كثيراً ما كنا ولا زلنا نسمع من أهل الحكمة، وأرباب الخبرة، وأصحاب التجارب، أنّ من الخير والمصلحة لمن يبيع أرضاً، أو بيتاً، أن يضع ثمنها فوراً في عقار جديد، ولا يبدده في إنفاقه الشخصي وعلى أشياء استهلاكية .. فالبيت والأرض وأي عقار يبقى لصاحبه رصيداً مالياً ثابتاً، ولعقبه من بعده .. إذن، فليحافظ على قيمته لمستقبل مجهول، وحاجة قد تعرض، وأيام عسرة قد تأتي .. وتتأكد هذه الحقيقة في أزمنة تقلبِ الأحوال الاقتصادية وعدم ثباتها. ثم إنّ العقار مال ثابت، بإذن الله، تشبث بالأرض فصار ثباته كثباتها، إلا أنّ قيمته تخضع دائما لمتغيرات السوق .. وتفيد الإحصاءات أنّ العقارات في معظم دول العالم تسجل ازدياداً مطرداً في قيمتها المالية، وقل أن تسجل تراجعاً .. ولو كانت قيمة أي عقار في تجارة فقد تبور، ويخرج صاحبها صفر اليدين.
وأثناء قراءاتي في السنة الصحيحة، ومنذ زمن، وقفت على حديث لا ينقضي منه عجبي (من باع منكم دارا أو عقارا فليعلم أنّه مال قَمِنٌ أن لا يبارك له فيه، إلا أن يجعله في مثله).
ومن لسان العرب بتصرف: (هُوَ قَمَنٌ بِكَذَا وقَمَنٌ مِنْهُ وقَمِنٌ وقمِينٌ أَي حَريٌ وخَلِيقٌ وجَدِيرٌ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: هُوَ قَمِنٌ أَن يَفْعَلَ ذَلِكَ، وقَمِين أَن يَفْعَلَ ذَلِكَ).
وقد جاء في الحديث الشريف: (وأَما السُّجود فأَكثروا فِيهِ من الدُّعَاءِ، فإِنّه قَمِنٌ أَن يُسْتَجابَ لَكُمْ). بمعنى حريٌ أن يستجاب لكم .. وكذلك المعنى في الحديث، موضوع البحث، ويصبح المعنى الإجمالي للحديث: (من باع عقارا وقبض ثمنه، فخليق أن لا يبارك الله له في ذاك المال، ما لم يجعله في عقار آخر) .. إنّه الوحي إذن، وليس خلاصة التجربة الإنسانية، إنّه كلام الحكيم العليم، تقدست أسماؤه.
وقبل الدخول في معنى الحديث، وإسقاطاته أوَدُّ أن أسجل استنتاجاً هاماً: إنّ ما اعتبرته في بداية الكلام وقفاً على (أهل الحكمة وأرباب الخبرة، وأصحاب التجارب)، ما هو إلا نتيجة تعليم رب الناس للناس، حتى في ما يتعلق بأمورهم المعاشية والمالية.
وأضيف استنتاجاً آخر: أنّ أجدادنا لم تكن السنة، وهي الوحي الثاني غريبة بينهم
كغربتها بيننا..! لكنّهم كانوا يَعُبُّون من الوحيين علماً ينفعهم ويرشدهم في كل شؤونهم، فخلف من بعدهم خلف زهدوا وفرطوا وجهلوا، والله المستعان، وها نحن نتحدث بما نُقل لنا عن الأجداد، نعتبره تراثا، جاهلين أنّه وحي السماء، وهو من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، تعلمه أسلافنا وعلموه وعملوا به، ونحن أضعناه .. فلنعد إلى الحال التي كان عليها أسلافنا، ولنبحث عن كنوز الوحيين ونعمل بها، لنكون من أهل الفلاح.
وهل كانت الرؤية والتجربة الاقتصادية، وأحوال المال، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، تقتضي هذا التعليم منه عليه السلام؟ أقول ليس بالضرورة؛ إنّما هي تعاليم الوحي التي ستبقى نافعة ونافذة إلى قيام الساعة .. وانظروا كيف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطى النصيحة بُعداً دينياً بقوله:
(قَمِنٌ أن لا يبارك له فيه، إلا أن يجعله في مثله) ومعلوم أنّ (البركة) مصطلح ديني بحت. والبركة مصدررها الله تبارك وتعالى وحده.
وللفائدة أوسع البحث أكثر فأقارن معنى هذا الحديث مع حديث قد يُظن بينهما تعارض، يقول عليه السلام: (إنّ المسلم يؤجر في نفقته كلها إلا ما يجعله في التراب).
وله رواية ثانية: (كل نفقة ينفقها العبد يؤجر فيها إلا البنيان).
والروايتان صحيحتان، فكيف يكون الجمع بين الحديث الأول والروايتين الأخيرتين؟ يأتي الشيخ الألباني رحمه الله بكلام طيب في السلسلة الصحيحة فأحببت إيراده:
(واعلم أنّ المراد من هذا الحديث والذي قبله – والله أعلم – إنّما هو صرف المسلم عن الاهتمام بالبناء وتشييده فوق حاجته، وإنّ مما لا شك فيه أنّ الحاجة تختلف باختلاف عائلة الباني قلة وكثرة، ومن يكون مضيافا، ومن ليس كذلك، فهو من هذه الحيثية يلتقي تماما مع الحديث الصحيح: (فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان). رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في “صحيح أبي داود”. ولذلك قال الحافظ بعد أن ساق حديث الترجمة وغيره: {وهذا كله محمول على ما تمس الحاجة إليه، مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر}. ثم حكى عن بعضهم ما يوهم أنّ في البناء كله الإثم! فعقب عليه الحافظ بقوله: {وليس كذلك، بل فيه التفصيل، وليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم .. فإنّ في بعض البناء ما يحصل به الأجر، مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني، فإنّه يحصل للباني به الثواب، والله سبحانه وتعالى أعلم}).
وأضيف من عندي ملاحظتين ضروريتين لزيادة إيضاح ما سبق:
الأولى: أنّ قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث؛ أنّ الإنسان لا يؤجر على نفقته في البنيان، فإنّ نفي الأجر لا يعني الوقوع في الإثم. وفي ذلك معنى اجتماعي واقتصادي رائعين .. فالمبالغة في توظيف المال في بيت السكن والاتجاه في ذلك نحو الترف يجمد قدراً كبيراً من المال الذي لو استغل في مشروعات تجارية عامة لوصل نفعه وخيره إلى شرائح كثيرة من الناس. أما البنيان فمردوده مقصور على أعداد قليلة.
الثانية: فيما يخص حديث فراش للرجل وفراش للمرأة فإنّ بعض الناس ردوا الحديث وضعفوه لأنّه لم يذكر فرشا للأولاد، ولا ننسى أنّ الحديث في مسلم .. والتوجيه أنّ النبي عليه السلام عبّر عن الأسرة بأقل ما تقوم به وهما الزوجان، وكلما زادت الأسرة فردا جُعل له فراش، والأسلوب قوي في التغليظ على الإسراف في المعيشة، فيما لا حاجة إليه.
وتنقلني هذه الفقرة إلى وقفة غير طويلة مع مسألة هي في السياق الذي نحن فيه، ويكثر الحديث والنقاش فيها، وهي مسألة الإسراف والتبذير، ما الفرق بينهما، وهل الأمر فيهما نسبي يتعلق بالإمكانية المادية للناس فما ينبغي في حق زيد لا يسري على عمرو لتفاوت المقدرة المادية بينهما، أم أنّ المسألة تقف عند حدود شرعية اجتماعية منطقية وعرفية؟ فلنستعرض الأدلة ونناقشها ثم نجيب عن السؤال:
يقول تعالى: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ).
فالإسراف الزيادة ومجاوزة الحد في كل شيء، ولو كان أصل الشيء صحيحاً ومباحاً، ولكن الزيادة فيه عن الحد محرمة. وجاء التحريم من قول تعالى في الآية (وَلا تُسْرِفُوا)، وقوله تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). وقول النبي عليه السلام: (فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ).
ودليل استعمال مفهوم الإسراف، بمعنى مجاوزة الحد والزيادة، في غير الأمور المادية، ما جاء في القرآن الكريم: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وَالْإِسْرَافُ هنا: الْإِكْثَارُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِسْرَافُ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي ومثله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). وجاء في الكتاب: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، أي لا يتجاوز الحد.
وقال سفيان بن عُيَيْنة: (ما أنفقتَ في غير طاعة الله سَرفٌ، وإن كان ذلك قليلا).
أما التبذير فقد قال ربنا تبارك وتعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).
فالتبذير ليس مجاوزة الحد في إنفاق مأذون به، إنّما هو بذل المال في غير وجه شرعي. أما الإنفاق في الحقِّ لا يُعَدُّ تبذيرًا؛ قال مجاهد: (لو أنفق إنسانٌ مالَهُ كلَّهُ في الحقِّ، لم يكن مبذِّرًا، ولو أنفق مُدًّا في غير حقٍّ كان مبذِّرًا).
فالتبذير أعظم وزرا من الإسراف لسببين؛ لأنّه إنفاق في مجال غير مشروع أصلا، ولأنّ الله غلظ في ذم المبذرين أكثر مما فعل في المسرفين. فقال: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). أما عن المبذرين فقال: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).
ولنضرب مثلا توضيحياً مأخوذاً من الحديث الذي مر معنا، وهو في مسلم: (فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ لاِمْرَأَتِهِ وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ). فلو أنّ إنسانا أسرته خمسة أشخاص فسَيُعد مكانا لنوم ثمانية، أسرته زائدا عليها ثلاثة أماكن للأضياف. فلو بالغ في قيمة التأثيث والتجهيز لكان آثما لأنّه أسرف في ما هو مباح أصلا. أما لو جعل للأضياف عشرة أماكن للنوم، ولم يكن مضيافا بهذا الحجم، ولا حاجة لذلك لكان مبذرا لأنّه خالف الحديث السابق بإضافة أماكن نوم لا حاجة له بها، وهذا إنفاق في شيء محرم، لأنّه للشيطان، كما جاء في الحديث. ولو قال قائل إذا لم يكن تمويل تلك الزيادة مشكلا للرجل لأنّه ذو إمكانية مالية عالية، نقول: القضية ليس معيارها الأمر النسبي بين حجم الإنفاق ومقدرة المنفق، إنّما المعيار موافقة الأمر الشرعي، والوقوف عنده. فتعاليم الإسلام تؤسس في نفس المسلم ثقافة وعلما تصبح عنده دينا، ولا يبقى شيء للنسبية والمقايسات والمقارنات التي تميع الأمر الشرعي في النهاية. انقدح هذا الرأي في ذهني حين مرَّ بخاطري النصان الآتيان:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: (مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ). قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: (نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)).
يقول الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة: (…فقد رجعت عن تضعيف الحديث به إلى تحسينه، راجياً من الله أن يغفر لي خطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، وأن يزيدني علماً وهدى). وكان الشيخ رحمه الله قد ضعف الحديث في كتاب (إرواء الغليل) لعلة فيه، ثم بدا له علم جديد فرجع عن التضعيف إلى التحسين، وذكر ذلك مفصلا في السلسلة فليراجع. وأورد الشيخ أثرا للتابعي هلال بن يساف قال: (كان يقال: في كل شيء إسراف، حتى الطهور؛ وإن كان على شاطىء النهر). ويقول الشيخ: (وهلال هذا ثقة تابعي، فكأنه يشير إلى هذا الحديث، وإلى أنه كان مشهوراً بين السلف، والله أعلم).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال: (هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء أو تعدى أو ظلم)).
بقي أن ألمح إلى أنّ العنوان مقتبس من اسم كتاب (مفتاح كنوز السنة). مؤلفه المستشرق الهولندي أرند جان فنسنك. وقد وضعه بالانكليزية، وترجمه إلى العربية المحقق محمد فؤاد عبد الباقي. والكتاب عبارة عن معجم مفهرس عام تفصيلي، وضع للكشف عن الأحاديث النبوية الشريفة المدونة في خمسة عشر كتاب من كتب أئمة الحديث النبوي الشريف.
موطن العجب أيها القراء أنّ يسمي مستشرق كتابه كنوز السنة، وما أخاله لو وجد كلمة أعظم دلالة من (كنوز) إلا استعملها، وفي المسلمين زاهد بهذه الكنوز وما أكثرهم..!
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهوره محمول..!!!