريد أنْ يُفهم أني أتحدث عن مستقبل قريب جداً، فأنا لا يخدعني برقٌ خُلَّبي، ولا سرابٌ بقيعة .. ولا أرى أهدافنا الكبرى وآمالنا تطبخ كطعام وليمة في إنجاز سريع، ولو خرج فاخراً..! أو تُشيّدها أحلام اليقظة عن طريق العواطف والقصائد والخطب والشعارت وحشد الأنصار والتصفيق كما نراه اليوم يجري في مناطق مجاورة .. إنّ ما يجري الآن في الجوار يُحدث تغييرات قشرية، لا يقبلها الدين، ولا تُرضي السياسة والسياسيين، ولا تُقنع من هبوا يطالبون بالتغيير..!
أما آمالنا الإسلامية العريضة، وأهدافنا الكبرى، فبيننا وبينها مفازاتٌ من العمل الدؤوب لبعث الأمة المسلمة من جديد .. إنّه الإعداد لمشروع إسلامي متكامل يعالج الكل، ولا يكتفي بالجزء، يُريد رضا الله الذي يأتي برضا الخلق، وليس العكس. يجعل هدفه الأمة قبل الدولة، وليس العكس.
أول مهمة فيه إذن: هي بعث الأمة من جديد، كما أسلفت، بردها إلى الوحيين، فقد شردت عنهما طويلاً .. وما يُنال ذاك الهدف: إلا بتعلّم الوحيين، والعمل بهما، وبثهما في الناس .. فهو طريق العلم والدعوة والتربية .. وإنّ بناء الأمم لا تُعد فيه الأيام والشهور والسنون، أمَدُهُ استكمال المهمة، فلا استبطاء ولا استعجال .. ومن سابق الزمن سبقه وفاتته النتائج، فلكل أجل كتاب.
ثم تبدأ عمليات الإصلاح الشامل الذي لا يُطيقه ولا يقدر عليه الأفراد المصلحون وحدهم، إنّما هو من مهمة الأمة الصالحة .. وعندئذ يُمكن لمن أنجزوا ذاك الإنجاز، وهنيئاً لهم، أن يتحدثوا عن دولة إسلامية على منهاج النبوة، وليس قبل ذلك أبداً..!
فيا أهل الشام .. إنّ سُكناكم الشام ليس تشريفاً، إنّما هو تكليف، وأي تكليف..! فأعيدوا قراءة النصوص السابقة وأمثالها، واعملوا بمقتضاها، وأروا الله ورسوله والمؤمنين من أنفسكم .. والحمد لله رب العالمين