لا شك أنّ أمام الدعاة إلى الله طريقاً طويلاً ملؤه الحوارات والمجادلات التي لا بد أن تكون مع الطرف أو الأطراف الأخرى .. وقد سمى الله الدعوة إلى دينه جهاداً، وهو جهاد اللسان، أو جهاد الكلمة (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)..!
والمجادلة هي وسيلة الدعوة الوحيدة تقريباً، وهي في أبسط توصيف لها وسيلة عرض وتبادل الأفكار. وقد جاء في القرآن الكريم ذكر الجدل، لنعلم أنّه قدر الدعاة إلى الله. وزيادة في البيان ذُكرت نماذج من المجادلين: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ). فهذا نوع عُرف انتماؤه، فهو شيطاني، وبالتالي عُرف هدفه فلن تطول معه الجولة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وهذا نوع آخر يلتقي مع الأول في أنّه يجادل بغير علم، لكنّه مُتَخبطٌ ليس له غاية ينتهي إليها، وليس له طريق يسلكه، هدفه التشويش والتشكيك والإضلال، الكبر ملءُ بُرْدَيْهِ، فهو يستر جهله بِكِبْر يَشينه ولا يُعينه، وهذا النوع غايته إطالة أمد الجدال، لأنّ دعواه دعوى إرباك، ولا يَعرف لدعوته مستقراً ينتهي إليه .. ويُعلّم الله في قرآنه، الدعاة إليه، السبيل القويم في التعامل مع الخصم، فيما يتعلق بالحوار: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فالدعاة إلى الله لا يحتاجون زخرف القول، فقضيتهم عُلْوية رابحةٌ لا تحتاج إلى تزيينٍ، همهم إيصال الخصم، إلى ما يريدون بهدوء، نفعاً لنفسه، ودفعاً لجهله، من أقصر طريق .. ودون أن يكون في النفس حظٌ لنشوةِ انتصارٍ، أو تسجيلِ موقفٍ، إنّه واجب يمليه التدين الحق.
وقد يقتضي الحال التنزل مع الخصم لحسم الجدل سريعاً وإقامة الحجة، مع إشعار الخصم بإفلاسه .. فقد أرشدنا ربنا إلى هذه المهارة، في مسألة عقدية خطيرة، في قوله تبارك وتعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ). كأنّنا نقول للخصم: أثبت ادعاءك، ونحن وراءك، وأنّى للباطل أن يُثْبَتَ..! ومع الإذن بالجدال، فالحسم مطلوب، وطول الجدال مرفوض، ولا يحسم المناظرات إلا أن نضع الخصم وأنفسنا في ثنائيةٍ، منطقيةٍ، حياديةٍ لا تقبل النزاع فيها: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). لكل جدال نتيجةٌ، معروفةٌ مُسبقاً، محقٌ ومبطلٌ، وكل طرف يحدد بفعله إلى أي الوصفين يصير .. ويكشف نفسه من يدخل المناظرة، مُراوغاً، فلا يستطيع أن يلتزم موقفاً. فالنتيجة ثنائية، لا تقبل زيادة، لأنّ الجدال الذي تتعدد نتائجه مائع
زئبقي
غير جاد..! والذي سينتهي إليه المجادل في نتيجة الثنائية، ليس لعبةَ حظٍّ، إنّما مَقْدِرةُ أداءٍ.
وهذه الآية تُحَمِّلُ أي طرفين متناظرين مسؤوليتين كبيرتين؛ أولاهما: أن لا يكون الجدال خوضاً بغير علم، فلا بد أن يكون المناظر مؤهلاً. وثانيتهما: إدراك أنّ النتائج ولدتها مقدرة المتناظرين، وليس يدخل فيها أي اعتبار خارجي، فلا بد من قبولها، وحسن التعامل معها. ولله در ابن عاشور، فقد قال لدى تفسيره الآية، موضوع البحث: (وَهَذَا اللَّوْنُ مِنَ الْكَلَامِ يُسَمَّى الْكَلَامَ الْمُنْصِفَ وَهُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمُجَادِلُ لِخَصْمِهِ مُوجِبَ تَغَيُّظٍ وَاحْتِدَادٍ فِي الْجِدَالِ، وَيُسَمَّى فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ إِرْخَاءَ الْعِنَانِ لِلْمُنَاظِرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَرِينَةُ إِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ).
لكنّ المعنى الأهم والخفي في هذه الطريقة القرآنية، والذي جاء به البيان القرآني، هو تأكيد أنّ الحق لا يتعدد، ولا يقبل المجاملة والمهادنة، فلا يمكن للمسلم الذي يجادل عن دين الله أن يصل به الجدال مع الخصم إلى نتائج ذات أطياف، فذاك هو الجدال غير الجاد كما أسلفنا، كما أنّه لا يمكن أن يصبح الخصمان في النهاية في طرفٍ واحدٍ، إلا أن يَترك أحدهما ما كان عليه، ويُسلم بالحق للثاني .. فالخلاف بين المتجادلين ليس سياسياً أو اجتماعياً يمكن تسويته بمسح اللحى، لأنّ المرجع فيه إلى هوى النفوس، لكنّه خلاف شرعي في الدين، بين مؤمن وكافر، أو مخطيء ومصيب، أو عالم وجاهل، فالهوة بين المتحاورين في الدين، لا يمكن تسويتها لأنّ الخلاف تحكمه النصوص، وليس هوى النفوس..!
ويتصل بالمعنى السابق أنّ الحق إذا كان لا يتعدد، فإنّه أيضاً لا يتجزأ..! فلا يمكن أن يلتقي المسلم مع خصمه في قضية ويختلفان في عشر قضايا، ثم يوظفان الاتفاق من أجل موقف تكتيكي، ويقولان نحن اتفقنا .. فالحق لا يتجزأ، والإسلام حق .. فيُجادَل عنه كَكُلٍ، ويُتفق عليه كَكُلٍ، أو يُفاصل عليه كَكُلٍ .. ولخص القرآن كل ذلك، حينما جعل المخطط الرئيسي لكل حوار أو جدال مع أي طرفٍ مخالفٍ ينتهي إلى هدى وضلال.
ويخفى على كثير من الناس اليوم، مع انتشار طروحات العلمانين، كشحرور وعدنان ابراهيم والكيالي وغيرهم، وتصديقِ الناس لهم، أنّ من كذَّب جزئيةً من دين الإسلام، أو كفر بها، يعدُّ كافرا به كلياً لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). ولا يُنظر إلى موافقته في مسائل أخرى، فلا يجتمع في شخص كفر
وإيمان .. فلنعد النظر في تصنيف الناس، وتسمية الأشياء بمسمياتها.
بقي أن نقول: إنّ الجدال قد يكون اليوم بين مسلم متمسك بالوحيين وواحد من أهل الفرق التي حدثنا عنها نبينا في حديث الافتراق، وممن لا يلتزمون منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وتبقى الآية المذكورة مُحكَّمة، وتنتهي إلى النتيجة نفسها؛ حق وباطل .. وهذا ينقض القاعدة التي يتشدق بها كثير من المسلمين، ويعتبرونها أصلاً للعلاقة بين المسلمين اليوم، لجمع كلمتهم، ولتوحيد صفوفهم، وكأنّها نزلت في الكتاب، أو قال بها الرسول..! (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه)، وكان أحرى بأصحاب هذه المقولة أن يقولوا للناس: استمسكوا بالعروة الوثقى، ودعوا الإخلاد إلى الأرض..! ومن الوضوح بمكان مصادمة هذه القاعدة المضللة للآية موضوع البحث .. والحمد لله رب العالمين