كثيراً ما ترد علينا أسئلة، ليس للخوض فيها أدنى نفع، سواء للسائل أو لمن يقرأ تلك الأسئلة وأجوبتها المتكلفة .. وقد زاد وتيرة ورود تلك الأسئلة، تداولها في وسائل التواصل الإلكترونية، على شكل الأحاجي (الفوازير)، أو بغاية التعالم..! وكل ذلك من الضياع .. وأردنا أن نجعل من هذه الظاهرة، المتنامية بازدياد، لبعد أكثر المسلمين عن الاشتغال بالعلم الصحيح المؤصل، مادة نافعة، في بيان وجه الصواب في المسألة، مع توجيه الناس إلى ما ينفعهم ويصلح دينهم.
نماذج من الأسئلة:
. لماذا نادى ربنا كل الأنبياء بأسمائهم (يا آدم، يا نوح، يا عيسى، يا موسى…) إلا نبينا محمد، فلم يقل يا محمد..؟
. لمَ ذكرت مريم بنت عمران باسمها دون غيرها من النساء..؟
. لماذا خص الله سبحانه ذكر الأعداد الفردية دون الأعداد الزوجية في اللآية السابعة من سورة المجادلة؟ ولم يقل ما يكون من نجوى أربعة إلا هو خامسهم؟
. حواري سيدنا عيسى شهدوا كل معجزاته وآمنوا به رؤا شفاء المريض والابرص .. بل واحياء الموتى .. فكيف يطلبون نزول مائدة من السماء؟
. هل ورد في الأثر أن أنبياء الله تعالى جميعهم أو بعضهم أدوا فريضة الحج؟
. هل الله سبحانه وتعالى صلى على جميع الأنبياء أم فقط على سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؟
لقد درجت منذ زمن على أن أجيب على مثل هذه الأسئلة بأن أسأل السائل: ماذا تستفيد من هذا السؤال، بل ومن جوابه؟ هل سيسألك الملكان عنه في القبر؟ وهل إذا وقفت بين يدي ربك للحساب سيسألك عنه؟ أم أنّه سيسألك هل كانت صلاتك كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل حججت كما حج محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل وهل، عن كل عباداتك وما افترض الله عليك..؟
أم أنّك استهوتك الخلافات والمذهبيات، وحب السؤال عما لا طائل تحته، والتشريق والتغريب، وتركت هدي محمد صلى الله عليه وسلم..؟
هناك أمور كثيرة هي مفتاحُ لدخولك الجنة، بعد رحمة الله، تجهل أكثرها، وتريد أن تسأل لِمَ ذكرت مريم بنت عمران باسمها دون غيرها من النساء..؟
لنتعلم من نبينا صلى الله عليه وسلم حين أرشدنا بقوله: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ) .. وإذا دفعك الفضول إلى فكرة، أو قذف الشيطان في نفسك سؤالا، ففكر قبل أن تضيع وقتك في السؤال عنه، هل هذا ينفعني في ديني ودنياي؟ فالعمر أقصر من أن يُشغل في قيل وقال، والانشغال بفضول العلم، والتكاليفُ أكبر من أن نُشغل عنها بغير النافع، والمفيد
والعلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويهِ
ولله در الإمام الشاطبي رحمه الله ركز في إحدى وصاياه على عبارة: (كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ؛ فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ).
والمقصود بالعمل: أي العمل العبادي الذي يقربك من الله ومن الجنة .. ومعنى لا ينبني عليها عمل: أي لا تصل بالمسلم الذي يبحث فيها إلى عمل يقربه من الله ومن الجنة. وكنت أحيانا عندما تكون المناقشة وجاهيةً، وأرى المناقش ميالا للمماحكة، أقول له: (لا أعلم، سل قائل الكلام فهو أعلم).
وهناك كلمة عن ابن عباس رضي الله عنها: (أبهموا ما أبهم القرآن) .. والمقصود منها أنّه إذا وجد المسلم مسألة أبهمها القرآن، بمعنى أوجز القول فيها، دون زيادة إيضاح، فقف حيث أوقفك القرآن، ولا تُسرف في البحث، لأنّ الله تبارك وتعالى لم يمنع عن عباده علماً نافعاً يقربهم منه ومن الجنة..! ويقال الشيء نفسه في ما سكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومناسب جداً، للسياق، أن أقتبس من تفسير ابن عاشور الكلام الآتي، وقد ذُكر في أكثر التفاسير، في قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) يقول رحمه الله: (رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنِ الْأَبِّ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا إِلَى وَأَبًّا فَقَالَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَفَعَ عَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْكَ يَا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ. ابْتَغُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إِلَى رَبِّهِ». وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُمَرَ بَعْضُ هَذَا مُخْتَصَرًا.).
ويضيف مع شيء من التصرف للاختصار: (وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي انْتِفَاءِ عِلْمِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ بِمَدْلُولِ الْأَبِّ وَهُمَا مِنْ خُلَّصِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَبِّ تُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا النَّبْتُ الَّذِي تَرْعَاهُ الْأَنْعَامُ، وَمِنْهَا التِّبْنُ، وَمِنْهَا يَابِسُ الْفَاكِهَةِ، فَكَانَ إِمْسَاكُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَنْ بَيَانِ مَعْنَاهُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِمَا أَرَادَ اللَّهُ
مِنْهُ عَلَى التَّعْيِينِ).
وبعد، دعونا من هذا الضياع .. ولنربِّ أنفسنا، ولنعلم أجيالنا أن يشتغلوا بالنافع المفيد، وأن يجعلوا شغلهم الشاغل نصوص الوحيين التي يُعْلَمُ من دراستها ماذا أراد الله من عباده، وماذا علمهم نبيهم، ليجعلوا ذلك زاد المعاد .. أما الاشتعال بتلك المسائل، كالمسؤول عنها، فَمَغَبَّتُهُ خطيرة لأنّه قد يصل بالمشتغل، ومن يشاركه إلى أعظم الذنوب، وهو القول على الله بغير علم .. ولاحظنا آنفاً، في الاقتباس من ابن عاشور، كيف أعرضَ شيخا الأمة عن الكلام برأيهما في معنى كلمة (الأب)، خوفاً من القول على الله بغير علم.
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
وعلى الدعاة إلى الله، بالمقابل، أن لا يتحرج أحدهم، إن سئل سؤالا من هذا النوع، أن يقول: لا أعلم، ويُتْبِعُ ذلك بالنصيحة التي ذكرناها، بدل أن يشغل نفسه بحل الأحاجي والألغاز..! وما أزرى بحال المسلمين إلا عزوفهم عن التعامل الصحيح، مع نصوص الوحيين، الذي يصل بهم إلى طاعة الله ورضوانه .. والحمد لله رب العالمين