حديثٌ قرأته زماناً، وأذكر أن أولَ ردِّ فعلٍ كان لي عقب قراءته الأولى أن قلت بداهة، ودون أن أفكر: (يا له من حديث مخيف…!)، وصدقوني ما من مرة قرأت الحديث أو ذكرته بعد ذلك، إلا قفزت إلى خاطري العبارة نفسها..! وما أكثر ما خطر في بالي أن أكتب عن الحديث، مُعَرِّفًا به، ومُحذراً الناس من أن يشملهم منطوقه ومفهومه وهم لا يشعرون..! ويصرفني صارف ما، أو يفعل التسويف فعله. إلى أن شاء الله أن أفعل اللحظةَ، وها قد بدأت وأسأل الله العون .. وما هو الحديث؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع). السلسلة الصحيحة حديث رقم (2535).
ومن حق القاريء عليّ أن أشرح سبب وصفي الحديث بأنّه (مخيف). إنّ الصلاة من أعظم أركان الإسلام بعد كلمتي التوحيد .. وهي كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع).
ومن الأحاديث المؤكدة لأهمية الصلاة، قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله).
أوليس مخيفاً أن يَتعب إنسان ويَنصب، وهو يؤدي الصلاة ستين سنة، ثم يخبرنا من لا ينطق عن الهوى، أنّ ذلك المسكين، بل المحروم، سيخرج بعد ستين عاما من التعب والنصب صفر اليدين، لا يجد في سجل عمله صلاة مقبولة، فأيُ أملٍ يبقى له من أجل الخلاص الأخروي .. وحقيقة كهذه تصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ألا تستحق أن يدع العبد كل شاغل يشغله، وكل عمل يعمله، وكل هدف ينشده، كي يتقيَ هذا الخسران المبين. وبكلمات أخر، أن يَجِدَّ ويَجتهد ليقفَ على موجبات قبول الصلاة عند الله، فيفعلها، ومسببات عدم القبول، فيجتنبها. ولنتذكر كي نخشى حق الخشية، وصفَ النبي عليه الصلاة والسلام، تَمَيُّزَ الصلاة عن سائر العبادات، في أنّها (إن صلحت صلح له سائر عمله و إن فسدت فسد سائر عمله).
ومن المؤسف، أنّ أكثر الناس عن هذا غافلون، وعن التذكرة معرضون .. فترى الرجل يبلغ الستين أو السبعين وتنظر في صلاته وهو يصلي فتجده يصليها كما تعلمها في الكُتَّاب، وهو ابن سبع سنين، أو كما علمه إياها أبوه أو أستاذه في الصغر .. أين أمضى تلك السنين الطويلة..؟ لقد تطور حاله في كل شيء إلا في الدين .. إنّي لأعجب أشد العجب من مثل أولئك الناس، ألم يسمع مرة في حياته بحديث: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)..؟ ألم يخطر بباله أن يبحث عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليعرض صلاته عليها، فيعلم أين ستذهب به صلاته..؟
ولا تُعَصَّب الجناية برؤوس العوام، بل هي برؤوس المشايخ والموجهين قبلهم؛ لا لأنّهم لم يُعلموهم هذا الحديث وكيف يجعلون صلواتهم عند الله مقبولة، بل لأنّهم قبل ذلك، وأهم منه، لم يحرصوا أن تكون صلواتهم أمام من يربون ويوجهون، نموذجاً ومثالاً للصلاة المتقبلة عند الله، والتي تجسد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مسلم (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).
والأعجب أن تدفعك الغيرة، لتصحيح صلاة أخ في الله، لا توافق صلاته صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبع معه كل الحكمة، وتتلطف معه كل التلطف، وتتأدب معه كل الأدب، ثم تفاجأ بعد الشرح وذكر الأدلة بالأجوبة الآتية: (أنت أفهم من المشايخ الذين علموننا) .. (وهل بعد هذا العمر، سأتعلم من جديد كيف أصلي؟ وماذا عن الذي مضى؟). وأسوأ جواب تلقيته، عياذاً بالله، (أنا هيك بعرف وبس، من لم تعجبه صلاتي لا يقبلها) أستغفر الله .. كل تلك الأجوبة تلقيتها وأعجب وأغرب، فما سبب هذا الواقع..؟ لا بد من مناقشة.
وقد بدا لي بين يدي المناقشة، أن أعرض قصة جرت معي تتصل ببحثنا في هذا الحديث (المخيف)، وقد تُكسبه عنصر الواقعية، وهو ضرب من التوثيق. وتُصور بعض الخلل الموجود في حياتنا الدينية، والمسؤول عنها طرفان رئيسيان: المشايخ الموجهون من جهة، ثم سائر الناس من جهة أخرى.
اتصل بي أخ كريم، يدعوني إلى عشاء في مزرعته، في ليلة من ليالي صيف دمشق الجميلة. فشكرت له وواعدته. وقبل أن ينهي المكالمة أضاف، إنّه عشاء عمل يعجبك! قلت وضح، قال لفيف من أصدقاء يبلغون العشرين، وهم من عامة الناس، طيبون، جمعتني بهم ظروف متعددة، وكلهم حول الستين، وأُحب أن أُكرمهم مرتين؛ بعشاءٍ يُعبر عن الود القديم، وجلسةِ توجيهٍ دينيٍ تعلمهم بعض أمر دينهم، والأمر لك. قلت حسناً. ولما التقينا، قبل وصول الإخوة، سألني ماذا رتَّبْتَ؟ قلت إذا قمنا لصلاة المغرب جماعة، فقدمني للإمامة، ودع ما تبقى لي. ففعل، وصليت بهم الصلاة المعتادة عندي، وعند كل مسلم يقتدي بصلاة نبيه عليه السلام، وكنت على يقين أنّهم سيجدون فرقاً كبيراً بين ما يصلون الآن، وما اعتادوه، لمعرفتي الوثيقة بأحوال الناس ومشايخهم. وإن كان في ظنهم جميعاً أنّ ما يشهدونه الآن (شاذ). ولما انتهينا وسبحنا، عاجلتهم قبل أن يقوموا، أن مكانَكم! وقلت أريد جلسة صدق ومصارحة ننتفع بها جميعا، فرحبوا مبتسمين! سألتهم وفاجأتهم، ما رأيكم بالصلاة الماضية؟ فانبرى أول ما انبرى المداحون فقالوا ما قالوا للاستهلاك وتسجيل موقف. قلت شكرا، أريد النظرة الثانية. فتشجع الناقدون، وبدأ مجموعة منهم بالقول، وبشكل أقرب إلى أن يكون جماعياً: لقد صلينا مع كل أسيادنا مشايخ الشام، ما كانت هذه صلاتهم..! وقال واحد منهم كاد نفسي ينقطع من طول السجود، وقال آخر نصفنا أو يزيد، هوى إلى السجود وأنت مازلت تسبح بعد قولك (سمع الله لمن حمده). وقال آخر: نقف جميعا وأنت لم تنهض من السجود بعد. وبعد أن وجدت أنّهم قالوا تقريبا كل ما عندهم، تـلوت على مسامعهم الحديث وأفضت في شرحه، وركزت على مفهوم الاطمئنان في الصلاة، وأنّه ركن، وأنّ التساهل فيه يبطل الصلاة، لقول النبي عليه السلام للمسيء صلاته: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ). وألنت لهم القول، وذكرتهم الله واليوم الآخر. وانتهت الجلسة بأقوال تكررت من كثير منهم واستغرقت معظم الحديث على العشاء وبعده، وكانت تدور حول فكرة (لو علمنا مشايخنا ما علمتنا اليوم لكنا غير ذلك، فما ذنبنا؟).
ونعود إلى مناقشة الحديث وغيابه من صلاة الناس، وما يستفاد من القصة المروية. ويبدو لي، والله أعلم، أنّ للواقع غير الصحي والصحيح في حياتنا الدينية، أسباباً ثلاثة، تجب معالجتها.
السبب الأول: الجهل بالدين وبالعبادات بشكل خاص، وطغيان العادة على العبادة، فتصير العبادة تؤدى وفق مقتضى العادة، وليس وفق مقتضى الدليل .. أو أنّ الإنسان الملتزم يؤدي الصلاة كما رأى شيخه يؤديها لا كما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، من خلال قراءة السنة.
ورحم الله الشيخ الألباني الذي خلف وراءه كتاباً يكتب بماء الذهب ولا يوفى حقه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، كأنّك تراها من التكبير إلى التسليم) مستنبطة من صحيح الأحاديث، وقد خرج الكتاب أول ما خرج في ثلاث مجلدات كبيرة، لأنّه ما ترك حديثا إلا استقصى سنده وأقوال العلماء فيه فجاء بهذا الحجم، ولما أدرك بعض أهل العلم قيمة الكتاب، وحاجة المسلمين إليه تمنوا على الشيخ اختصاره، فاختصره في مئة وعشرين صفحة .. وقد نفع الله به كثيرا من المسلمين، ممن يحرص على النفع، في أن يرقوا في صلاتهم لتماثل صلاة نبيهم .. ومن الناس من تهديه الكتاب فلا يزيده ذلك إلا إصراراً على عدم قراءته.
ويجمل هنا التذكير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ)، ولا يتضح المعنى إلا بإيراد المفهوم المعاكس للحديث أنَّ من لم يتفقه في الدين فإنّ الله لم يرد به خيرا. والفقه في أبسط تعريف له أن يعرف العبد ماذا أراد الله ورسوله منه في الكتاب والسنة..!
ولكتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنك تراها من التكبير إلى التسليم)، قصة من المناسب ذكرها في هذا السياق، لا للتعريف بالكتاب، فهو أشهر من أن يُعَرَّف، ومن أمثال وقواعد النحاة (العلم لا يعرف)، ولا، للدعاية للكتاب، فهو غني عن ذلك، قد سارت بحديثه الركبان. إنّما القصد إظهار زوايا وخبايا، من الخلل في حياتنا الدينية، لا يعلمها إلا القليل.
أهديت، في دمشق، أخاً كريماً نسخة من الكتاب، بعد أن بين لي أنّه لا يعرف عنه شيئا، فقرأه بسرعة وعاد إلي يسأل، أين يجد الكتاب ليشتري نسخاً ويهديها، لما عرف قيمة الكتاب. قلت له، بكل أسف، إنّ مكتبات دمشق تقاطع الكتاب وكل مؤلفات الشيخ الألباني. وأكدت له أنّي قمت بنفسي بالبحث عن الكتاب، ولم أوفق. يفاجئني الأخ بعد أيام بأنّه أوصى صديقا له، من حي الميدان، يمتهن تجارة الكتب، بإحضار عدد من النسخ من بيروت. فسررت، وشكرت له اهتمامه. وبعد نحو عشرة أيام، جاءني الأخ وقال إنّ النسخ وصلت، وأنّ صديقه سأله من زكى لك هذا الكتاب؟ فأجابه صديق لي لا تعرفه. فقال: لا أسلمكك الكتب إلا أن تأتي بصديقك غدا بعد صلاة الفجر إلى بيتي وتفطران (الفول المدمس)، ونتعرف على الأخ، ثم تأخذ الكتب. فأجابه: إن وافق الأخ أتيناك. وتم اللقاء في اليوم التالي. وكان الأخ صاحب الدعوة متلطفاً متأدباً جداً. عَرَّفْتُه بنفسي، وطلب مني أن أحدثه كيف تعرفت بالشيخ الألباني، ففعلت. ثم جاء موضع الإثارة الكبير في القصة. التفت مضيفنا إلى صديقي وقال: يا أبا… لما طلبت مني إحضار الكتاب، وأنت كما تعلم عزيز علي، رضيت حياء من أن أقول لك لا،. لكنّي قلت سأتدبر الأمر. كانت المشكلة عندي، كيف سأحضر كتابا عُلمت من صغري حتى كبري، ومن كل مشايخي، وباستمرار أنّ (مؤلفه ضال مضل). لكنّني رضخت للأمر الواقع. واستلمت الكتب ذات مساء، ولم أخبرك يا أخ أبا… إلا في اليوم التالي، بعد أن قضيت الليلة الماضية عاكفًا على دراسة متأنية للكتاب. والآن أشهدكم على ما أقول، وبدأ يكيل الدعوات والشتائم على كل من حذرهم، يوماً ما من الشيخ الألباني ومؤلفاته. وذكر أسماء معروفة لامعة من مشايخ الشام لا داعي لذكرها. وقال عن نفسه، في ما أذكر الآن، لو أنّي درست الفقه على منهج أهل الحديث طيلة السنوات الماضية، لكنت الآن فقيها بحق، ثم عاد يدعو ويشتم ويلعن. هذه القصة دون أي تعليق مني، فخذوا منها ما تشاؤون..!
السبب الثاني: أنّ الكثيرين من الناس تفقهوا وتتلمذوا ودرسوا، وحفظوا من المتون ولازموا أهل العلم، بزعمهم، ولكن لم يقرؤوا فقه الدليل وإنّما فقه المذهبية والتقليد دون أدنى معرفة بالدليل من الوحيين. فكانت النتائج مُباينةَ العملِ عند تلك الشريحة من الناس لهدي نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، فيصعب عليهم بعد ذلك التصحيح.
إنّ دراسة الدين يجب أن تحصر في دراسة الوحيين والأقوال التي تدور في فلكهما توضيحا وتسهيلا. وأضرب لكم مثالا واقعيا يتعلق بالحديث الذي نحن في صدده. الحديث المذكور يؤكد على مسألة الاطمئنان في الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم، معللاً سبب عدم قبول الصلاة: (ولعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع)، والمقصود بالاتمام في الركوع والسجود الاطمئنان بهما وبالرفع منهما. والاطمئنان في أعمال الصلاة ركن من أركانها، ومعنى الركن أنّ الصلاة لا تصح بفواته، ومعظم العلماء على هذا وهو مأخوذ من الحديث المشهور (حديث المسيء صلاته) وله روايات عدة أقتصر على رواية الصحيحين:
عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ فَرَدَّ وَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ). فَرَجَعَ يُصَلِّى كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ فَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ثَلاَثًا. فَقَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِى. فَقَالَ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا)).
وإذا أردنا التدقيق في الحديث، رأينا بكل وضوح أنّ الخلل الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته بإعادة الصلاة ثلاثاً من أجله كان عدم الاطمئنان فيها، ويكاد يكون هذا إجماع الشارحين للحديث. ولنعد قراءة الأسطر الأخيرة منه: (ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا). ويتأكد ذلك حينما نستعرض بعض ألفاظ الروايات الأخرى للحديث مثل: (ثم تسجد حتى تطمئن مفاصلك)
و
(حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ).
وأريد أن أوسع الفكرة فأسألكم بالله، لو أنّ شيخاً يطلب من أحد المصلين أن يعيد صلاته ثلاث مرات، قائلا له: (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ثلاث مرات .. ماذا نقول عنه؟ لا أشك أنّ الناس سيتسابقون، عالمهم وجاهلهم، لشتمه، ولعنه، وإخراجه على أنّه متشدد، فظ يُكَرِّهُ الناس في الدين، وفي الصلاة .. وهذا من أكبر الأدلة على جهلنا بالسنة، وغربتنا عنها وغربتها فينا..! إنّي قلت مرة في إحدى المناقشات: لو عرضنا هدي نبينا على آراء بعض الذين يزعمون التيسير على الناس (والوصف الأليق دعاة التفلت) لصنف النبي على أنّه مُنفر متشدد، متزمت .. أيها الإخوة إنّ الدين لا يقبل المجاملات والتحايلات إنّما هو التزام النص، واتباع الهدي، والدين اتباع أو لا دين.
هذا ما اقتضاه الدليل من الهدي النبوي فيما يخص الاطمئنان في الصلاة وأهميته. فماذا تقول المذهبية والتقليد..؟ جاء في كتاب (تبيين الحقائق) في المذهب الحنفي: (حتى أنّه لو سجد على شيء ثم نزع من تحت جبهته وسجد ثانيا على الأرض جاز وإن لم يرفع…).
وجاء في الكتاب نفسه، وفي الفتاوى الهندية: (وَاخْتَلَفُوا في مِقْدَارِ الرَّفْعِ فَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كان إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ جَازَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ قَاعِدًا وَإِنْ كان إلَى الْأَرْضِ أَقْرَبَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاجِدًا وقال محمد بن سَلَمَةَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ بِحَيْثُ لَا يُشْكِلُ على النَّاظِرِ أَنَّهُ قد رَفَعَ يَجُوزُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ ما تَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ جَازَ وَرَوَى أبو يُوسُفَ عنه إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ ما يُسَمَّى بِهِ رَافِعًا جاز). وإنّي أريد التمثيل لما قلت وليس استقصاء كامل المسألة.
ولْنُنْهِ موضوع الاطمئنان
في الصلاة بالحديث الصحيح الآتي: (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ ركوعها وسجودها). وبما صح موقوفا على بلال رضي الله عنه، وله حكم الرفع: (أنّه أبصر رجلا لا يتم الركوع ولا السجود فقال: لو مات هذا لمات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم).
السبب الثالث: أنّ كثيراً من المصلين، والأصح أن أقول المتعبدين لا يميزون بين عبارتين: أداء الشعيرة، وتعظيم الشعيرة .. والخلط بينهما كالخلط بين فهمين متباينين لقول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه: (أرحنا بها يا بلال)..! فمن الناس من يفهمها من خلال انشغاله وانغماسه في الحياة وماديتها، على أنّ العبارة (أرحنا منها فلنؤدها كيفما اتفق). وكأنّ الصلاة إِصْرٌ يريد أن يضعه عن عاتقه.
وأداء الشعيرة دون تعظيم، هو ما عبر عنه الحديث: (إنّ العبدَ ليصلي الصلاةَ؛ ما يُكْتَبُ له منها إلا عُشْرُها، تُسْعُها، ثُمْنُها، سُبْعُها، سُدْسُها، خُمْسها، رُبْعُها، ثُلْثُها، نِصْفُها). أما تعظيم الشعيرة ففي قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
وكيف تعظم شعائر الله؟ إنّ قمة تعظيمها أن يؤتى بها وفق الهدي النبوي اتباعاً. ولا يأتي بالتعظيم إلا التقوى التي تعمر القلب. فليراجع كل مصلٍ حسابه من جديد، هل اطمأنَّ، هل اتبعَ، هل عَظَّمَ..؟ ولنتذكر دائما أنّ الفرق بين أداء الشعيرة (صلاة كانت أم غيرها من العبادات) وتعظيم الشعيرة كبيرٌ وكبيرٌ كما بين المشرقين .. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه … والحمد لله رب العالمين