Skip to main content

وَصَــــايَا نَبَــــوِيَّة

By الثلاثاء 25 صفر 1439هـ 14-11-2017ممحرم 20, 1441مقالات

عَن أبي ذرٍّ قَالَ: (أَمَرَنِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوَقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أنْ لَا أخافَ فِي اللَّهِ لومة لَائم، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحت الْعَرْش) وفي رواية: (فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ).

كم يكون سعيداً، وراضياً مرضياً، وموفقاً ومأجوراً مجبوراً، ذلك المسلم الذي يقرأ وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتردد ولا يتلكأ في تطبيقها، ولا يتهرب من ذلك بفقه بارد؛ قائلاً: إنّها ليست على الوجوب..؟ لا سيما أنّه المنتفع الأول، والأسعد حظاً بها، وهل يأتي ذلك الفعل إلا بكل خير..؟ ولنتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ منَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ).

وما كانت همتي وهمي في الكتابة في هذا الموضوع، إلا بياناً وتذكيراً للمسلمين أنّ في السنة كنوزاً ليست ككنوز الأرض الفانية، يُحرم منها من صرفته الصوارف عن العيش مع كتب السنة..! ولعله غير مستغرب عند كثيرين، أن أقول: لمّا كانت السنة الوحي الثاني، فلا بد أن يعيش المسلم مع السنة كعيشه مع القرآن. أقول قبل أن ينبري متسرع للاعتراض، إنّي لا أقصد أن أُسَوِّيَ بين القرآن والسنة في القدسية، إنّما هما سواء في الأهمية، وأنّهما أصلا دين الإسلام على قدم المساواة .. ولنبدأ الشرح:

الوصــــية الأولى: (أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ).

من هم المساكين؟ إذا عمدنا إلى كتب اللغة أو كتب الفقه فلا نجد تعريفاً متفقاً عليه للمسكين. وغالبا ما يُتناول هذا الموضوع بمقارنة المسكين والفقير لاقترانهما معاً في بعض النصوص الشرعية، كآية مصارف الزكاة مثلاً: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ولا مانع من أن نذكر للفائدة، وزيادة عما نحتاجه لبحثنا، ملخصا عن معنى الفقير والمسكين، وأوجه الاتفاق والاختلاف.

الفقراء والمساكين صنفان من الأصناف الثمانية، الذين تدفع إليهم الزكاة. والفقراء أشد حاجة لأنّ الله تعالى بدأ بهم، ومن منهج الكتاب الكريم أن يبدأ باللفظ الأهم فيما يناسب السياق. أما المساكين فلما ذكر أصحاب السفينة قال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)، فأثبت وصف المسكنة وبيّن حالهم بأنّ لهم عمل وسفينة.

وإنّ النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر فقال: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ). وكان يقول في استعاذته، كما في الحديث المتفق عليه: (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ) .. في حين كان يسأل المسكنة فقال: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ). فدل على أنّ الفقر أشد، إذ لا يُتصورُ أَنْ يَسْأَلَ النبي عليه الصلاة والسلام ربه الحالة الشديدة، وهو يستعيذ مِنْ حَالَةٍ هي أَصْلَح مِنْهَا..!

وتقول كتب اللغة إنّ كلمة الفقير مشتقة مِنْ فَقْرِ الظَّهْرِ، فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ فقير بمعنى مَفْقُور، وَهُوَ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةُ ظَهْرِهِ، فَانْقَطَعَ صُلْبُهُ. فكأن همَّ الفقر أثقله، ودق فقاره. أما المسكين فسمي بذلك لأنّ الحاجة أسكنته عن الحركة والكلام؛ ولذا قال تعالى: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ). أي: لاصِقٌ بالتّراب لحاجته.

نخلص مما تقدم أنّ الفقير لا تتحقق كفايته من مكسب ولا غيره، وأما المسكين فله شيء من الكفاية لكن دون المطلوب والمعتاد.

وهناك من قال إنّ كلمتي الفقير والمسكين تطبق عليهما قاعدة العلماء، في أنّهما لفظتان إذا اجتمعتا اختلفتا، وإن افترقتا اتفقتا. بمعنى أنّ اللفظتين لو اجتمعتا في سياق واحد، أي موضوع واحد، كانتا مختلفتين في المعنى، كاجتماعهما في آية مصارف الزكاة. فلا يمكن أن تعطف إحداهما على الأخرى في سياق تعداد المستحقين للزكاة، إلا أن تكونا متغايرتين. ولهذا نظائر، كالإسلام والإيمان، وكالبر والتقوى .. والخلاصة أنّ الفقير أشد حاجة من المسكين، وهذا يكاد يكون اتفاقا من العلماء.

وحسنٌ ألا نغادر هذا الموضوع قبل أن نضيف له الجانب الشرعي والأخلاقي والمعنوي الذي ألحقه به ربنا في كتابه، ونبينا في أحاديثه. فلنستعرض:

يقول تعالى: (لِلْفُقَرِاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً)، ولنصغِ إلى تفسير الشيخ السعدي رحمه الله، للآية: (ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر، والثاني قوله: {أحصروا في سبيل الله} أي: قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره، فهم مستعدون لذلك محبوسون له، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال: {لا يستطيعون ضربا في الأرض} أي: سفرا للتكسب، الرابع قوله: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم. الخامس: أنه قال: {تعرفهم بسيماهم} أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله: {يحسبهم الجاهل أغنياء} فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله: {لا يسألون الناس إلحافا} أي: لا يسألونهم سؤال إلحاف، أي: إلحاح، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات) .

فقد وصف الله تبارك وتعالى الفقراء من المسلمين الذين هم أولى الناس بأن تعطى لهم الصدقات بأوصاف تصنف في باب الأخلاقيات والمعنويات وهي باللفظ القرآني: (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ) و(لاَ يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً).

وكنت كتبت ذات مرة، وكثيرا ما تكلمت بذلك، استنباطا من الآية الكريمة أنّ من تمام إخراج الصدقة، الواجبة والطوعية، البحث عن أصحابها الذين هم أولى الناس باستحقاقها، وأن لا يكون همّ المتصدق التخفف مما أخرج بأسرع ما يمكن، وقد يُعتمد في ذلك على من ليس مؤهلا لإيصال الصدقة إلى المستحقين الأجدر. ومن ذلك الجمعيات الخيرية، التي كثرت في بعض البلدان، وهي إلى النشاط الاجتماعي، أقرب منها إلى العمل الشرعي.

ومرة أخرى فمن تمام الصدقة وكمالها أن يجتهد المتصدق في إيصالها إلى مستحقيها الذين هم أحق بها وأهلها، وهم لتعففهم أقرب إلى الخفاء منهم إلى الظهور..! وقد اعترض علي بعضهم، ذات مرة، قائلاً: إذا كان مستحقو الصدقة بهذا الخفاء، فأنّى للمتصدق معرفتهم؟ وكان ردي، وقتئذ، لمّا وهت صلة الرحم بين المسلمين، وصار الأكثرون يجنحون إلى جعل صدقاتهم في الأباعد، وقع الناس في شرور أعمالهم. وإلا فما من موسرٍ إلا هو واجدٌ في أسرته الكبيرة المستحقين لصدقاته وزيادة. ولا ننسى قول نبينا صلى الله عليه وسلم: عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ).

ونرجع إلى الفكرة الأصلية، التي كنا معها، وهي (الجانب الشرعي والأخلاقي والمعنوي)، الملازم لوصفي الفقر والمسكنة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في السياق نفسه: (لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ. قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟. قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًىً يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا). وزاد في رواية: (إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}).

وليس بعيدا عن السياق الذي نحن فيه ما جاء في الحديث: (يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغنى؟ إنما الغنى غنى القلب و الفقر فقر القلب من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا و من كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا و إنما يضر نفسه شحها).

ونعود الآن إلى صلب الموضوع (وصايا نبوية)، وقد كانت الأولى من السبع: (أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ)، ومعلوم أنّ الكلام لأبي ذر رضي الله عنه. وأول ما يتبادر إلى الذهن أن يكون الأمر في شأن المساكين، الإحسانَ إليهم، ومعونتهم المادية. ونفاجأ بوصية النبي عليه الصلاة والسلام، بشأن المساكين، هي حبهم والدنو منهم. فما التفسير؟ قد يقول قائل إنّ الأمر بحبهم والدنو منهم، هو كناية نبوية عن الإحسان والمعونة المادية. وأقول قد يكون ذلك؛ ولكن الأقوم أن نقول: إنّ الغاية من تلك العبارة أن تُجعل المشاعر المعنوية التي تنبعث من أخوة الإسلام، غلافاً للإحسان والصدقة، لأنّها إن عريت عن ذلك كانت لا تخلو من جرحٍ للمشاعر وإيذاءٍ للنفس..! وما أجد من نص أخلق بأن يكون رديفا في المعنى لهذه الوصية النبوية من قوله تعالى في سورة الكهف: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وما من عمل أرجى للوصول إلى قلوب الآخرين، والفعل الطيب فيها، من الحب والقرب، وهما بمقدور كل أحد، فلا يحتاجان طَوْلًا، ولا سابقَ إعدادٍ إلا النية الطيبة. لذلك كانت دعوة الإسلام أن يسود في المجتمع المسلم (الحب في الله) قبل أي شيء آخر، ويحضرني الآن هذه الأحاديث في شأن الحب في الله:

. (مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ).

. (إنّ أوثق عرى الإسلام: أن تحب في الله وتبغض في الله).

. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ). وفي رواية: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاء).

ونستخلص من الأحاديث السابقة منزلة الحب في الله، في الإسلام. وحين تسود تلك العلاقة وهي الحب في الله بين المسلمين، يكون الحب بينهم خالصاً مُنزهاً عن أي منزع طيني أرضي دنيوي مصْلَحِيٍ. وعندها يولد مجتمع المسلمين الذي نبأ به النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) و(إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا).

ووصية النبي عليه الصلاة والسلام لأبي ذر رضي الله عنه، هي بلا شك وصية لكل مسلم، وكيف لا يحرص كل مسلم على تطبيقها، وفيها تشبُهٌ بما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم. لقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ). انظروا التعبير النبوي الدقيق والعميم والرائع؛ لزومُ المساكين الدائم مع كل أحوالهم. واجتهد بعض العلماء في تفسير الحديث السابق، قائلين: إنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يسأل أخلاق المساكين، وليس واقعهم المادي..! ويرد هذا الفهمَ ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا).

والله، تبارك وتعالى، اختار لنبيه حياة من نوع خاص توضحها وتصفها لنا دعوات النبي صلى الله عليه وسلم السابقة. وقد جاء في شمائله عليه الصلاة والسلام أنّه كان يتضور جوعا فيشد الحجر على بطنه .. وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبعنا من الأسودين). والأسودان التمر والماء، وجاء في البخاري عن ابن عمر قال: (ما شبعنا من تمر حتى فتحنا خيبر) .

ولا بد من التأكيد أنّ هذا الواقع النبوي كان اختياراً وليس اضطرارًا .. ولنقرأ هذا الحديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة مثنية. فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف. فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة) قالت: قلت يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال: (رديه يا عائشة فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة)).

ويستطيع العقل والنظر أن يقول شيئا عن الحكمة وراء هذا الاختيار من رسول الله عليه السلام ولا شك أنّ تلك مشيئة الله، والأولى أن نحاذر القول على الله بغير علم، مادام لم يأتنا نص صريح في ذلك. ولْيُتْرَكْ ذلك مفتوحا ليستوعب كل الأفهام والتصورات اللائقة بالجناب النبوي.

الوصية الثانية: (وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوَقِي).

إنّ هذه الوصية جاءت في حديث أبي ذرّ بشكل عنوان. لكنّ التفصيل الكامل لتلك الوصية جاء في أحاديث أخرى. ففي الحديث المتفق عليه: (إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى من هُوَ فوقكم فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم).

فالوصية النبوية،
تتناول أمور الدنيا وما فيها. وذلك عين ما جاء في قول الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى). ولنقرأ تفسير الشيخ السعدي للآية، يقول رحمه الله في كتابه تيسير الكريم الرحمن: (أي: لا تمد عينيك معجبا، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها – بقطع النظر عن الآخرة – القوم الظالمون، ثم تذهب سريعا، وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملا كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا*وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} .{وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل من العلم والإيمان وحقائق الأعمال الصالحة والآجل من النعيم المقيم والعيش السليم في جوار الرب الرحيم {خير} مما متعنا به أزواجا في ذاته وصفاته {وَأَبْقَى} لكونه لا ينقطع، أكلها دائم وظلها كما قال تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحا إلى زينة الدنيا وإقبالا عليها أن يذكرها وما أمامها من رزق ربه وأن يوازن بين هذا وهذا).

ولكن يبقى على الجانب المقابل المفهوم الإسلامي، عن دور الأسوة والقدوة، وأنّ البشر مأمورون باستمرار أن ينظروا نظر الإعجاب والإكبار إلى من يتقدم عليهم على مدارج الالتزام والتطبيق والمخالقة الحسنة للناس، وأن يتحول ذلك الإعجاب والإكبار إلى محاكاة، بل إلى منافسة، كما قال ربنا تبارك وتعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).

وأتذكر من الأمثال العامية الشعبية التي كنا نسمعها من كبار السن من الأقرباء، ما معناه: (من ينظر إلى الأعلى دوما تؤلمه رقبته).

الوصية الثالثة: (وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ).

النصوص في صلة الرحم كثيرة، أكتفي باثنين ابتداء، تجنبا للإطالة:

الأول: قول ربنا تبارك وتعالى في فواتح سورة النساء: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). ومعنى الأمر بتقوى الأرحام، أي التحذير من التساهل في حقوق الأرحام.

والثاني: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ! قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ! قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ). قَالَ أَبُو هريرة: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)) .

وفي الوصية الثالثة من النبي عليه الصلاة والسلام، معنىً زائد على مجرد صلة الرحم. وهو معالجة نبوية لتعامل خاطيء مع صلة الرحم، ابتلي به أكثر الناس. ألا وهو المعاملة بالمثل، بمعنى أنّهم يصلون من يصلهم، ويقطعون من يقطعهم. ولنطل الوقوف مع عبارة (وَإِنْ أَدْبَرَتْ). والتي تعني الأمر النبوي بصلة الرحم المدبرة، بمعنى القاطعة المستهترة. وقد جاءت أحاديث نبوية عدة تؤكد الأمر نفسه، منها:

عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ الواصِلُ بالمكافىء، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا).
رَوَاهُ البُخَارِي

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لي قَرَابةَ أصلهم ويقطعوني وَأحسن إِلَيْهِم ويسيؤون إِلَيّ وأحلم عَلَيْهِم وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)). رَوَاهُ مُسلم

و(الْمَلَّ) هو الرماد الحار .. ويتجلى في تلك الأحاديث حرص الإسلام على بث روح الإصلاح بين المسلمين، أكثر من ثقافة القطيعة والتدابر، وأن يتسع قلب المؤمن ونفسه لأخطاء، وتصرفات الآخرين غير المنضبطة، وبخاصة مع الأرحام. كما تُعلم الأحاديث السابقة، أسلوبا رائعا في كيفية رد المسيء إلى جادة الصواب عن طريق الإحسان إليه. وهو منهج قرآني، ولنتذكر قول ربنا: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

بالمعنى الذي نحن بصدده، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح). والكاشح كما قال الزمخشري: (هو الذي يضمر العداوة ويطوي عليها كشحه. أو الذي يطوي عنك كشحه ولا يألفك). وقديماً قيل:

أحسن إلى الناس تستعبدْ قلوبَهم فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

الوصية الرابعة: (وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا).

وقد يرى بعض المغرضين في هذه الوصية نوعا من تقليص مبدأ التعاون بين الناس..! والصواب أنّ مبدأ الاعتماد على النفس في كل شيء، من أعظم مقومات الشخصية الإنسانية، وكم من أبحاث يقف عليها المرء، في الكتب التي تعنى بعلم نفس الطفل، تدعو إلى تنمية هذا الجانب، وهو الاعتماد على النفس في شخصية الطفل. وهو خير زاد يزود به الطفل لمستقبل أيامه. وإذا ساد هذا الخلق بين الأفراد، نكون قد بنينا مجتمع الكفاية الذي يتحدى كل عسير..!

ومن هنا كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه تلك التربية الفذة. فعن عوف بن مالك قال: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ: (أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ). وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ فَقُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ). فَقُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ). قَالَ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلاَمَ نُبَايِعُكَ قَالَ: (عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا) وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً: (وَلاَ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا). فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ).

وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة) فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا). وعند ابن ماجه قال: ((لَا تَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا). قال فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه).

الوصية الخامسة: (وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا).

هذا تقرير من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الحق مرٌ أحيانا، بل هو كذلك في معظم الأحايين..! ولذلك نرى الناس تتحامى الكلام في الحق، لأنّه يخالف الهوى وما تشتهي الأنفس. وأصعب ما يكون ذلك حينما تكون قولة الحق شهادة على قريب أو صديق، أو على من تُخاف سطوته. وهل مثل هذه الممارسات إلا فساد وإفساد للذمم، فضلا عن كونها إضاعة للحقوق بين الخلق..؟

ولنقرأ قول ربنا تبارك وتعالى في سورة النساء: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

ويبين الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره [تيسير الكريم الرحمن] ماتناولته الآية عن مشكلة السكوت عن الحق، وأساليب ذلك، وخطورته إذا فشا في الناس .. يقول رحمه الله: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} والقوَّام صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته.

والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك ، كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك.

ومن أعظم أنواع القسط، القسط في المقالات والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب بل على النفس، ولهذا قال: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي: فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير بزعمكم رحمة له، بل اشهدوا بالحق على من كان.

والقيام بالقسط من أعظم الأمور. وأدل على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نُصْب عينيه، ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به.

وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا، وإما أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم.

ولما بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك، وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه، أو من بعض الوجوه، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها، أو تأويل الشاهد على أمر آخر، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق. {أَوْ تُعْرِضُوا} أي: تتركوا القسط المنوط بكم، كترك الشاهد لشهادته، وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به.

{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي: محيط بما فعلتم، يعلم أعمالكم خفيها وجليها، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور، لأنه أعظم جرما، لأن الأولين تركا الحق، وهذا ترك الحق وقام بالباطل).

ولنتذكر في هذا السياق، دعاء علمنا إياه نبينا صلى الله عليه وسلم، وما أحرانا أن نلتزمه ونعمل بمقتضاه: (وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ).

الوصية السادسة: (وَأَمَرَنِي أنْ لَا أخافَ فِي اللَّهِ لومة لَائم).

ولعل هذه الوصية متممة للوصية السابقة التي تأمر بقول الحق. فكثيرا ما يصد عن قول الحق والعمل به، الرغبةُ في اتقاء لوم اللائمين وعتاب المعاتبين. وبين النبي عليه الصلاة والسلام مغبة ذلك، لأنّه اختيار لرضى الناس، ولو أسخط الله، وأي مسلم يرضى لنفسه هذا الخيار، أو الاختيار..؟

الوصية السابعة: (وَأَمَرَنِي أَنْ أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحت الْعَرْش) وفي رواية: (فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ)).

أما الوصية الأخيرة منه صلى الله عليه وسلم فهي ندب منه، بل أمر، بلزوم ذكر مأثور عنه عليه الصلاة والسلام عرفه بأنّه (مِنْ كَنْزٍ تَحت الْعَرْش)، أو (كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ). وها هو الذكر بين أيديكم ولا يسعكم، يرحمكم الله، إلا طاعة نبيكم، وهو الذي ما ترك خيرا يقربكم من الله ومن الجنة إلا دلكم عليه، والتزام ذلك الذكر … والحمد لله رب العالمين