بلا مقدمات أقول: لا جرم أنّ دين المسلمين اليوم يحتاج إلى عملية إصلاح كبيرة .. فقد دخل في الدين الكثير مما ليس منه، بالتأويل تارة، وبالابتداع أخرى، يساند ذلك ويقويه سلطان الأكثرية، والتمحور حول الأشخاص، والاصطفاف مع الفرق .. وقد يكون وقع عبارة (إصلاح الدين) على أسماع أكثر الناس شديداً وغريباً .. والناس أعداء لما جهلوا، فيثور في أنفسهم تساؤل؛ وهل يصيب الدين عطبٌ؟ وأجيب بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِى، وَأَصْلِحْ لِى دُنْيَاىَ الَّتِى فِيهَا مَعَاشِى، وَأَصْلِحْ لِى آخِرَتِى الَّتِى فِيهَا مَعَادِى، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِى فِى كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِى مِنْ كُلِّ شَرٍّ). ما جعل دعوة الناس اليوم إلى الدين الحق، يعترضها ما اعترض دعوة الأنبياء (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) .. وهذا الواقع أكد دور (الغرباء) في هذه المهمة الكبيرة والشاقة، وأبرز حضورهم في الساحة، وهم في وضع لا يُحسدون عليه، لما يلقون من الصدود والكيد .. لكنّها المهمة التي اختيروا لها، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في صحيح مسلم قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى للغرباء).
وما صفة الغرباء التي وصفهم بها نبيهم عليه الصلاة والسلام؟
. (طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
. (إنّ الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس).
ومن الأهمية بمكان في عملية الإصلاح ترتيب الأولويات. وأهم الأمور، وأعظمها، وأنفعها في سياق إصلاح التدين اختيار المنهج، وتحريره، وتفعيله .. ولا بد من وقفة قصيرة مع كل كلمة:
فالاختيار: هو انتقاء لواحد فقط من مناهج تعددت وتضاربت وضلت وأضلت.
والتحرير: هو التحقيق والتدقيق ليصبح الطريق محددا، والهدف واضحا، والانحراف مأمونا، وكل ذلك مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).
والتفعيل: هو التطبيق، ولن يكون تفعيلٌ إلا بالتطبيق. وأؤكد على هذه الفكرة لأنّني أعرف أشخاصا لا يفوتون فرصة لإبداء إعجابهم بالمنهج، والدفاع عنه أمام المستهينين به، أو المخالفين له، لكنّهم في التطبيق ينقصهم الكثير .. ومرد ذلك إلى مسايرة ومجاملة للواقع (الديني غير الصحيح) وأهله، إضافة إلى ضعف وعجز في مواجهة ضغط الأكثرية، وعوائد الناس، وسلطان الواقع .. وكل هذا الضعف والعجز مرده إلى فشل في الاستقواء بالنصوص التي هي الأصل في الدين، والتي هي أكبر من كل شيء .. فلنتخلص من التغني بالعبارات، والاكتفاء بالقناعات النظرية، متجاوزين ذلك إلى حمل النفوس وتعويدها على الفعل وليس القول .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
وحتى لا تطول المقدمة، فلنبدأ بالكلام في المنهج الذي هو أصل في الدين والتدين، وعصمة من الانحراف، وأقرب وأسلم طريق إلى الله..! بقي أن أذكر أن أبرز ما يحققه التزام المنهج للمسلم هو:
تحديد المسار .. فلا يتيه السائر في منعطفات ومسارب جانبية .. وما أكثر قوى الشد لمعاكسة الطريق الموصل!
وهذا الحق ليس به خفاءٌ فدعني من بُنَيَّاتِ الطريق
وترتيب الأولويات .. فلا ننشغل عن عملية القلب لمريض في حالة الخطر الشديد باستئصال تجميلي لبعض ثآليل على جسده..!
وتوفير الوقت والجهد .. فالمسلمون في صراع مع الزمن الذي لا ينتظر تباطأهم، ومع أعداء لا يرحمون تقاعسهم، ومع أَجَلٍ لا يعذرون بجهلهم نهايته..! وقبل ذلك وبعده، فإنّ لهم موعدا لن يخلفوه: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ).
ولكنّي أريد أن أركز على واحدة أخرى من منافع المنهج قد تغيب عن الكثيرين. فكثير من الأسئلة تتكرر على المفتين والمراكز والمواقع الإسلامية تدور حول شكوى أصحابها من فقدان الخشوع والمتعة أثناء تأدية العبادة، ومنهم من يقول إنّه لا يشعر حين يقوم إلى الصلاة بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال)، فلا تتحقق له الراحة بأدائها، بل يجد أنّها عبء على نفسه ووقته، بدل أن تكون راحة وطمأنينة. وعبادة الصيام، كيف تكون متعة للنفس وقربة إلى الله، وهي في ظاهرها تضور من الجوع، وضحوة من العطش في أيام كأيامنا شديدة الحر، إن لم يكتنفها معنى روحي عبادي ييسرها وهي صعبة ويحببها وهي قاسية .. والسر، وهو ليس سرا في الحقيقة بل أسميته كذلك لخفائه على الكثيرين. إنّ الراحة والخشوع والطمأنينة والسكينة في أي عمل عبادي لا تتأتى إلا إذا كان العمل العبادي يؤدى وفق الهدي النبوي وكما علم صاحب الهدي، وهذا الذي يحققه المنهج الحق في عمل العاملين، وإن كان كذلك ظهر فيه الإخلاص، ولن يأتي بالإخلاص إلا الاتباع، وكان العمل عندئذ خالصا لله، ظاهره وباطنه الحلاوة، التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي حرم من مذاقها الكثيرون.
فلا بد من أن نتذاكر في المنهج … وحتى لا تستغربوا أسلوب عرضي للموضوع ائذنوا لي بفكرة وإيضاح، وهي أقرب إلى الذاتية والوجدانية .. إنّي ولسبب أجهله ومنذ زمن بعيد متأثر ومتفاعل جدا حين أقرأ قوله تعالى في سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، والذي أقصده قوله تعالى (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) فهل التأثر يا ترى بتركيب العبارة، أم بقوة المعنى الذي توحيه، فإنّها حاسمة في رد كل الأباطيل والشكوك التي تثار حول كتاب الله الكريم .. أم .. أم .. أم ..؟ لا أدري .. لكنّني أدري أنّني لولوعي بهذه الكلمات القرآنية، ولأنّ منهجنا الحق يتعرض إلى الغمز واللمز والتسفيه والتشكيك، ما يحتم رداً حاسماً على كل مناويء ومشكك وحاقد ومكابر .. سأستعير هذه الكلمات القرآنية، مرات ومرات، وإلى الموضوع:
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن نقول للناس وللمسلمين والمؤمنين من الناس معرفين لهم الإسلام تعريفا لم يعرفوه من قبل، أنّ الإسلام دين مادته الوحيان، وطريقه الاتباع .. وكل دين استمد مادته أو بعض مادته من غير الوحين، أو أقيم على غير سبيل الاتباع فهو رد على أصحابه وليس مقبولا عند الله. وما كل ما سمي دينا هو عند الله مقبول فقد سمى الله الكفر دينا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
وأن نقول للناس إنّ الإسلام لا يقبل تعددية الوجوه، وهو إسلام ذو وجه واحد مشرق وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بوصف لا يَحق لأحد أن يغيره أو يبدله أو يتجاهله (ما أنا عليه وأصحابي) .. وكل تدين لا يشرق بهذا الوجه الكريم رُد على صاحبه برد الله ورسوله.
والذين يمارون في صحة حديث الافتراق الذي جاءت فيه عبارة (ما أنا عليه وأصحابي) نقول لهم إنّ أصل المعنى في قوله تعالى (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فما أنتم فاعلون..؟ وهل تردون الآية كردكم الحديث..؟ وإنّ من حقنا إذن بل من واجبنا الشرعي، أن نفاصل الناس على هذا. وفرق كبير بين أن نفاصل وأن نقاتل، ولاتحاد الوزن قد يخطيء السمع بينهما، نفاصل مُستبْقين أخوة الإسلام، متفائلين برجعة المخالف، متلطفين في الدعوة .. وإصراري على كلمة المفاصلة لأنّي رأيتها المناسبة لتُرْفعَ في وجه المجاملة، وكم أكلت المجاملات من دين الناس.
و مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن أحذر نفسي وإخواني من تعدد الولاءات لأكثر من منهج، هذا الذي يظنه بعض الجهال اليوم حكمة، ونظرة واسعة، وخدمة للدين، وجمعا وتوحيدا للمسلمين، وهو، حقيقة، (لعبٌ على كل الحبال) .. واقرؤوا قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). فسلف الأمة ومنهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، الذين بهم نصر الله الدين، وبه انتصروا، لم يعرفوا ولم يخوضوا تلك المتاهات .. بل كانوا صادقين واضحين وأسموا ذلك اللعب والعبث (تلونا في الدين) واقرؤوا هذا الأثر: عن مولى لأبي مسعود قال: (دخل أبو مسعود على حذيفة فقال اعهد إلى. فقال له: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى وعزة ربى. قال: فاعلم أنّ الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون فان دين الله واحد).
وكانت كلمة التلون في الدين مخيفة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاء عنهم أنّهم كانوا (يكرهون التلون في الدين). بل جاء عنهم ما هو أشد من ذلك، أنّهم كانوا (يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله).
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن أنصح أصحاب المنهج الواحد، وأنا أتمثل قول الشاعر:
أرى وسط الرماد وميض نار وأخشى أن يكون له ضرام
فأحذر من التفرق داخل المنهج الواحد، فلذلك مردود سلبي كبير ينعكس على الأشخاص، وعلى سمعة المنهج ونظرة الناس إليه، وهو الأخطر، لأنّ الفرحة بتحقيق الواجب ليس في كوننا على منهج وحسب، بل أن نكون خير دعاة له بسلوكنا قبل قولنا .. وكيف يقبل الناس منهجا، التفرق شيمة أصحابه..؟
إنّ التفرق والانقسام الذاتي من أبرز خصائص أهل البدع والانحراف لأنّ دعاواهم تركت الأدلة وحكمت الأهواء والنوازع فكان أن تفرقت..! فهل يليق ذلك بمنهج يقوم على الاتباع وتحكيم الدليل..؟ ولا أريد أن يفهم أحد أنّ أصحاب المنهج الواحد لا يختلفون، وقد حررنا هذه المسألة سابقا وألخص ذلك الآن فأقول: إن كان الاختلاف مع وجود نص قاطع، وكان الاختلاف تحيزا لقول أو راي، أو انجفالا إلى شخص أو جماعة، أو تحكيما للهوى، أو، أو، فهذا هو الشر المستطير، وهذا هو الداء الوبيل الذي يطيح بالمنهج، بل بأصل الدين، وهو الاختلاف البغيض بل المحرم المؤثم للسائرين فيه والداعين له .. أما إن كان الاختلاف على مسرح الاجتهاد لغياب النص الفاصل للنزاع، فهو الذي ما زلت أبديء وأعيد أنّه الاجتهاد المحمود المأذون به بل الذي لا بد منه .. وعندها تأتي القاعدة (ما اجتهادٌ بأولى من اجتهاد)، فعلام نتنازع ونختلف..؟
فلا بد إذن، قبل أن نختلف، ونخرج على الناس بخلافنا، أن ندرك هل اختلافنا محمودٌ أم مردودٌ، كما بينا آنفا .. وبعدها إما أن نكون معذورين باختلافنا، أو موزورين، وبالتالي نكون بين موقفين: واحدٍ يجب أن نتفاصل ونفاصل المخالفين عليه لأنّه تجاوز للنص ومخالفة له، وتقديم بين يدي الله ورسوله، فلا مجاملة ولا كرامة. وآخرَ لا يفسد للود قضية ولا يخرج صاحبه من الصف .. بل تحرم المفاصلة عليه، ومن فعل فقد ضل ضلالا بعيدا.
فليتق اللهَ كلٌ في نفسه، وفي إخوانه، وفي منهجه، وفي دينه، وفي المسلمين .. واعلموا أنّ المنهج يوحد ولا يفرق، إن كان الانتماء له صادقا .. ومجاهدة النفس على ذلك ليست سهلة بسيطة، لأنّها تحتاج إلى استبعاد الهوى، وإقصاء تقديس الرجال، وأن يكون الدين كله لله.
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن نقول للناس إنّ المنهج الذي ندين الله به، وندعو الناس إليه، ليس بدعا من القول والعمل .. إنّما هو الواجب الذي لا يصح غيره .. وإنّه ليس تحزبا مع فرد أو جماعة، وليس تكثيرا لسواد فئة أو مجموعة. إنّه جماعة المسلمين الكبرى التي يجمعها التزام الوحيين، واتباع النبي، وتحكيم السلف وتقديمهم لأنّ الله ورسوله قدماهم .. ورجالها يُعرفون بهذا الانتماء ويُعَرَّفون، وليس بهم تُعرف الجماعة وتُعَرَّف..! ومن رغب عن هذا وارتضى به بديلا، فهو خارج جماعة المسلمين ولو شد الملايينُ من أزره، ومن اعتصم به فهو جماعة المسلمين وإن كان وحده. اهتداء بقول ابن مسعود (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أنّ المسلمين، جماعات وأفرادا، قد تواجههم في تدينهم مشكلات. أبرزها اختلاف في الحكم، واختلاف في الفهم.
أما الاختلاف في الحكم، فأن يتنازعوا في حكم الدين في مسألة، كاختلاف المذاهب الأربعة في بعض المسائل .. فما العمل؟ أجابنا ربنا بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا).
وقد تكلمنا كثيراً في تأويل الآية، وفهمها الصحيح، ووجوب العمل بها. وألخص القول سريعا: لقد بدأت الآية بالأمر بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، وتلك الطاعة هي أكبر عاصم من التنازع والاختلاف. ولكن واقعية الإسلام تقضي بإيجاد العلاج لتنازع قد يقع لخلل في تطبيق الأمر بالطاعة. وقد رُدَّ أصحاب ذلك التنازع إلى الله أي إلى كتابه، وإلى الرسول أي إلى سنته وهديه، ومن فعل ذلك من المتنازعين فهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وحقق بعمله خيري الدنيا والآخرة (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا) .. ومن لم يفعل فهو مخصوم بالمفهوم المخالف، فليس مؤمنا وليس مدركا للخيرين..! وإنّ الأمر في الآية ليس تخييراً، وما أُمرنا بِرَدِّ التنازع إلى الله والرسول، إلا ليُحسم النزاع حتما .. ومع ذلك لا زال التنازع قائما بين المسلمين.
وقلت في هذا كلاما قاسيا، ما أمل من تكراره أبدا رغم اعتراض كثيرين عليه، لكنّ حرصي عليه مرده إلى أنّي أرى فيه تشخيصا لمرض عضال أصاب أمة الإسلام في تدينها، ولمَّا تشْفَ منه بعد. بل إنّني أراه في تفاقم وازدياد. وهو ما عبرت عنه بفقدان النصوص الشرعية قدسيتها لأسباب تذاكرنا بها سابقا، أهمها؛ أن يقدم عليها العقل والهوى وأقوال الرجال. أما الكلام الذي أقول، فهو أنّنا حينما نقرؤ كتب الفقه، ونجد المسائل الخلافية التي تحسمها النصوص لا زالت مسطورة فيها، وتدرس لأبناء المسلمين ولطلبة العلم. فكأنّي لو استنطقت تلك الكتب لقالت بلسان حال واضعيها (رددنا النزاع إلى الكتاب والسنة فلم ينحسم..!) كبرت كلمة تخرج من الأفواه .. ولكنّها حقيقة .. فمن نصدق إذن..؟
ولا أود أن أغادر الفكرة قبل أن آتي بقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). وأقول هما آيتان لمعالجة التنازع والاختلاف بين المسلمين .. ولي تعليقان: الأول حول معنى (مِنْ شَيْءٍ) و (فِي شَيْءٍ) في الآيتين، فكما يقول النحويُّون، فإنّ كلمة شيء وردت نكرة في سياق الشرط (مَا اخْتَلَفْتُمْ) و (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ)، القاعدة تقول: إنّ النكرة في سياق الشرط تفيد العموم. فيكون الأمر في الآيتين لمعالجة كل أشكال التنازع والخلاف. وأما التعليق الثاني فقد جاء في الآية الأولى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ) وفي الثانية (مَا اخْتَلَفْتُمْ)، ونفهم من ذلك أنّ التنازع والاختلاف شيء واحد أُمِر المسلمون بحسم ذلك بالرد إلى الله، فهل يعي ذلك من فرقوا بين التنازع والاختلاف، في المعنى، وجعلوا (الاختلاف رحمة)..؟
وأما اختلاف الفهم فقد نتفق على الأدلة التي تبين حكم مسألة ما ولكن الخلاف يقع في فهم الأدلة فمن مشرق ومن مغرب، فكيف يحسم الخلاف في فهم النصوص؟ إنّما يكون ذلك بالرجوع إلى فهم السلف واعتماده، وعدم السماح لأي فهم متأخر أن يتقدم عليه أو يوهنه أو يلغيه. وهنا يتبين لنا الشطط الكبير الذي أصاب فهم بعض أهل الفرق، بعيدا عن فهم السلف (وسيأتي، إن شاء الله، في الفقرة التالية تحديدٌ لمفهوم كلمة السلف)، في مسائل كثيرة من الدين، حتى في ما يتعلق في التوحيد، توحيد الأسماء والصفات، الذي لا ينبغي فيه التنازع.
والخلاصة، قد تعترضنا مشكلتان: اختلاف في الحكم، يُحل بالرد إلى الكتاب والسنة، وترك ما سواهما .. واختلاف في الفهم، بعد تحرير الاختلاف في الحكم، ويُحل بالرد إلى فهم السلف واعتماده، وجعله الأساس.
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن نوضح للناس حقيقة حاول بعض الناس تشويهها أو طمسها خدمة لأهوائهم ومآربهم .. هذه الحقيقة تتركز في السؤال التالي: من هم السلف؟
وأبدأ بالنفي قبل الإثبات، فأقول إنّهم ليسوا أفراداً ولا جماعة تواضع الناس عليها، وتمحوروا حولها، إنّما هم قرون ثلاثة حظيت بشهادتين لهم، بالخيرية على سائر الناس إلى يوم القيامة، إنّها شهادة من الله أوحى بها إلى نبيه الذي بلغها للناس. واقرؤوا قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) وهذه الشهادة وغيرها هي التي رشحتهم ليكونوا القدوة والأسوة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أتدرون ما معنى أن يرفض مسلم الاقتداء بهم، ويتخذ الخلف من بعدهم قدوة؟
إنّه يرد الشهادة فيهم على الله وعلى رسول الله، وهل من ذنب أكبر من ذلك..؟ إنّ اتخاذ السلف، بالتعريف السابق، قدوة ومرجعاً ليس خياراً للمسلمين يفعله بعضهم فيحمل اسم الانتماء إليهم، ويدعه آخرون رغبة عنهم .. إنّما اتباعهم واجب شرعي، وركن
أساسي، لا يصح تدين دونه، ولا يقوم دين خليٌ منه، ويأثم من لا يُنزل السلف المنزلة التي أنزلهم فيها الله ورسوله، ولا يَعُدُّهم أهلا للاقتداء والاتباع.
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن نُبين أهمية التصفية والتربية في حياة أمة المسلمين. وأحب أن أطرح السؤال بالشكل التالي، لِمَ التصفية والتربية؟ وأجيب عن هذا بلغة الأمثال فأقول:
حتى لا نحرث في البحر، وحتى لا نطحن الهواء، وحتى لا نضرب في حديد بارد، وكل تلك الأمثال تضرب للعمل غير المثمر، والجهد غير المجدي، والسعي المتعثر.
ولا بد من شرح وجيز للمصطلح، فما المقصود بالتصفية والتربية؟
إنّ المقصود بالتصفية تصفية الإسلام الذي بين أيدينا مما دخل فيه وليس منه. فالإسلام مادته الوحيان، والإسلام الذي بين أيدينا أخذناه من بطون الكتب، ومن أقوال وأفعال بعض الرجال، فاختلط فيه ما هو أرضي المنشأ بما هو سماوي المصدر. كما أنّ تساهل العلماء في شأن رواية الحديث النبوي ومعرفة درجته وبيانها للناس، وطرح والاستغناء عما لا يصح، فتح الباب واسعاً لانتشار الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، التي كانت أصلاً في انتشار البدع في الدين، يتمثل ذلك بعبادات وأعمال شرعية وقربات لا توافق النصوص، ولا الهدي النبوي .. وبسكوت العلماء عن هذه الظاهرة لأسباب لا يسمح المجال باستقصائها، صارت البدعة سنة والسنة بدعة، وصار الدين خلطا بين وحي نزل من فوق سبع سماوات، وأقوال وآراء واجتهادات لبشر من خلق الله، وفي النتيجة لم يعد الدين لله .. ومن هنا كانت أهمية التصفية والتي يجب أن تسبق التربية.
ويوم نهتم بالتربية، ونهمل التصفية، نهدر جهودا كثيرة، ما كان لها أن تؤتي أكلها لأنّ المادة التي ربيت عليها النفوس ليست صحيحة، بل ليست مقبولة عند الله تبارك وتعالى. ولقد أصاب ذلك أمة الإسلام، فكم رؤيت مساجد، كأنّها خلية النحل فى العمل الدؤوب والحركة الدائمة، ولكنّنا وبعد نصف قرن لا نرى بين أيدينا حصيلة ونتائج تتناسب مع ما بذل. بل لم نر نصراً للأمة تحقق، والله وعد بنصر من ينصره. فلماذا..؟
ويحلو للبعض التسرع بالاعتراض فيقول: من أين ابتدعتم هذا المصطلح، وهل عن الرسول أخذتموه..؟ نقول: لم يكن الإسلام زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية محتاجا إلى تصفية..! فقد كان الإسلام إسلام الاتباع .. إسلام تعظيم الوحيين .. إسلام تعظيم وتقديم النصوص .. وإسلام اليوم شوهه الابتداع، وأعله تحكيم العقل والهوى، وأفسده تقليد الرجال.
إنّ جذر المشكلة أن يتفق المسلمون أنّ سبيل الله واحد، وأنّه واضح بيّن لا لبس ولا غموض، وأنّ كل سبيل سواه مذموم مرفوض والداعية إليه شيطان .. وما لهم ألا يتفقوا على ذلك والله أمرهم بذلك ورسوله .. وهل بعد وصية الله لعباده من وصية..؟
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
ولأهمية هذا الأمر في حياة المسلمين أولى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية عناية خاصة في تبيانها، واعتمد في شرحها على ما يسمى اليوم عند التربويين (الوسائل المعينة): عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ) ثمَّ قَرَأَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيله)).
ولقد ابتليت الأمة بمربٍ لا يُصفي، ومصفٍ لا يربي، فلا زالت خطاها على طريق الإصلاح متعثرة، وأهدافها نائية مبعثرة.
وإنّي لأرصد في واقع المسلمين، وعند بعض الدعاة تحديدا، حركة خطيرة ، تلخيصها أنّهم نظروا في واقع الناس فوجدوا أكثرهم خارج دائرة الحق، وأيأسهم الشيطان من جدوى دعوتهم وإعادتهم إليها، وكذلك ثبطهم استبطاء النتائج وعدم الصبر عليها، فحملهم ذلك على توسيع دائرة الحق متجاهلين حدودها وثوابتها، وهل يخفى الحق على أحد..؟ وصار يفرحهم، وهماً، أن يروا أهل الباطل صاروا داخلها، ولا يعنيهم التحقيق؛ هل اتسعت الدائرة زوراً فوسعتهم .. أم أنّهم سلكوا طريق التوبة فأدنتهم..؟! وإنّها والله لفتنة كبيرة فاحذروها..!
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن نُحذر المسلمين من أعظم فتنة تواجههم في حياتهم الشرعية، وقد تعجبون إن قلت لكم إنّها أخطر من وسوسة الشيطان وتربصه بالإنسان، إنّها فتنة شيطان كبير جديد في حياة الناس، صنعوه بعقولهم القاصرة وأفهامهم السقيمة، إنّه سلطان الأكثرية على الناس وجعلهم ذلك ميزان الصواب في الدين، وما أكثر من أضله هذا الشيطان. ومكمن الخطورة أن لا يعلم الناس أنّ للدين معايير وموازين ومقاييس خاصة، تخالف ما اتفقت عليه العقول أحيانا، وما تواضع عليه الناس أزماناً .. فالكثرة في أمر الدنيا مرجحة للصواب في الغالب، فرأي ثلاثة أطباء أضمن من الواحد، والستة أضمن من الثلاثة، وقل ذلك في المهندسين، وكل أهل فن .. أما في الدين فلا، لأنّ الحكم للنصوص والاتباع، وليس للعقول البشرية.
وليعلم كل مسلم أنّ الله نهى عن التأثر بالأكثرية، وجعل الكثرة قائدة إلى الضلال .. والسير مع الأكثرين دون اتباع الدليل يصل بالإنسان إلى (تدين القطيع) أو (تدين المظاهرة) وكلاهما في شرع الله مرفوض.
وأرجو من كل أحد أن يستحضر دائما نصين: أولهما قوله تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). وثانيهما قول ابن مسعود: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك) .
ولا ننسى ونحن على طريق الله سائرون أن نردد العبارة المأثورة عن الفُضيل بن عِياض رضي اللّه عنه: (الزمْ طرقَ الهدَى ولا يضرُّكَ قلّةُ السالكين وإياك وطرقَ الضلالة ولا تغترَّ بكثرة الهالكين).
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى أن يعلم كل مسلم، أنّ فشو البدع في الدين تجعل الدين ليس دين الله، وأنّه يُحوِّل العبادة فتصبح تعبدا لله بما صنعته عقول البشر، لا بما شرعه رب البشر .. وأنّ البدعة في حقيقتها استدراك على الله ورسوله فيما شرعا، وافتئات على حق التشريع الذي هو لله وحده .. والبدعة تَحوُّلٌ بالدين من علويٍ سماويٍ إلهيٍ، إلى سفليٍ أرضيٍ بشريٍ .. ولكل ما تقدم كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأنّها تحقق له انتصارا أكبر، فالمعصية تفسد دين فرد، والبدعة تفسد دين أمة.
ومما أزرى بحال المسلمين أنّ بعض علمائها لم يكونوا بعيدي النظر في موقفهم من البدعة، إذ اكتفوا بالنظرة الحاضرة لها فلم تضح خطورتها. وتألفوا أصحابها فاخترعوا مصطلح البدعة الحسنة، وليتهم لم يفعلوا .. لأنّ الناس كانوا يتهيبون من البدعة يوم فهموا من نبيهم أنّها ضلالة وأنها في النار، ولما قيل لهم عن البدعة إنّها قد تكون حسنة، وليته لم يُقل، اخترقوا الحاجز بأهوائهم وتعللوا أنّهم يأتون بدعة حسنة وسيثابون عليها. ولما صار الحكم للسوقة والجهال (ضاعت الطاسة) وصارت السنة بدعة والبدعة سنة .. ولقد تكلمنا الكثير في البدعة، والحديث اليوم تذكرة أو إنعاش للذاكرة .. وأكتفي أن أعرض عليكم أقوالا ثلاثة لتعلموا فهم بعض العلماء لخطورة البدعة على الدين:
يقول الأوزاعي: (لأن أرى في المسجد نارا تأكلة ولا أستطيع إخمادها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لاأستطيع إنكارها).
وكان ابن عمر في المسجد فثُوب للصلاة فخرج فقال له صاحبه كيف تخرج وقد أذن للصلاة قال: (لقد أخرجتني البدعة).
وحديث ضعيف في سنده، صحيح في معناه: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام).
والخطوة الأهم على طريق محاربة البدع، استبعاد الأحاديث الضعيفة والموضوعة من حياة الناس، فهي من أوسع الأبواب التي تسللت منها البدع وأعطت أهلها الشرعية .. والدعاة والخطباء أول المعنين بهذا الشأن وأقدرهم على المعالجة.
وبعد، فلعل السطور الماضية كانت فيها الكفاية والغنية والذكرى، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد .. ذُكِّر فذَكَر، وعلِم، وعمِل، وانتصح ونصح، والله ولي الصالحين .. والحمد لله رب العالمين