العنوان جزء من حديث نبوي، تمامه: (ما أخشى عليكم الفقر، ولكنّي أخشى عليكم التكاثر. وما أخشى عليكم الخطأ، ولكنّي أخشى عليكم التعمد).
والكلام في معنى الحديث جملةً: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخش على المسلمين أن يقعوا في الفقر، ولكنّه خشي عليهم أن يقعوا في التكاثر. وما خشي عليهم أن يقعوا في الخطأ، ولكن خشي عليهم أن يقعوا في التعمد .. وباختصار شديد: فالتكاثر شر من الفقر، والتعمد شر من الخطأ .. وفي التفصيل القادم بإذن الله زيادة بيان.
أما الشق الأول من الحديث، فليست بُغيتي الكلام فيه الآن، إنّما الهدف إفاضةُ الكلام في الشق الثاني. ولكن لا يمنع أن أنظر في الشق الأول نظرة عَجْلى، تكون تذكرة سريعة نافعة بإذن الله.
فالفقر لا يحبه الناس ولا يبغونه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر في عدة أحاديث، منها: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الفقر وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظلم). وجاء في حديث طويل وهو من دعائه عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه: (وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ). وفي حديث آخر طويل، كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ فيقول: (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ). فالفقر فتنة ومشكلة في حياة الناس، لكنّ فتنة الغنى قد تكون أطغى وأخطر..! وقد جاء ذلك في استعاذة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى) .. ولنتذكر قول ربنا: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى).
وأنهي كلامي العَجِل، عن الشق الأول من هذا الحديث، بإيضاحٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (أَتَيْتُ النَّبِىَّ وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ: (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِى مَالِى – قَالَ – وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ)).
وعن أبي هريرة، كما في مسلم أيضاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِى مَالِى إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاَثٌ مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ).
وإلى تتمة موضوعنا عن شق الحديث الثاني، إن شاء الله:
ممارستان خطيرتان يتورط فيهما كثير من المسلمين: الخطأ والتعمد .. والثانية شر من الأولى وأخطر. وإلى التفصيل، وليكن على شكل وقفات .. ولعلي أبوح بقصدي من استعمال لفظة: وقفات، فإنّ الواقف في الغالب أسرع من القاعد في نشدان حاجته، فطول الوقوف يتعبه..!
الوقفة الأولى: يقول عليه السلام، كما يروي عنه أنس رضي الله عنه: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ). فالمُسَلَّمَةُ الأولى في الحديث (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ) تُفسَّر أنّ الخطأ اكتسبه بنو آدم وراثةً من أبويهم يوم عصيا ربهما فأكلا من الشجرة التي نُهيا عنها، بإغراء إبليس ووسوسته: (وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) .. ويأتي تأكيدٌ لهذه المُسلمة في الترمذي، في آخر عبارة من حديث طويل: (فَجحد آدم فَجحدت ذُريَّته، وَنسي آدم فنسيت ذُريَّته، وخطئ آدم فخطئت ذُريَّته).
ولا بد، قبل أن نغادر هذه المسألة، من طرح سؤال: هل يحق لبني آدم أن يحتجوا بما سبق، فيبرروا خطأهم، بل ذنوبهم؟
والجواب باختصار: لا .. لأنّ من يحتج بأنّه ورث عن أبويه الخطيئة، نرد عليه احتجاجه قائلين له ألم ترثْ عن أبويك أيضاً سرعة التوبة بعد الخطيئة..؟ (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وفي الآية الأخرى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى). ويكون بذلك قد سقط الاحتجاج بالقدر تبريرا للذنب، وهو ما ابتلي به كثير من الناس لجهلهم. وما أجمل تلك القاعدة التي قعدها السلف: (يُحتج بالقدر في المصائب، وليس في المعايب).
وعلينا أن لا ننسى النصف الآخر من الحديث (وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ). فما أعظم دين الله! وما أرحم الله، وما أكرمه، وما أحلمه! إذ جعل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه أمام عباده الخطائين. وما أرجى حال المؤمن مع ربه حين يقرأ قول نبيه: (التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ). وقوله في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ).
وقوله في الحديث المتفق عليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنبا قالَ: رب أذنبت ذَنبا آخر فَاغْفِر لِي فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ).
وحاشا أن تكون الأحاديث الأخيرة تشجيعا على اقتراف المعاصي، كما يظن أصحاب الفهم المُغرِض، أو الفهم السطحي للنصوص..! إنّما هي لدفع اليأس عمن غلبت عليهم شِقْوَتُهم، فعصوا الله! (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). وقوله تبارك وتعالى في الآية الأخرى: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
مما سبق نخلص إلى أنّ الخطأ من طبيعة البشر، وقد شاء الله برحمته أن يكون في التوبة أوسع مخرج من وزر الخطأ. لذلك قرأنا في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى على أمته الخطأ، لأنّه معفوٌ عنه، إن لم يكن مقصودا، وقد علَّم الله المؤمنين أن يقولوا في دعائهم (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ). وإن كان الخطأ عن تقصير، وسوء تقدير، أو بعبارة أخرى متعمدا، فإنّ التوبة تَجُبُّه. فالخطأ، إذن، مغفور في الحالين السابقين؛ عند القصد بالتوبة، وعند عدم القصد بالبراءة.
الوقفة الثانية: وهي مع التعمد الذي يخشاه رسول الله على أمته .. فما هو التعمد؟
التعمد إرادة الشيء وتقصيه عن اعتقاد واصرار. ولنحدد المعنى في ما نحن في صدده، فهو (تعمد الخطأ، وبتحديد أكثر مخالفة نصوص الوحيين).
نجد في لسان العرب: (المُخْطِئُ: مَنْ أَراد الصَّوَابَ، فَصَارَ إِلَى غَيْرِهِ، والخاطِئُ: مَنْ تعمَّد لِمَا لَا يَنْبَغِي، وَيُقَالُ: قَدْ خَطِئْتُ إِذَا أَثِمْتَ، فأَنا أَخْطَأُ وأَنا خاطِئٌ؛ ويَقُالُ: خَطِئْتُ: لِمَا صَنَعه عَمْداً، وَهُوَ الذَّنْب، وأَخْطَأْتُ: لِمَا صَنعه خَطَأً، غَيْرَ عَمْدٍ).
والخَطِيئةُ: الذَّنْبُ عَلَى عَمْدٍ. ومنها قَوله تَعَالَى: (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أَيْ: آثِمِينَ. وفي سورة يوسف، أيضاً، جاء الكلام عن امرأة العزيز: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ). وجاء في التنزيل الحديث عن أئمة الكفر في سورة القصص: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ). وإخوة يوسف لما اعترفوا بخطئهم المتعمد في حق أخيهم، أمام أبيهم، قالوا كما في الكتاب الكريم: (قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ).
وواضح كل الوضوح، أنّ كل الخطأ المتحدث عنه في الأيات السابقة خطأٌ متعمدٌ يصحبه الإصرارُ والإرادةُ، فجاء التعبير عنه بلفظة خاطئين وليس مُخطئين. وفي قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). نلاحظ أنّ الخطأ المجرد عن التعمد لا إثم فيه، لعبارة: وليس عليكم جناح. أما التعمد ففيه الإثم، وإضافة التعمد إلى القلوب دليل على الإرادة والإصرار.
وفي ظني، أنّ الفرق بين الخطأ والتعمد، من حيث المعنى والحكم الشرعي المترتب على كل منهما صار واضحاً .. وبالتالي فقد صار واضحا أيضاً، لِمَ لا يخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته الخطأ، ولكنّه يخشى عليهم التعمد.
ولقد ذكرت في مطلع حديثي الجملة الآتية: (ممارستان خطيرتان يتورط فيهما كثير من المسلمين:
الخطأ والتعمد. والثانية شر من الأولى وأخطر…) ولعل هذه الجملة ستحدد موضوعات الوقفات التالية ما دام الكثير من المسلمين متورطين في قضيتي الخطأ، والتعمد، فإلى البيان:
ذكرنا في مستهل حديثنا أنّ الخطأ من طبيعة خَلْق الإنسان، لأنّه إرث من أبوي البشر. وذكرنا أنّ الخطأ غير المتعمد لا إثم فيه، وكذلك الخطأ المتعمد إن أعقبه توبة وندم، وذكرنا أدلة على ذلك .. لكنّ الكلام في التعمد سيطول، وتكون الوقفات القادمة عن التعمد إن شاء الله. والذي أريد التأكيد عليه قبل المضي في الموضوع أنّي أقصد بالتركيز الدقيق على لفظة وفكرة التعمد، تعمد مخالفة أصول دين الإسلام ونصوصه، وهي: الوحيان القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة.
الوقفة الثالثة: وأستبق الشرح لأقول إنّ الكثير من المتورطين في التعمد لا يعلمون أنّهم متجاوزون إلى المنطقة المحرمة، بل يظنون أنّهم يحسنون صنعا. وليس من سبب لهذه المغامرة إلا الجهل والمكابرة .. وإليكم هذه المعادلة: جـهـل + مـكـابـرة = مــغــامــرة
ومن ذا الذي يرضى المغامرة في الدين..؟! وتفصيل هذه المعادلة، والمغامرة سيدخلنا في العمق، وفي
مناقشات الممارسات.
ولا بد من مفتاح يدخلنا إلى صلب الموضوع، وإنّه للسؤالُ المهم الذي لا بد من طرحه: ما هو الأصل والمرجع في دين الله؟
والجواب الذي لا اختلاف فيه، بل لا يجوز فيه اختلاف، أنّ الأصل في الدين نصوص الوحيين من كتاب الله، وما صح من سنة رسول الله .. وأن يكون فهم تلك النصوص، والعمل بها، موافقاً فهم السلف .. وكلمة السلف ليست سردا لأسماء أشخاص، كما يحب بعض المتهوكين تصوير ذلك. إنّما السلف أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وقمتهم صحابة رسول الله، رضوان الله عليهم أجمعين. والعنوانَ الكبيرَ لما كانوا عليه، وذلك هو المنهج الحق، في دين الإسلام: (ما أنا عليه وأصحابي). ليس هذا كلام بعض البشر، إنّما هو كلام سيد البشر، موحىً به من الله تبارك وتعالى.
وكل من يعتقد اعتقاداً، أو يقول قولاً، أو يعمل عملاً، في دين الإسلام، لا بد أن يوافق (ما أنا عليه وأصحابي) حذو القذة بالقذة، وإلا كان ردًا على فاعله أو قائله، لقول الله تبارك وتعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .. وقول رسوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَد). فهل هذا الأمر الهام قائم اليوم في حياة الناس الدينية؟ الجواب دون مكابرة، أو مجاملة، أو تضييع للحقيقة، لا. فلماذا؟ هذا موضوع الوقفة الآتية إن شاء الله.
الوقفة الرابعة: إنّ هذا الانفراج الواسع بين أصول الدين، وما عليه أكثر المسلمين، قولاً وعملاً، في تدينهم اليوم، لم يحدث في يوم وليلة، إنّما هناك أسباب موضوعية تراكمت وتراكبت مع مرور الزمن، لتوصل إلى الحالة الحاضرة.
ولا أريد أن يفهم من كلامي هذا، أنّ ما حدث لم يلق معارضة ومعالجة من العلماء المصلحين! إنّ التاريخ سجل لنا أسماء ومواقف لمحاولات إصلاحية لم تنقطع، ولم تتوقف أبدا، على مر القرون. ولنذكر للتمثيل فقط وليس للحصر ابن تيمية رحمه الله، وسيرته غير خافية .. ولكن الخرق اتسع على الراقع، ويغنينا عن التفصيل والخوض، بلا برهان، في تقصي الماضي، قول ربنا: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
على أنَّ تحديد الأسباب الموضوعية ضروري، لتحديد المشكلة وتوصيفها، والبحث في طرائق المعالجة. ولعل ما يأتي هو أبرز الأسباب لوقوع المسلمين اليوم في ما خافه عليهم نبيهم، فصار ديدنهم في تدينهم التعمد (وهو تعمد مخالفة النصوص)، ولا يُنفى سواها من أسباب. وسأتوخى الإيجاز في شرح ومناقشة كل سبب، ما استطعت، وبما يخدم إظهار الصورة واضحة. وإلا فكل سبب يحتاج في تقصيه كتابا كاملا يكرس لذلك:
1. التعامل الخاطيء مع المذاهب
الحقيقة التي طُمست، لطغيان العصبية المذهبية، أنّ أئمة المذاهب الأربعة هم سادة الأمة، وصفوة علمائها، وكان كل منهم على ثغر علمي معرفي، أفنى عمره في أن لا يؤتى الإسلام من قبله .. وكان في الأمة على مر العصور نظائر وأشباه لأولئك الأربعة، فعلوا مثل فعلهم، فرحم الله الجميع وأجزل مثوبتهم .. والذي غُلِطَ على الأربعة من قِبَل أتباعهم، أن صُوِّرَ للأمة أنّ كل واحد منهم كان حريصا على جمع و تأليف مذهب فقهي.
ولا أفتأ أقول دائماً: لو أنّ الأئمة الأربعة بُعثوا اليوم أحياء لكانوا حرباً على الواقع المذهبي السائد، ولتبرؤوا منه، ومن غلو أتباعهم فيهم، ومنهم علماء، أيما براءة .. ولنقرأ تلك الكلمة الرائعة التي نسبت إلى أبي حنيفة رحمه الله، حينما خاطب أحد أصحابه: (ويحك يا يعقوب [هو أبو يوسف] لا تكتب كل ما تسمع مني فإنّي قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد). فهل يمكن أن يصدر هذا الكلام عن رجل عاكف على تأليف مذهب..؟
والغلط الأشنع أن يوجب التعصب المذهبي على المسلمين تقليدَ واحدٍ من الأربعة. ولنقرأ البيث الثاني والثمانين من جوهرة التوحيد:
فَوَاجِبٌ تَقْلِيـدُ حَبْـرٍ مِنْهُـمُ كَـذَا حكا الْقَـوْمُ بِلَفْـظٍ يُفْهَـمُ
فمن الذي أوجب تقليدهم؟ وهل يوجب على المسلمين غير الله ورسوله..؟
يقول ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: (وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدُ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ. وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ مَذْهَبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُخْبِرُ بِهِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
ويقول رحمه الله، في موضع أخر من الفتاوى: (فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل فى الدين لقول إلا لكتاب الله عز وجل، ولا لشخص إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته فى القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا الآية. وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل إتباع الأئمه والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم. وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه ولا يناجز عليها، بل لأجل أنّها مما أمر الله به ورسوله أو أخبر الله به ورسوله، لكون ذلك طاعة لله ورسوله).
ولنقارن هذا الكلام العلمي الشرعي المنطقي مع كلام متعصبة المذاهب، البعيد عن الحق؛ يقول أحمد الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: (ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر).
وأما الطامة التي أفرزها ذلك التعصب الذي أوجب التمذهب، فخطيرة جداً في نتائجها. فمعلوم أنّ المذاهب الأربعة غير متفقة في ما بينها حول كثير من المسائل. ومن هذا يكون القول الشرعي الصحيح أنّ اختلافهم مخطيء ومصيب، كاختلاف الصحابة .. يقول الإمام مالك رحمه الله حينما سأله سائل: (رجل عنده قولان مختلفان لصحابيين مختلفين، أهو في سعة؟ فأجاب مالك والله ليس في سعة، وإنّما مخطيء ومصيب وعليه أن يتحرى).
فيَرِدُ على أهل المذاهب أنّه مادام التزام مذهب واحد يجعل المتمذهب يصيب ويخطيء، فهذا يجعل التمذهب غير جائز، لأنّ الأصل في الدين البحث عن الحق، والتزام الإنسان مذهبا لا يخرج عنه، وهو يعلم يقينا أنّه ليس كل ما فيه صوابا، حرام .. والطامة أنّ أهل التمذهب حاولوا سد هذه الثغرة الشرعية بمقولات تنسف ثوابت الدين من مثل (الاختلاف رحمة)، و (الحق يتعدد) و(كلهم عن رسول الله ملتمس).! ليعطوا الشرعية للتمذهب! فهل بعد هذه الجناية من جناية..؟
الحديث قد يطول ولكن في ما قيل كفاية .. وسأكمل الفكرة بحديث نبوي وتعليق عليه لشيخنا الألباني:
جاء في السلسلة الصحيحة في الحديث ذي الرقم (2821)، تحت عنوان (من أشراط الساعة): عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتراب (وفي رواية: أشراط) الساعة أن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار، ويفتح القول ويخزن العمل، ويقرأ بالقوم المثناة، ليس فيهم أحد ينكرها. قيل: وما المثناة؟ قال: ما استكتب سوى كتاب الله عز وجل).
قال الألباني رحمه الله: (فائدة: هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد تحقق كل ما فيه من الأنباء، وبخاصة منها ما يتعلق بـ [المثناة]؛ وهي كل ما كتب سوى كتاب الله كما فسره الراوي، وما يتعلق به من الأحاديث النبوية والآثار السلفية، فكأن المقصود بـ [المثناة] الكتب المذهبية المفروضة على المقلدين. التي صرفتهم مع تطاول الزمن عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما هو مشاهد اليوم مع الأسف من جماهير المتمذهبين، وفيهم كثير من الدكاترة والمتخرجين من كليات الشريعة، فإنّهم جميعا يتدينون بالتمذهب، ويوجبونه على الناس حتى العلماء منهم، فهذا كبيرهم أبو الحسن الكرخي الحنفي يقول كلمته المشهورة: [كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ]. فقد جعلوا المذهب أصلا، والقرآن الكريم تبعا، فذلك هو [المثناة] دون ما شك أو ريب).
2. النزعة العقلية في التعامل مع نصوص وأحكام الدين
وقد بذر هذه البذرة (الخبيثة) المعتزلة، وتلقفها أهل الأهواء. ولم يعد أهل الأهواء يتحرجون من إعلان مقولتهم على الملأ (إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل)، وكتب الأشاعرة تحتوي هذا الكلام، ومذهب الأشاعرة في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى يقوم على العمل بالعقل وترك ظاهر النقل، بدعوى التنزيه، وهل يجوز شرعا تنزيه الله عما لم ينزه عنه نفسه؟!
ولا يخفى، مرة أخرى، على صاحب علم، أنّ الأشاعرة في الأسماء والصفات يخالفون ظاهر القرآن، ويردون صحيح السنة. فإنّهم حين أولوا ظاهر القرآن متابعة لما يقتضيه العقل، واجهتهم الأحاديث التي تبطل تأويلهم، فعالجوا ذلك المضيق الذي وضعوا أنفسهم فيه بإحداث بدعة أو فرية (أنّ حديث الآحاد لا يحتج به في العقيدة)، فردوا بذلك أحاديث صحيحة، حين تركوا العمل بها، ولا شك أنّ ذلك بدعة ضلالة.
وأوضح مثال على ذلك، أنّ الأشاعرة يرفضون القول (إنّ الله في السماء)، ولقد حملت هذا اللفظ عدة آيات في كتاب الله، مثل: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)، فأولوها وغيرها تأويلات باردة باهتة، ولما واجههم حديث معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم، ويعرف بحديث الجارية: (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنْ صَكَكْتُهَا صَكَّةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أفَلا أُعتِقُها؟ قَالَ: (ائتِني بهَا) فأتيتُه بِهَا فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ؟) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: (مَنْ أَنَا؟) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ الله قَالَ: (أعتِقْها فإنَّها مؤْمنةٌ)) ..
وقد رد الأشاعرة وغيرهم الاحتجاج بهذا الحديث قائلين إنّه خبر آحاد، لا يحتج به في العقيدة. حتى النووي، شارح صحيح مسلم رحمهما الله، قال بهذا القول.
3. مخالفة القاعدة العظيمة في الدين: (الحق لا يعرف بالرجال، بل يعرف الرجال بالحق)
في دين الإسلام لا يجوز التمحور حول أحد من البشر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وحده المعصوم، ولا معصوم من بني آدم سواه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى). والإسلام يأمر باتباع النصوص، والعض عليها بالنواجذ .. والكبير، والذي يجوز متابعته من الرجال، هو الأشد التصاقا بنصوص الوحيين.
ولما لم يجعل أهل العقل والهوى الوحي مرجعَهم، صار احتكامهم إلى العقل، واتباع العقل هو اتباعٌ للهوى. وصارت بضاعتهم أرضية طينية، ولكي يرفعوها من حمأة الإخلاد إلى الأرض نسبوا الأقوال إلى سادتهم ورجالهم، ممن يظنونهم أسماء لامعة، لعل الأقوال والأفكار المخالفة تتقوى بتلك الأسماء، وأنّى لهم ذلك..؟ ولقد حذرنا ربنا من هذا الصنيع يوم قصّ علينا قصص الشاردين عن سواء السبيل: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا). فالصراع أرضي تخلى عن رسالة السماء. وبذلك عكسوا القاعدة الصحيحة، ومفهومها الشرعي الصحيح، حين ضخموا دور الرجال في الدين على حساب النصوص.
4. تشويه وتشويش اعتريا كثيرا من المفاهيم الإسلامية
لانغماس بعض العلماء والدعاة في مقولات ومصطلحات دخيلة على الإسلام والمسلمين. وبدؤوا يطرحون ذلك بحماس واندفاع، فسحروا بذلك أعين وآذان كثير من الناشئة. ومن مقولاتهم: الاختلاف رحمة،
الرأي والرأي الآخر،
الحوار أولاً،
عدم مصادرة الآخر،
تجديد الخطاب الديني،
التيسير وعدم التضييق،
تقسيم المفتين إلى متشددين وميسرين،
طرح الوسطية في الدين بمفهوم سياسي (إمساك العصا من الوسط)، وليس بمفهومها الشرعي،
تسويق أفكار التقارب بين الأديان والمذاهب وكل الاتجاهات المختلفة .. وكل تلك الأفكار مستوردة من عالم الكفر، واستوردنا معها تسمية جديدة غريبة منكرة تناسبها، وهي لفظة (مفكر) لتحل محل لفظة عالم أو داعية. وبحَسْبِ تلك اللفظة الغريبة نكارةً، أنّها تنسب الرجل المسلم، من النخب، إلى العقل والفكر، بديلا عن نسبته إلى علم الوحيين! وبكل أسف صار بعضهم يسارع إلى التحلي بها، والانتفاش بحملها، مؤثرا إياها على الألقاب الإسلامية، ليثبت أنّه عصريٌ، حينما صارت (العصرنة) عند المتفلتين ديناً.
ولما كان أهل الكفر يفتقدون الثوابت السماوية، جعلوا ثوابتهم العقل والفكر والتجربة الإنسانية، واستوردها منهم بعض علماء المسلمين ودعاتهم، بعد أن تخلوا عن الوحي، واستهواهم ما هو أرضي طيني. والأعجب أنّ بعضهم صاروا يتسابقون للاستدلال لصحة هذه الأفكار الأرضية بالوحي .. ولا ينقضي عجبي من أحدهم وهو يتحدث عن الحوار وضرورته وآدابه، فبلغ به الحماس أن قال (هذا ربنا حاور إبليس)..!
وأريد في الختام أن أضيف فكرة أساسية: أنّ من قام بتسويق تلك الأفكار الأرضية هم أصحاب الإسلام السياسي. وذلك طبيعي جدا، لأنّ تلك المقولات قواعد عند أهل الكفر، لتضبط واقعهم السياسي مع غياب الثوابت الدينية العلوية. وأتى بها، تقليداً، أهل الإسلام السياسي إلى بلاد المسلمين متجاهلين كفاية الله (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
لقد كان ما مر في الوقفة الماضية شرحا مختصرا للأسباب الموضوعية التي جعلت بعض نخب المسلمين تُحَكِّم في الدين قواعد مستوردة من أمم الأرض، خلبت أنظارهم وعقولهم على أنّها عناصر التجديد للحياة المعاصرة، التي صار على المسلمين لزاما القفز إليها، بعد قرون الركود والتخلف، وكان ذلك بديلا عن تحكيم وحي السماء.
ومع إضافة ما جاء في الوقفات السابقة الأخرى، أحسب أنّ الصورة صارت واضحة متكاملة، في تبيان الأسباب التي أوبقت الناس، كما ذكرت قبلاً، في ما خشي عليهم نبيهم منه، وهو التعمد، أي تعمد المخالفة لنصوص الوحيين، وهي أصل الدين، تحت دعاوى وعلل شتى، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا .. وهاهم قد وقعوا في المحذور، وفي شر أعمالهم، فهل من مُدَّكِرٍ؟
والموضوع برمته شاهد، لكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، على أنّ الذي أزرى بالمسلمين اليوم، بعدهم عن الوحيين، علماً وعملاً ودعوةً .. ثم أن يكون فيهم سماعون لدعاة الضلالة، الذين يريدون أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإلى الله المشتكى.
وخلاصة الخلاصة لكل ما قيل، تكمن في السؤال الصريح المُلِحِّ؛ الذي يبريءُ ذمة السائل، ويقيم الحجة على الفاعل: ماذا يبقى من الإسلام عند من يتعمد أن يخالف ما جاء عن الله ورسوله لأي سبب كان..؟ وهل اشتق اسم الإسلام إلا من الاستسلام: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) .. والحمد لله رب العالمين