Skip to main content

يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا

By الثلاثاء 5 ربيع الثاني 1438هـ 3-1-2017ممحرم 21, 1441مقالات

حال المسلمين اليوم تجاوزت، في السوء، مرحلة أطلنا الوقوف عندها ومعها فملَّتْنا ومللناها، وهي الوعظ والتوجيه، والترغيب والتنبيه .. وجاءت، اليوم، حالةٌ تقتضي تغيير الخطاب إلى التخويف والتحذير، والزجر والنذير، ولعل ذلك أدعى للتغيير .. بعد كل ما نزل من الأهوال، ولم يُحدث صحوةً أو اعتبار..! والعلاج الأنجع لإصلاح حال الناس إسلامياً، تذكُّرُ الآخرة في كل شأن وعلى أي حال، وهذه الفكرة تتضمنها الآية الكريمة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

وفي التحرير والتنوير: (وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: «يَا مُحَمَّدُ ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ». وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ).

ولا عجب أن تكون آخر ما أُنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، ففيها الوازع على فعل كل ما يرضي الله ويحقق الفوز الأخروي (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) .. وفيها الرادع عن فعل كل ما يسخط الله وينذر بسوء العاقبة. إنّها خلاصة الخلاصة لكل ما جاء في القرآن من أمر ونهي، ولكل ما حملته تعاليم الإسلام من تكليف، يُفَعِّلُه في كل نفس مؤمنة، الاستحضار الدائم لحقيقة المعاد، والرجعة إلى رب العباد، للمثول للحساب، وتلقي الثواب والعقاب، وقد كثرت الصوارف، وانغمس الناس بدنياهم، وغابت تلك المعاني من ذواكرهم.

وما أدق وأجمل عبارة سيد في الظلال لدى تفسيره الآية: (إنّ التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير يقيمه الإسلام هناك، لا يملك القلب فراراً منه لأنّه في الأعماق هناك..! إنّه الإسلام، النظام القوي .. الحلم الندي .. المُمَثَّل في واقع أرضي .. رحمة الله بالبشر، وتكريم الله للإنسان. والخير الذي تشرد عنه البشرية، ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان..!).

وتَذَكُّرُ الآخرة يصنع ويصقل النفوس ولنقرأ آية (ص) (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ). إنّ الرسل عليهم الصلاة والسلام أجمعين، هم صفوة الله من خلقه، وصُنعوا على عينه، وقد خصهم الله بصفة خاصة بهم، وهي من جملة اصطفائهم، وهي تذكرهم اليوم الآخر باستمرار. يقول السعدي رحمه الله في تفسير الآية: ({إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} عظيمة، وخصيصة جسيمة، وهي: {ذِكْرَى الدَّارِ} جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم، والعمل لها صفوة وقتهم، والإخلاص والمراقبة لله وصفهم الدائم، وجعلناهم ذكرى الدار يَتذكر بأحوالهم المُتذكر، ويَعتبر بهم المُعتبر، ويُذكرون بأحسن الذكر).

ومما تقدم، ليكن موضوع اليوم ساعة نعيشها خارج ضجيج الحياة، ومعافسة همومنا اليومية، وانشغالنا بالذات. نتحرر فيها من كل هوى وميل. ونبعد عن فطرتنا التي فطرنا الله عليها، كل ما ران عليها من تراكمات الأهواء، وضغوط الشهوات التي حجبتها عن أن تلقي السمع لنداء الحق، وتُخْبِتَ لأوامر خالق الخلق.

وإنّ أعظم مذكر وواعظ لبني الإنسان علوم الغيب وحقائقه التي علمنا إياها الله ورسوله. لتبقينا دوما على الصراط
الذي أرادنا الله له (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَوالجادة التي تركنا عليها نبينا وأنارها لنا بهديه صلى الله عليه وسلم: (لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك). ومن حقائق علوم الغيب تلك، شديدة التأثير في النفس البشرية، حقيقة البعث بعد الموت، والتي تصدم العقل غير المؤمن، بحقيقة أنّ الموت ليس نهاية المطاف إنّما هو بداية النهاية. ولنقرأ ما جاء في تفسير قول ربنا: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ):

ففي تفسير السعدي: (صدر من هذا الإنسان غفلة منه، ونسيان لابتداء خلقه، فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا، لم يضرب هذا المثل).

وزاد الشوكاني في فتح القدير: (وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {جَاءَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَفَتَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَيُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ» فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ يس {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ } إِلَى آخِرِ السُّورَةِ).

وأخطر شيء يواجهه بنو آدم مع حقائق البعث، وكل حقائق الغيب التي جُعل الإيمان بها ركنا ركينا في دين الإسلام، ولنقرأ فواتح البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .. أجل، إنّ أخطر شيء، أن يتصدى لها العقل البشري، غير المستنير بنور الوحي، بالفكر المادي البحت، الذي يرفض التعامل إلا مع الأشياء التي تقع في دائرة ومتناول حواسه الخمس، فلا وجود للإ يمان بالغيب عنده.

ومناسب جداً أن نُذكر بالكلام الرائع لابن تيمية في العقل البشري، والذي يصدق فيه المثل العربي (قطعت جهيزة قول كل خطيب). يقول رحمه الله عن العقل: (إنّه بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه، لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها).

فلنعش مع مشاهد البعث، من خلال النصوص، وهي من القوارع لعلنا نقترب فنعيش الحالة الإيمانية، التي عبر عنها حنظلة رضي الله عنه: (يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا). وليس السبيل إلى مذاكرة البعث، وكل أمر غيبي، إلا استحضار نصوص الوحيين والعيش معها بكل جارحة. دليل ذلك، عن ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين فليقرأ {إذا الشمس كورت} و {إذا السماء انفطرت} و {إذا السماء انشقت}).

وإلى نصوص البعث:

قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُر ُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرض بِنُورِ رَبِّهَا و َوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ما الصور؟ قال: (قرن ينفخ فيه)) .

ومَن النافخ فيه، إنّه مَلَكٌ كريمٌ، وُكِّلَ به، وتذكر الروايات أنّه إسرافيل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ طَرْف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأنّ عينيه كوكبان دريان).

أيها الإخوة: هذه الحقيقة عن صاحب الصور، نتلقاها ولعلها لا تحدث فينا أثراً .. ولا تستدعي منا نظراً..! فانظروا أثرها على نبيكم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والموعود بالمقام المحمود:

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعمَ الْوَكِيل).
يتساءل صلى الله عليه وسلم كيفَ ينْعَم بالا، وكيف يُمتَّع في هذه الدنيا الفانية والأمر جلل، وأمده قريب، والحساب وشيك. وجاء في (تحفة الأحوذي): (كَيْفَ يَطِيبُ عَيْشِي وَقَدْ قَرُبَ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّورِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ وَضَعَ رَأْسَ الصُّورِ فِي فَمِهِ، وَهُوَ مُتَرَصِّدٌ مُتَرَقِّبٌ لِأَنْ يُؤْمَرَ فَيَنْفُخَ فِيهِ…).
ويشق الأمر على أصحابه، فيسألونه المخرج ويجيبهم (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل). إجابة قصيرة مركزة .. فماذا نفهم منها..؟ ليس لِمُشكلةِ ذاك اليوم العظيم من حل إلا: (لا ملجأ من الله إلا إليه).

تكون النفخة الأولى (نفخة الصعق)، كما سماها العلماء، فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، وإنّه لموقف فيه من الهول والفزع والمفاجأة ما يعصى على أي وصف .. ولنعش بكل حواسنا ومشاعرنا مع الصورة المرعبة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم، لحال الناس بعد النفخة الأولى نفخة الصعق. وفي المتفق عليه من رواية أبي هريرة: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يَتَبَايَعَانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلاَ يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهْوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلاَ يَسْقِى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُهَا).

وجاء في الفتح: (يَلِيطُ حَوْضَهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَبِضَمِّهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَالْمَعْنَى يُصْلِحُهُ بِالطِّينِ وَالْمَدَرِ فَيَسُدُّ شُقُوقَهُ لِيَمْلَأَهُ وَيَسْقِي مِنْهُ دَوَابَّهُ).

ينتهي كل شيء في لحظة .. وتتوقف الحياة بكل أنشطتها بنفخة .. ويواجه الكون بكل ما فيه نهاية محتومة لطالما ذُكِّرَ بها من كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد .. وأخطر من ذلك كله أنّ العمل انقطع ولا رجعة إلى الوراء .. فأين المفر..؟

وفي مسلم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَطْوِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِى الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ). وفي رواية لابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (يَأْخُذُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمَوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ فَيَقُولُ أَنَا اللَّهُ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الْمَلِكُ) حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَىْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّى لأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ).

هي الحقيقة التي صد عنها البشر، بعقولهم وأهوائهم، والآن، يرونها عين اليقين؛ هو الأول فلا شىء قبله، وهو الآخر فلا شىء بعده، وهو الظاهر فلا شىء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو السميع العليم.

ثم تأتي النفخة الثانية وهي (نفخة البعث) (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)، وكم بين النفختين..؟ لا يعلم حقيقة الأمر إلا صاحب الأمر علام الغيوب..! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنّه صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ). قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ. قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ. قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ. قَالَ: (ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً. فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَىْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْمًا وَاحِدًا وَهْوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
متفق

عليه .. ومعنى قوله (أبيت): أي أبيت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فعلمها عند الله.

وفي رواية لمسلم قال: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ).
ثم ماذا يكون..؟

فإذا ما أراد الله أن يبعث الخلائق أتى بهذه العظمة الدقيقة وأتى بجسد كل مخلوق من لدن آدم فركب فيها، ثم نفخت الروح في تلك الأجساد.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المرسلون). وقال تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرض عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ).

ترى كيف يخرج الناس من قبورهم؟! يخرج الناس من القبور حفاة، عراة، غُرْلا، لا نعال في أقدامهم، لا ثياب تغطى أبدانهم. لا شىء يسترهم.

غرلاً: جمع أغرل والأغرل هو الذكر غير المختون.

وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)). متفق عليه

وعن جابر بن عبد الله: (أَنَّهُ بَلَغَهُ حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا، فَشَدَدْتُ إِلَيْهِ رَحْلِي شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ أَنَّ جَابِرًا بِالْبَابِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَقَالَ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ، فخرج فأعتقني، قُلْتُ حَدِيثٌ بَلَغَنِي لَمْ أَسْمَعْهُ؛ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ – أَوِ النَّاسَ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمً). قُلْتُ: مَا بُهْمًا؟ قَالَ: (لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ- أَحْسَبُهُ قَالَ: كما يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ. وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ). قُلْتُ: وَكَيْفَ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةً بُهْمًا؟ قَالَ: (بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)).

وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يُبعَثُ الناسُ حفاةً عُراةً غُرْلاً، يُلْجِمُهم العَرَقُ، ويبلغُ شحمةَ الأُذنِ)، قالت سودة: قلت يا رسول الله واسوءتاه، ينظر بعضنا إلى بعض؟! قال: (شغل الناس عن ذلك. وتلا: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه})).

قال تعالى: (كَمَا بَدَأنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَينَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).

تصور هذا المشهد يا عبد الله لتقف على هول وفظاعة هذا اليوم. يا عبد الله دثر نفسك في هذا اليوم برداء طيب كريم ألا وهو رداء العمل الصالح .. دثر جسدك في هذا اليوم برداء التقوى رداء الطيبات الصالحات الباقيات عند رب الأرض والسموات .. فالعمل الصالح هو القائد الوحيد إلى جنان العزيز الحميد.

ولن يطول عري أهل الإيمان فإنّ الله يكسوهم حللا بحسب أعمالهم الصالحة، يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِى يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِى أَصْحَابِى. فَيَقُولُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ (الْحَكِيمُ)).

ومع شدة الهول، وصعوبة الموقف، ودقة الحساب، فإنّ رحمة الله التي وسعت كل شيء، تنال من أتى الله بقلبٍ سليم، وخشيةٍ من بأس الجبار، وطمعٍ في عفو الواحد القهار:

ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أنّه صلى الله عليه وسلم قال: (أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى ثُمَّ اسْحَقُونِى ثُمَّ اذْرُونِى فِى الرِّيحِ فِى الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّى لَيُعَذِّبُنِى عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا. قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ أَدِّى مَا أَخَذْتِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ – أَوْ قَالَ – مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ).

ولا يفوتكم أيها الإخوة الأكارم في هذا المقام أن تسترجعوا قصة تقرؤونها باستمرار في كتاب الله تبارك وتعالى ولا سيما في أيام الجمع أرادها الله شاهدا على بعث من يموت ليذكر أولو الألباب: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا ءَاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا). الله أكبر .. أماتهم الله هذه السنين ثم بعثهم ليجعلهم آية للناس، إنّه جل وعلا على كل شىء قدير.

أيها الناس .. إنّ حقائق الغيب يقرؤها الإنسان بإيمانه وتصديقه، وليس بعقله وحواسه. ولن يعوض العقل مهما كان كبيرا، ما يفوت المرء من ثمرات الإيمان.

أيها المؤمنون .. إنّ الإيمان الذي لا يرافقه أو يصدر عنه عمل، يستوي مع عدمه في النتائج .. والإسلام لا يعترف بإيمان نظري لا يعدو العقل واللسان. فليكن هم كل أحد تفعيل إيمانه لينتفع به .. واعلموا أنّ اتصال الآخرة بالدنيا وثيق أكيد رغم الفاصل الزمني وهو حياة البرزخ، حتى لكأنّ ملايين السنين يومٌ أو بعضُ يوم .. ولقد أكد نبي الأمة تلك الحقيقة ليكون همنا العمل للآخرة .. وأن لا نراها بعقولنا وأفهامنا بعيدة عنا فنتقاعس عن أن نعمل لها، وأن نسعى لها سعيها. يقول صلى الله عليه وسلم كما يروي مسلم في صحيحه: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ).

وفي قصة الرجل الذي وقصته ناقته في الحج، تأكيد لأمر الاتصال الوثيق بين آخر حال للمرء في الدنيا وحاله ساعة البعث، فالدنيا عمل والآخرة جزاء، ولن يضيع بينهما بقدرة الله مثقال ذرة من عمل. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ – أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ – قَالَ النَّبِىُّ: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا)).

ومن مات قتيلا في سبيل الله: (…جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، والريحُ ريحُ المسكِ).

إنّ بعث الناس على آخر أعمالهم في الدنيا، إقامة للحجة عليهم، لتذكيرهم بما كانوا عليه، وكأنّه الأمس القريب، فليس النسيان وبعد العهد مخرجا..! وأنّ ما سيلقونه في الحساب هو حصائد ما كسبت أيديهم، فلن يجدوا موئلا..! يقول عليه الصلاة والسلام: (يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ) و(إنّ الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها).

فليحذر مسلمٌ أن يُبعث وفي يده كأس خمر يشربه، أو صك ربوي يوقعه، أو في خلوة مع من لا تحل له .. أو على لهو وطرب ومجون .. ولتحذر مسلمة أن تُبعث كاسية عارية كما كانت في الدنيا .. إنّه يوم وأمر خليقٌ أن يحسب له ألف حساب، بل أن يكون كل الحساب له .. (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ). وحاذر أخي المسلم أن تُلجيءَ نفسك بطوعك وإرادتك، أن تقول يوماً من دهرك: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)..! أو تقول:(يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)..! أو تقول: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)..! أو تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ)..!

وبعد البعث يكون الحساب: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ).

ويا من أكملتم معي هذه الرحلة الإيمانية، التي أرجو أن تكون ناجعة وناجحة في تأثيرها أكثر مما كان قبلها من طرائق. أقف بكم عند نهاية الحديث عن صور البعث في الوحيين، وأتـرككم في المحطة القادمة وهي الحساب، إلى هممكم للبحث والتقصي، لصور الحساب وأن تنفعوا أنفسكم بالطريقة التي اتبعناها. ولعله يكون في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ولقد حرصت أن أشارككم اختيار بعض الصور عن الحساب:

(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).

(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

(وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ).

أما الأخيرة، فأرجو أن تتذكر أيها الأخ، وأنت أيتها الأخت، ما لا ينبغي غيابه عن البال أبداً، وهو أنّ مدار الحساب يوم القيامة على سؤال سيلقى على سمع كل واحد من ولد آدم (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ). وبعد أن يدلي المسؤول بجوابه، يُستشْهد عليه نبيه، قال تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فأين المفر..؟

ولأهمية هذين السؤالين اللذين عليهما مدار الحساب الأخروي، فقد جمعهما الله تبارك وتعالى معاً في آيتين متعاقبتين من سورة الأعراف: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).

سؤال يتلوه جواب، ثم شهادة نبي على الجواب، ثم يجلي الله العليم بكل شيء، ما كان أحصاه على الناس وقد نسوه، وقد كان، تقدست أسماؤه حاضراً وما ينبغي له الغياب.

هذا هو الإنسان، قتل ما أكفره..! تكاد الأرض لا تسعه أقطارها في الحياة الدنيا، يرى نفسه سيد الموقف وحده. يتحدى كل شيء، ويُعرض عن أي شيء، ويتمرد على كل شيء. حتى يُزيِّن له غروره أن يتمرد على خالقه، ولو استطاع أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض تمرداً وتحرراً وفراراً، لَفَعَلَ .. وبلحظة ينتهي فيها كل شيء على الأرض، ويجد نفسه وقد أحيط به..! سؤالُ ربه، شهادةُ نبيه عليه، وشهادةُ أعضائه وأبعاضه عليه، فأين المفر؟ هل كنت يا ابن آدم تحسب لهذه اللحظة حسابا في الدنيا، وقد جاءتك النذر وما أكثرها..؟ لا، لقد غرتك الأماني، حتى جاءك أمر الله، وغرَّك بالله الغَرور. ما أعدلك يارب! بينت لعبادك كل شيء سيواجهونه، في الطريقين! وحذرتهم من كل شيء قد يُرديهم، فيكونون من الأخسرين! وما أرحمك بعبادك، تتوب وتتوب وتتوب عليهم، وتعفو عن كثير، تريدهم للجنة وهم يأبون! فسبحانك، سبحانك، سبحانك .. والحمد لله رب العالمين