عبارة العنوان من كلام ورقة بن نوفل ابن عم خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع منه ما جرى له في غار حراء: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ). وأضاف ورقة في آخر كلامه: (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) والقصة معروفة في السيرة .. ومما يُناسب ذكره، ما جاء في الحديث الصحيح: عن عائشة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا ورقة بن نوفل فإنّي قد رأيت له جنة أو جنتين).
وأريد توظيف عبارة ذاك الرجل الصالح (ورقة) مرتين:
الأولى: أنّ مُعتركات الحياة على الأرض تفرز الناس تلقائياً وطبيعياً إلى فسطاطين، يفرض ذلك عامل السن .. فيتقاعد (بالتعبير الوظيفي الشائع) الكهول والشيوخ عن كل جهد جسماني، وتبقى لهم المهمات العقلية والمعنوية في التوجيه والتدبير .. وجيل الشباب يقوم بالعمل الشاق من أجل البناء وقيام الحياة، مُستهدين بتجارب الفريق الأول .. وأكبر بلاء يُصيب أي تجمع بشري أن لا يُدرك الناس فيه هذا الأمر الحياتي الطبيعي، فيعيب كل فريق الآخر ويطالبه بما لا يقدر عليه، فتضيع الواجبات بين هذا وذاك، فلنحذر.
على أنّ الدّين لا يقبل مفهوم (التقاعد) الذي يساوي معنى العجز في بعض الأحيان، فما لا يقدر عليه الإنسان بفعله يُدركه بأمنيته أو بنيته الصادقة، وهذا ما حرص ورقة، وهو العجوز الذي حلب الدهر أشطره، وكان له من علوم الأديان ما أدرك من خلاله الحقيقة التي نتحدث عنها، فصرح قائلا: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ) لماذا يتمنى ذلك؟ ليكون له دور في مؤازرة نبي، وإرساء قواعد دين، يرجو بذلك الله والدار الآخرة (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) .. فلم يُرد ورقة بتلك العبارة أن يُسجل موقفاً ودياً ودبلوماسياً عند ابنة عمه خديجة وزوجها النبي المرتقب..! إنّما أراده موقفاً يكون له ذخراً أخروياً.
والثانية: أن أُذَكِّر كل مسلم ومسلمة بشيء يمكن أنّهم نسوه لقلة تنبيه العلماء والدعاة عليه، بل إنّ بعض العلماء والدعاة يفوتهم ذلك بدليل بعض الممارسات الخاطئة، وسيأتي، إن شاء الله، تفصيل.
أما ذاك الشيء المنسي الذي أحب التذكير به، والتأكيد عليه، فهو موقف دين الإسلام من النية، ودورها في حياة الفرد المسلم الدينية، وتطبيقات ذلك، وأبدأ بذكر النصوص التي تتناول هذا الموضوع:
1. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ).
2. عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه).
3. عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
4. عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ).
5. عن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نفرٍ: عبدٌ رزقَه اللَّهُ مَالا وعلماً فهوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَعْمَلُ لِلَّهِ فِيهِ بِحَقِّهِ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النيَّةِ وَيَقُول: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فأجرُهما سواءٌ. وعبدٌ رزَقه اللَّهُ مَالا وَلم يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَتَخَبَّطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ بِحَقٍّ فَهَذَا بأخبثِ المنازلِ. وعبدٌ لم يرزُقْه اللَّهُ مَالا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ نِيَّتُهُ وَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ).
6. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق).
لا أشك أنّ معاني الأحاديث السابقة واضحة لا تحتاج مزيداً .. والأحاديث كلها ينتظمها سلك (التأكيد على دور النية في الدين، وأنّ من فاته العمل لعائق خارج عن إرادته نفعته نيته وأُجِر بها). لكنّني أريد في عجالة تحديد بيت القصيد في كل حديث.
ففي الحديث الأول: بيان شاف أنّه لا قيمة لعمل لا يصدر عن نية مُنعقدة في القلب، وأنّ اللهُ مطلع على النوايا ويجزي بها.
وفي الثاني: رجل خلصت نيته وصحت إرادته للقيام والصلاة في جوف الليل فغلبته عيناه (كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه).
وفي الثالث: الشهادة وهي أعظم منازل البشر عند الله، يبلغها العبد إذا خلصت نيته في طلبها ولكن فاته ذاك العمل الجهادي.
وفي الرابع: أقوام فاتهم اللحاق بركب النبي عليه السلام للجهاد لأعذار شرعية قبلت منهم، ويُعلن النبي صلوات الله وسلامه عليه في أرض المعركة أنّ لأولئك أجر من شهد الغزوة.
وفي الخامس: رجل يُعجب بعمل عامل في توظيف المال لطاعة الله، فيتمنى لو يستطيع عمل ذاك الرجل، صادقاً، لكنّه لا يملك مالاً، فجعلهما الرسول في الأجر سواء. والمسألة في الاتجاهين صحيحة، فمن تمنى العمل بعمل من لا يخشى الله ولا يحرص على طاعته، فهو موزور مثله بنيته رغم أنّه لم يعمل.
وفي السادس والأخير: نقف عند عبارة (ولم يحدث نفسه بالغزو) فهي كناية عن النية، فمن حدّث نفسه بالغزو وصدقت نيته في ذلك، بريء من وزر من لم يغز ولم يُحدّث نفسه.
أحسب أنّني استطعت إيصال فكرة دور النية في حياة الإنسان، وكيفية الانتفاع بها عند الله، وأنّها قد توصل العبد إلى ما يوصله إليه العمل من الأجر، ولو لم يعمل، وأنّه ليس في الإسلام حرمان لمن حبسه عن العمل المقرب من الله حابس ليس من كسب يده .. وكل ذلك من فضل الله ورحمته على بني آدم.
الشيء الأهم الذي أُريده من وراء كتابة هذه السطور بيان أنّ الناس غفلوا عن هذا الخير، بل غفل بعض علمائهم، وأدخلوا الناس في طرق الفتوى الملتوية…! وحتى أُبريء ذمتي، وأُبعد عن نفسي أنّي أتهم بلا برهان، أذكر المخالفات الشائعة بين الناس اليوم، والمصادمة لفقه الأحاديث المذكورة، وتطبيقاتها العملية، وإليكم النماذج:
* امرأة تملك كل أسباب الاستطاعة للحج، ولا تجد المحرم، فيجد الإنسان أمام الحالة هذه عجائب من الفتاوى، كالإذن لها بتجاوز المحرم والسفر مع صحبة مأمونة. ومنهم من يُفتي بعقد زواج صوري على رجل صالح فترة الحج، ولا يعلم ما يجري بينهما من مخالفات إلا الله..! والأدهى أنّني أعرف أشخاصاً ومشايخ فعلوا وأفتوا بأن يُعقد لرجل عازم على الحج على ابنة المرأة العازمة على الحج ولا تجد محرماً، والبنت طفلة في السنتين أوالثلاثة، فتصبح الأم حماة الرجل وتصاحبه للحج، فإذا عادا من الحج طلق البنت، ولا يخفى ما يحدث في رحلة الحج تلك..! ولو رفعت عقيرتك تستنكر لتلقيت جواباً واحداً وبنبرة عالية (تريد أن نحرمها الحج وهي قادرة عليه..؟) .. أقول لكل هؤلاء ما قلته سابقا: (لا حرمان في الإسلام…) ولو فقهتم أنّ هذه التي أرادت الحج ولم تسافر إليه لعدم وجود المحرم طاعة لله ورسوله، سيكتب لها أجر أفضل حجة وهي نائمة في بيتها مع أهلها وفي بلدها .. ولتركتم ركوب الصعب والذلول لإرسالها للحج، وقد أعنتتها عقولكم، لكن الله يسر عليها.
* رجل حالت الأنظمة المطبقة في بلاده مثل القرعة للحج، أو تحديد العدد بسنوات ميلاد محددة، لقد رأينا والله العجب مراراً وتكراراً في مثل هذه الحالات. فمن دفع للرشاوى من أجل الحصول على السماح أو التأشيرة، ومن كذب إلى حد أن طبيباً أو مهندساً يسجل إسمه مع الجزارين والقصابين، الذين يُتعاقد معهم للعمل في السعودية في فترة الحج، ليؤدي حجة رخص، ينقصها من أطرافها.
* أشخاص مكلفون بمهمات وأعمال في مناطق المشاعر لخدمة الحجاج، وتحظر عليهم الجهات المكلفة أداء الحج حتى لا يتركوا أعمالهم. فيحجون دون ملابس الإحرام لكي لا تكشف مخالفتهم (ويذبحون) ونجد من يفتيهم.
* آخرون مقيمون في السعودية، وتمنع الأنظمة عليهم تكرار الحج فلا يُعطون موافقات، فيصل أحدهم إلى الميقات ولا يحرم بل يدخل بلباسه المعتاد، و(ويذبح) ويُسأل على حواجز التفتيش مرات هل أنت حاج فيقول لا.
* وكم نرى في كثير من بلاد الإسلام حالات من القتال يعتبرها من يتولون كبرها جهاداً شرعياً في سبيل الله، وليس فيها من مقومات الجهاد وضوابطه الشرعية شيء، إلا إراقة الدماء وتوريط المسلمين. ومن وراء ذلك شباب سيطر عليهم الجهل، وغلبة العواطف، يطلبون الشهادة في غير سبلها الشرعية .
في كل الحالات المذكورة لو فهم الناس، ومن يُفتيهم، أنّ من صدقت نيته وحيل بينه وبين العمل نال أجره ولم يُحْرَم .. فلِم الكذب والغش والاحتيال ومخالفة الأحكام و..و..و.. ثم تجد رفع الصوت، نُريد الأجر.
لا أُريد الإطالة وأتمنى أني وُفقت في إيصال الفكرة .. وأُنبه إلى وجه الغرابة في ما ذكر، وهو ابتغاء الأجر ورضا الله، في ما لا يُحبه الله من لف ودوران، وترك السبيل الشرعي الميسر والمستقيم.
بقي سؤال يُحيرني: هل سبب ذلك الجهل، أم تقديم العقل بين يدي النص؟ أخشى من الاتهام في الاحتمالين، وليُحاسب كل نفسه.
ولا يفوتني في النهاية التنبيه إلى توظيف خاطيء للحديث الأول الذي يعدّه بعض العلماء من قواعد الإسلام، وهو أن تجد تجاوزات شرعية في أعمال كثيرة، وحينما تعترض ينبري المُخلط للدفاع عن نفسه، أو يتطوع غيره بالدفاع عنه بقول (إنّما الأعمال بالنيات) فالرجل نيته طيبة وإن أخطأ في العمل لظروف قاهرة..! .. الذي أريد بيانه وتأكيده: أنّ النية مهما صلحت لا تُصلح فساد العمل.
أختم بفعل للإمام أحمد، وكلام لمالك بن دينار: أما الإمام أحمد فقد روي عنه: (لما كان في سجنه، أنّه إذا سمع النداء بالجمعة اغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه، حتى إذا وصل الباب رده السجان).
وأُثر عن مالك بن دينار قوله: (إنّ صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر، وإنّ صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله) .. والحمد لله على نعمائه