Skip to main content

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ

By السبت 19 جمادى الآخرة 1435هـ 19-4-2014ممحرم 21, 1441مقالات

استوقفني على تويتر التغريدة التالية:

(لا يتألق جمال النص إلا إذا كان قابلاً في بنيته الأساسية للنظر من زوايا مختلفة، وهنا تتجلى الحكمة من كون معظم الآيات القرآنية ظنية الدلالة!).

وصاحب العبارة صديق قديم .. كان له في النفس موقع .. لكنّ الحق أحب إلي!

لا بُد ابتداء أنْ نُميز بين نصٍ أدبي غايته إمتاع المتلقي ونيل إعجابه بجمالية الأفكار وجمالية الأسلوب، وبين كتاب الله وغايته هداية الناس ونذارتهم (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) و (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). وأجدني في ما أكتب، عزوفاً عن الأخذ والرد، إنّما همّي أنْ أقول ما أدين الله به، فأبرأ الذمة وأقيم الحجة، وذلك حسبي.


سَادَ في يوم من الأيام في الأوساط الدينية علم الكلام وما أفرزه من أفكار تسللت إلى العقيدة والفقه، واستحسنتها عقول كثير من العلماء، فبثوها وأكدوها في الناس. وكُتب أصول الفقه التي بين أيديهم طافحة بتلك المفرزات التي تُشكل تجسيداً لإقحام الفلسفة والمنطق في مباحث الدين. وما كان ذلك ليسود لولا أنّ معيار العقل صار الأساس بديلاً عن معيار النص! وماذا يعصم العقل من الهوى إنْ تفلت من الوحي؟

وانتشر ذلك التوجه بقوة سلطان العصبية المذهبية المخالفة للوحيين أحياناً، وتترسه بالأقوال الموضوعة المفتراة من مثل (اختلاف أمتي رحمة) و (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وصِيغ ذلك التفلت من دلالات النصوص، بعبارة أكثر حداثة وعلمانية لمن اسمه محمد ديب شحرور فيقول: (نريد حدودية النص لا حديته). حتى صار من المُسلّم به عند كثير من أهل العلم أنّ الاختلاف ومخالفة النصوص أصل في دين الإسلام، وله فلسفات تبريرية! وأنه تفلت غايته التيسير!

ولمّا شاء الله أنْ يُعاد الأمر إلى نصابه في نصف القرن الماضي حيث برزت ظاهرة الصحوة العاطفية، وكانت من أبرز المظاهر الملفتة في كل العالم الإسلامي، والتي لم يوفق الدعاة والعلماء إلى ترشيدها بالعلم، فبقيت صحوة عاطفية تتعصب للقديم دون إصلاح! ومن فضل الله أنّه كان من تلك الصحوة جانب صحوته علمية وليست عاطفية، رافقها وسددها، بعد توفيق الله وسائل ووسائط التواصل بدءاً من الكاسيت وانتهاء بالإنترنت. التي أخرجت الشباب من شرانق المشيخة، وإسار التقليد، والجمود على تراث بعض الكتب الصفراء. فبلغت الصحوة غايتها في الترشيد والإصلاح الديني في رد الناس إلى إسلام (ما أنا عليه وأصحابي). وظهرت في كل مكان الأبحاث والدراسات المؤصلة على الكتاب والسنة التي تخالف المألوف، حيث أذن الله للعقيدة الصافية أنْ تتعافى من مس المعتزلة والأشاعرة!، وللفقه أنْ يعود من جديد ليلتصق بعد انفصام طويل بالنص من الوحيين، مُتحرراً من مقولات باطلة طمست عقول وقلوب الناس طويلاً، مثل مقولة الكرخي (كل نص ليس عليه أصحابنا إما مؤول أو منسوخ)، وقول صاحب الجوهرة:

وواجب تقليد حبر منهمُ … كذا حكى القوم بقول يفهمُ


ولا يُنكَر الدور الكبير لكتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وبعدهما الشوكاني في كتابه النيل، ثم جهود معاصرين، وعلى رأسهم الشيخان الألباني والعثيمين، وطلبة علم كثيرون عبوا من هذا المعين، فعادت للنصوص قدسيتها التي سلبت بتحكيم العقل، والتقليد. وكانت في الدين محطة إصلاحية بامتياز، لا يُخطئها نظر. وإنْ كانت لا تزال في المهد.


والقول إنّ آيات القرآن الكريم قسمان: قطعية الدلالة، وظنية الدلالة لا خلاف فيه، لكن الخلاف يظهر كبيراً في التطبيق، والأَوْلى أنْ أقول في سوء التطبيق. فقد جاءت تلك المقولة موافقة لأهواء المدافعين عن ظاهرة البعد عن النصوص، وتسويغ الاختلاف، ووجدوا في مقولة أنّ أكثر آيات القرآن (ظنية الدلالة) غطاء (شرعياً بزعمهم)، يستر مخالفة النصوص، والفتاوى المصلحية الشاردة!.

إنّ آيات القرآن الكريم تُعتبر ظنية الدلالة وتحتمل أكثر من تأويل من خلال اعتبار النظر في أوجه اللغة، والنظر في هوى الباحث. لكنّ المسلمين ليسوا متعبدين لربهم بالأوجه والخيارات اللغوية، وإنْ اعتمدتها أمهات المعاجم، ولا بأهواء الناس، وإنْ كثرت دعاواهم وأعدادهم. إنّما رأس الانحراف في الدين أنْ تستقل اللغة في التعامل مع النص القرآني وتستبعد السنة التي هي بنص الكتاب الكريم المبينة للقرآن، وأنّى للغة أنْ تزاحم الوحي المفسر للوحي! (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). وسيتضح ذلك في الأمثلة.


يضربون المثل في كل الكتب التي تناقش هذه المسألة بمفهوم القرء (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ). فتحوا قواميس اللغة فوجدوا القرء يعني الطهر، ويعني أيضاً الحيض في كلام العرب. فأخذ بعض المذاهب بهذا وبعضها الآخر بذاك، وظنوا أنّهم على خير … لكن فاتهم أنّ نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه اختار من أوجه اللغة أنّ القرء في أحكام الإسلام يُصرف إلى الحيض فقط، وأسقط بذلك العمل بالخيارات اللغوية الأخرى. يقول عليه السلام للمستحاضة: (دعي الصلاة أيام أقرائك، ثم اغتسلي وصلِّي، وإن قطر الدم على الحصير).

فلم تعد المسألة مفتوحة تقبل كل الأوجه اللغوية، بحجة أنّ الآية ظنية الدلالة، وفي الأمر سعة..!.

وجاؤوا إلى قول الله تبارك وتعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) فأشغلوا أنفسهم والناس في كل الأعصار هل هو مجرد اللمس، أم هو الجماع؟ وبرز أهل التألق الذهني، والتمكن الفقهي، فلم يدعوا فناً من فنون البلاغة، وأوجه الكناية والاستعارة إلا ذكروه، ويظهر ذاك الضياع وأهله حينما ينتقض وضوء رجل باللمس على مذهبه، فينبري المتفيهقون، يزفون له البشرى، قلد المذهب الفلاني ولا عليك، ويعلو التكبير والتهليل وحمد الله على اليسر والسعة! ولو أنّهم أراحوا الناس واستراحوا، وأطاعوا ربهم برد المسألة إلى السنة التي هي بيان القرآن، وقرؤوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (عن عائشة: أنه عليه الصلاة والسلام كان يُقبِّل بعض نسائه ولا يتوضأ). فهل هذا هو المرجع الشرعي الصحيح، أم الاحتمالات اللغوية؟ ورحم الله الإمام الشافعي، ما أفقهه وما أورعه، وما أحرصه على صلاح أمر الدين، تدركون استحقاقه لكل تلك النعوت حين تقرؤون ما قال كما في كتاب بداية المجتهد: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (إِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ مَعْبَدِ بْنِ نَبَاتَةَ فِي الْقُبْلَةِ لَمْ أَرَ فِيهَا وَلَا فِي اللَّمْسِ وُضُوءًا).


وفي آية الوضوء في سورة المائدة (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)، جاء أهل اللغة يتبارون هل الباء للتبعيض أم للملاصقة أم وأم؟ وكان يُغنيهم عن ذلك، ويُبين للناس الحكم الصحيح في عبادة الوضوء، لو رجعوا إلى صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كُتب السنة: (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهَ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ردهما حَتَّى يرجع إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ).


وكل الأمثلة السابقة توضح دلالة مقولة تنسب لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه قالها لابن عباس رضي الله عنهما حينما أرسله لمناقشة الخوارج قال له: (لا تجادلهم بالقرآن فإن القرآن حمّال أوجه بل خذهم بالسنن). والمقولة واضحة بنفسها وبطريقة تطبيقها في أنّ المعنى القرآني تضبطه، وتحكمه السنة النبيوية، وهي وحي مثله، وليست اللغة، وأهواء الناس!، ولو دُخِل على النص القرآني باللغة وحدها دون السنة، فمن الممكن أنْ نفهم النص القرآني بوجه لغوي ليس هو مراد الله! ولله در عالم الأندلس، وشيخ أصوليها، الشاطبي يقول في الموافقات: (الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف ،كما أنها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك والدليل عليه أمور).


أين نجد مقولة (ظني الدلالة)؟ إنّ الله قال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ). وكل متشابه يُحمل على مُحكم فيُحكمه، إلا إنْ أُريد له أنْ يبقى متشابهاً في نفس معتقده، والله قد وصفه في الآية! وما أظن إلا أنّ المتشابه هو التعبير القرآني عن المصطلح المحدث (ظني الدلالة) وله أحكامه!.


الحديث يطول … لم تكن النية تقصي كل جوانب المسألة، وإنّما ردّها إلى قاعدة تضبطها. فإطلاق القول إنّ أكثر آيات الكتاب الكريم من النوع (ظني الدلالة) مجازفة كبيرة، تشبه قول بعض الأشاعرة (من قال في الإسلام قولا تقبله لغة العرب، لا يجوز الإنكار عليه). وتشبه قول الشيخ يوسف القرضاوي: (ومعظم نصوص القرآن والسنة كذلك [ظنية الدلالة]. فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو أخذت آية مثل [آية الطهارة] في سورة المائدة، وقرأت ما نقل في استنباط الأحكام منها، لرأيت بوضوح صدق ما أقول…).

أستحلف بالله كل قاريء، إذا كان تسعون بالمائة من نصوص القرآن والسنة تقبل الاجتهاد (مخالفة لقاعدة: لا اجتهاد مع النص) فماذا بقي في الإسلام لله؟ وأي ضياع للدين بعد هذا، فأين تذهبون؟ إنّها منظومة من المقولات يعبأ بها من يُريدون التحرر من سلطان النصوص، ويروجون لها، بدعوى التيسير على العباد .. والدين ليس بالعقل ولا اللغة ولا الرأي ولا الاجتهاد ولا الهوى ولا.. ولا.. ولا. إنّه بما سيكون عليه الحساب غداً (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ).

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين…

Top of Form