كان العقل عند أرسطو وأتباعه من الفلاسفة المصدر الوحيد للمعرفة، وبه، عن طريق التأمل والتفكير، يُعرف كل شيء .. فأدخلوا العقل حتى في الظواهر العلمية في الكون، والتي تضبطها قوانين ثابتة في الرياضيات والفيزياء. والعجيب أنّ بعض الفلاسفة المسلمين لم يستطيعوا أنْ يتحرروا من هذا (الوهم). رغم ما وجدوه بين أيديهم من حقائق الوحي، فكان فكر المعتزلة المنحرف ومذهبهم في تقديم العقل على النقل، وباض هذا الفكر في الأمة وفرخ! .. وجاء عصر النهضة في أوربا ليسقط تلك المقولة الفلسفية، وأثبت خطأ العقل عن طريق العلم التجريبي الذي يعتبر التجربة هي أساس المعرفة لحقائق الكون. فلم يعد العقل بعدها سيد الموقف .. وضُرب المثل بسقوط الأجسام والجاذبية التي وضع لها الفلاسفة أسساً عقلية نظرية تخالف الواقع.
ولقد اتهمت الكنيسة في أوربا العلماء أمثال غاليلة بالكفر لدخولهم عصر العلم، وخلع ثوب الفلسفة التي حكمت وتحكّمت حتى في الدين.
أُريد أنْ أسأل متى نتعلم أنْ نجعل الأصل في الدين وكل ما يتعلق في الدين، النص من الوحيين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس غيره .. والفكر والعقل تحت الوحي وتبعٌ له .. ومن هنا كُنت ولا زلت أرفض محاولات استبدال كلمة (عالم) بكلمة (مفكر إسلامي)!، وما في ذلك المنعطف من ضيعة! وإن تعجب، فعجبٌ قول أحد (المفكرين) المعاصرين: إنّ مرتبة المفكر فوق مرتبة العالم!
كل هذه المقدمة الطويلة مدخل لجواب لمن حاورني، قائلاً: تابعت كتاباتك وسمعت بعض أحاديثك، فلم أجد إلا النقد والاعتراض والتشاؤم وأنّه لا يعجبك (العجب). وذكرني بكلام الفلاسفة الذين يتحدثون عن الإناء الذي مليء نصفه، فالإيجابي المتفائل يقول نصفه ممتليء، والسلبي المتشائم يقول نصفه فارغ، وصنفني من النوع الأخير. وذكرني بأسلوب بالٍ من التعامل مع الأحوال عند بعض أهل الشام، يخلط السياسة بالمجاملة وبالدبلوماسية والخوف والحذر، وإمساك العصا من الوسط، وشيء من النفاق، وأخيراً الشطارة، ليصنع من كل ذلك خليطة مريحة آمنة تُناسب كل الاحتمالات (الدنيِة {الدنيا} بخير يا رجال)، ولا ينشغل بي وبأمثالي كثيراً عن إكمال (البرتية) مع منافسه المتحرق. وكم كان ذلك الأسلوب يزعجني، وما كنت أكتم ذلك. وبناء علي ميلي إلى عدم الرد، أو الرد باختصار، إلا إذا كان الموضوع مناقشة علمية. إنّي أقول:
إنّ رفض الواقع ونقده وبيان بطلانه أحياناً، لا يعتبر شدة ولا تشدداً ولا تشاؤماً إنْ كان يستند إلى دليل نصي وليس إلى الفكر .. وأرد بنص واحد دون شرح كثير، وقد سبق أنْ ذكرته في بعض مقالاتي:
الصحابي الجليل الذي كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أنْ يدركه، ففقه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقهاً وعلماً، بثه فينا محذراً ومُنذراً. فأين من يفقه فقهه، ويعلم علمه، ويعمل عمله، صيانة للدين وللأمة من قبل أن يقع المحذور؟
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قدر ما ترون ما بين هذين الحجرين من النور. والله، لتفشونّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة).
أُريد أن أؤكد أنّ هذا الأثر عن حذيفة رضي الله عنه له حُكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّه كلام لا يُقال بالعقل، وهو نبوءة عن المستقبل يقسم عليها حذيفة.
وأخشى لانغماسنا في انحرافات الواقع، وطغيان الفهم الأعوج، وفقدان الميزان الدقيق، الذي أورثنا التسرع في الردود الباردة الباهتة التي اعتدناها أو عُوِّدناها دفاعاً عن الباطل .. أن ينبري أحد ليقول لحذيفة رضي الله عنه: (لقد أبعدت النجعة وبالغت يا أبا عبد الله..!) بدل أن يقول له صدقت والله، ونحن الذين بدلنا من بعدكم. ونحن الذين غيرنا بدل أن نتبعكم .. وأن يلتفت قائلاً للناس، صدق الله ورسوله، وصدق الصحابة الذين ينقلون هذا الدين، بتعديل الله ورسوله لهم.
وأخيرا فمن وجد في ما أكتب التشاؤم والشدة والنقد، فليحول ذلك إلى حذيفة فهو إمامي، وسلفي، والله الموعد .. فمتى نتعلم..؟