من أجلك يا رمضان كتبت .. ومن أجلك يا رمضان أنذرت .. ومن أجلك يا رمضان قسوت .. ومن أجلك للإصلاح دعوت .. ولعلي أكون قد أصبت..!
لقد صار بَدَهِيًّا، عند أهل الدين والعقل، أنّ شهر رمضان هو المحطة السنوية للإصلاح والمراجعة .. إصلاح النفس والارتقاء بها، في معارج القبول عند الله، نحو الأحسن .. ومراجعة المسلم حاله مع الله، بعرض نفسه وتدينه على مقتضيات منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، من أجل تصفية ما هو عليه من أمر الدين، كي يزداد قرباً من الله ومن الجنة.
ولا يخفى في المقابل وجود شريحة من المسلمين في كل ديارهم، ينتظرون رمضان كغيرهم من أهل الدين، وهم به حفيون، وللقائه شيقون..! لكنّ حفاوة هؤلاء واشتياقهم ليس وجدانياً شرعياً، إنّما هو اجتماعي، عوائدي، مادي .. يحيون لياليه بالولائم والسهر والسمر، وفي المطاعم والمقاصف والاستراحات، وبعاداتٍ مما تواضع عليه الناس، جعلوها من الدين وما هي بذاك، لكي يجعلوا للدين حظاً في تعاطيهم مع رمضان، زعموا.
ويأتي الإعلام الفاجر ليعين تلك الشريحة على ضلالاتهم، فيعد لهم البرامج الترفيهية، التي تغطي وقت الشهر (الفضيل) كله، حتى لا يتركوا منه ساعة لله..! ويشارك في ذلك الإعلام بكل أطيافه، ولكل وجهة هو موليها، وعنده هدف هو ساع لتحقيقه، خلال هذا الشهر (الفضيل). فصار رمضان عند أهل هذه الشريحة ومن يعينونهم على ما هم عليه، محطة (فولكلورية) ترفيهية استعراضية، وكل تلك النشاطات والمحدثات تلتقي على أمر الصد عن سبيل الله، وتحريف الدين.
ولست متشائماً، ولكنّ رصد الواقع يؤكد أنّ هناك تأثرا بما عليه أهل الشريحة الثانية، من قبل بعض مَن هم في عداد الفريق الأول، وذلك خلافاً لما ينبغي أن يكون. ولا بد أن نعترف بأنّ الإعلام بكل أطيافه ينافس الدعوة إلى الحق، في بعض المواقع، لاختلاف التركيز والدراسة الموضوعية للواقع، بين الفريقين المتنافسين، وحظ أهل الدين، من ذلك، هو الأضعف وياللأسف.
ولا يفوتنا القول إنّ التعاطي السيء مع شهر رمضان، مرده إلى خلل أكبر سبقه وهو ضعف الإيمان أو ما يسميه بعضهم (رقة الدين). وليس لذلك إلا سبب واحد، وهو خلل في التعامل مع نصوص الوحيين. ولذلك طريقان، هجر النصوص، أو عدم فهم النصوص وفق الهدي النبوي، وعدم اتباع سبيل المؤمنين: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
ويوم أضحى الإيمان باليوم الآخر مجرد فكرة وإيمان نظري، تطرق أسماعنا وتتردد في خواطرنا، دون أن يترجم (ركن الإيمان) هذا، تطبيقا له حضوره مع أي قضية من تعاليم الإسلام، لاسيما العبادات، غدا أثر ذلك في ضبط المسار ضعيفا طفيفا. مع كثرة الضخ المضاد، في حياتنا المعاصرة. ولذلك أسباب عدة أبرزها وهاء الصلة مع نصوص الوحيين وبخاصة من جهة التدبر. ثم التأثر الكبير بالمدرسة العقلية في التدين بإغراء من الواقع المعاصر. بسبب ذلك أوشك حال المسلمين أن يتلخص في أمرين خطيرين ذكرهما الله عز وجل في القرآن: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) و(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). وهل من سوء يقع في المسلمين أعظم من ذينك الحالين، أن يخامرهم شك في اليوم الآخر، وأن يصبحَ اللهوُ فيهم ديناً، والدينُ فيهم لهواً .. وذلك موجود اليوم عند بعض المسلمين. وكان لزاما أن نأتي بأفضل شاهد على ما نقول، وهو قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
وإذا علمنا أنّ هذه الآية، هي في الصحيح، آخر ما أنزل من القرآن، استنتجنا، أنَّ تذكرَ اليوم الآخر هو الحارس على كل الأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية. وأنّ غياب هذا الحارس يُحدث كل الخلل الذي أفضنا فيه القول آنفا.
إذن لا بد من الوقوفِ مع بعضِ مشاهدِ الآخرة، واقتصرنا على جانب الترهيب لتكون المعالجة أسرع. ولذلك أردت أن أستقبل رمضان بشحنة قوية من التخويف والتحذير واخترت عنوان (مشاهد من الحسرةِ في الآخرة)، لعل النفوسَ تستيقظُ وتخشعُ فتبادر إلى التغيير، ونحن على أبواب رمضان. وللذين يعترضون على أسلوب الترهيب، أقول: دونكم القرآن والسنة فاطلعوا على الترهيب فيهما.
يقول ربنا: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ)، ويقول: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).
ومما جاء في السنة النبوية في هذا السياق: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله).
وَعَن زيد بن ثَابت قَالَ: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرُ سِتَّةٍ أَو خَمْسَة أَو أَرْبَعَة قَالَ كَذَا كَانَ يَقُول الْجريرِي فَقَالَ: (من يعرف أَصْحَاب هَذِه الأقبر فَقَالَ رجل أَنا قَالَ فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ قَالَ مَاتُوا فِي الْإِشْرَاك فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَاب النَّار فَقَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
إذن لا أراني بِدْعًا في ما أنا فاعل الآن، إن استقبلت رمضان بالنذارة والتخويف، لعله يكون لبعض من جنح عن الجادة محطة توبة وأوبة، وعودة إلى سواء السبيل (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)، ولعل في ما أقدم بين يدي رمضان، إبراءً للذمة، وإقامةً للحجة، والله حسبي ونعم الوكيل.
ولن أتناول نصوصا تخص الصوم، إنّما أورد نصوصا أعم، تشمل أهل التفريط في جنب الله بعامة، لأنّ الخلل في الدين يعم كل الأوامر والنواهي. فمن فرط في الصوم تجده كذلك في صلاته وزكاته وحجه وكل الطاعات، ومن ذلك آثرت النصوص العامة.
يقول تبارك وتعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). فما هو يوم الحسرة؟ هو ما عرفه الله تبارك وتعالى في الآية: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). وقد فسر السعدي رحمه الله الآية فقال: (الإنذار هو: الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب، والإخبار بصفاته، وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد، يوم الحسرة حين يقضى الأمر، فيُجمع الأولون والآخرون في موقف واحد، ويسألون عن أعمالهم، فمن آمن بالله، واتبع رسله، سعد سعادة لا يشقى بعدها،. ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاوة لا سعادة بعدها، وخسر نفسه وأهله،. فحينئذ يتحسر، ويندم ندامة تتقطع منها القلوب، وتنصدع منها الأفئدة، وأي: حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه والنار، على وجه لا يتمكن من الرجوع، ليستأنف العمل، ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا؟! فهذا قدامهم، والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم، ولو خطر فعلى سبيل الغفلة، قد عمتهم الغفلة، وشملتهم السكرة، فهم لا يؤمنون بالله، ولا يتبعون رسله، قد ألهتهم دنياهم، وحالت بينهم وبين الإيمان، شهواتهم المنقضية الفانية.
فالدنيا وما فيها، من أولها إلى آخرها، ستذهب عن أهلها، ويذهبون عنها، وسيرث الله الأرض ومن عليها، ويرجعهم إليه، فيجازيهم بما عملوا فيها، وما خسروا فيها أو ربحوا، فمن فعل خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه).
فالمتتبع إذن للنصوص التي تحكي حال أهل النار، نعوذ بالله من النار، يستنتج أنّ أهل النار يتعرضون في وقت واحد لألوان من العذاب، يقتنع المتابع أنّ لظى النار قد يكون أخفها، على شدته، والله أعلم .. إنّ قول ربنا تبارك وتعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوحي بالفكرة التي أريد، فلا بد إذن من التوسع بمفهوم الحسرة .. إنّها الحسرة، وهي الندامة
على التفريط لشعورهم بعد أن كُشف لهم الغطاء، أنّ ما يلقونه من العذاب هو مما جنت أيديهم، وسولت لهم أنفسهم، وهي أيضا تمني المستحيل للخروج من العذاب، وهيهات..! وإلى استعراض آيات بينات تحمل هذه المعاني:
. (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي). وماذا تنفع الذكرى بعد فوات الأوان، وقد كان الإعراض عن التذكرة في الدنيا، على أشده.
.(فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ).
وتشتد الندامة عند أهل النار، وهي تعصر قلوبهم عصرا، لكنّهم يحاولون إخفاءها، والإسرار بها، لأنّه ما زال عندهم من الكبر الذي حملوه في الدنيا، والذي أرداهم في النار ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) و (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا). ويُذَوِّب الندم والحسرة، وملاومة النفس القلوب ويجتمع على نزلاء النار ألم الجسد، وألم النفس، فتجري دموع الندم وليس الألم، أنهارا.
ويأمر الله تبارك وتعالى، يوم الحسرة بأعمال من شأنها أن تزيد الحسرة لمن أعرض ونأى بجانبه، مثل ما جاء في البخاري: (يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَيُقَالُ يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ). وفي رواية لابن عمر: (فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ).
ومن مشاهد يوم الحسرة:
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فيأتي الجواب الذي يأتي معه الحسرة والندم: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
وأي حسرة تلك، التي تصيب الماكث في جهنم على التفريطِ في النفسِ والأهل، حين لم يَقِهم ونفسه عذاب النار، بالأعمال الصالحة، والتواصي بها، فخسرهم وخسروه فكان حاله، هو تلك الحال التي حُذِّر منها، فلم يحذر. يقول ربنا تبارك وتعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
وتنتاب الماكثين في النار حالة أخرى من الحسرة والندامة، حين يتذكرون حالهم في الدنيا، مع رفقة السوء والضلال، يومَ انساقوا معهم يقودونَهم إلى الرذيلةِ، ويصدونَهم عن الفضيلةِ، إنّها لحسرةُ عظيمةٌ في يومِ الحسرة، يعبرون عنها بعضِّ الأيدي يومَ لا ينفعُ عضُ الأيدي، فيبدأ بالتمني ولات حين مندم..! (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا).
مشكلة عامة عند المعرضن عن الله وما جاء من عنده، أنّهم ينتبهون بعد فوات الأوان، وهذا ما يسلط عليهم ألم الندم، وهو الأشد عليه.
وأما حسرةُ الأتباعِ المقلدين لكلِ ناعق، والسائرين وراء كل ضال، فقد قص علينا ربنا صورا منها للعبرة، وما أكثر العبر وأقل الاعتبار..! يوم يتبرأ منهم من اتبعوه بالباطل، فلا ينفعهم ندم ولا حسرة: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
ويبلغ الحنق أشده، والندامة والمرارة أوجها، ويبحث المعذبون عن فرصة للتشفي والانتقام علها تخفف عنهم بعض ما يجدون: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).
ويبدأ التخاصم بين أهل النار في النار، لتصفية حسابات الدنيا: (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ). ويبدأ تراشق التهم:
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).
فما يلبث الجواب أن يأتي من الطرف الآخر على الفور: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فماذا يجدي هذا التحاور والفريقان يعذبان في النار، إلا زيادة في الندم والألم…؟!
وإلى صورة آخرى من صور تخاصم أهل النار: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ).
ومن أعظم المشاهد حسرة في يوم القيامة يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا محتدين ومتبرئين فذلك قول الله: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).
ويفلس أهل النار من كل أمل في الخلاص، فيبدأون الاستغاثة بمن لا يملك الأمر: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لقد جئناكم بالحقِ ولكن أكثرَكم للحق كارهون).
ومنتهى الحسرة ِوقصاراها أن يطمعهم شدة الهول الذي هم فيه بنداء ربهم، مستغيثين به، وقد نسوا أو تناسوا أنّ رحمة الله لا تنالهم أبداً: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)).
فيأتيهم الجواب منه تقدست أسماؤه: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).
إنّها تذكرة، والذكرى تنفع المؤمنين، والله جل جلاله يقول: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) .. وأسال الله أن يفتح لها أسماع وقلوب من تبلغه، ليستقبل رمضان، وهو إليه بالأشواق، ويغادره رمضان وقد استودعه من العمل الصالح ما يكون له شاهدا عند ربه … والحمد لله رب العالمين