Skip to main content

قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي

By السبت 8 صفر 1439هـ 28-10-2017ممحرم 20, 1441مقالات

قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ).

يتلو النبي صلى الله عليه وسلم على الناس ما أوحاه إليه ربه، مبلغاً الناس الدين الحق، صادعا بأمر ربه له. فماذا طلب أعداء الحق، وأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم؟
طلبين

اثنين! ماهما؟ (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ). تغيير القرآن، أو تبديله. لماذا؟ ليوافق عقول أهل الكفر، وأهواءهم. فجاءهم جواب النبي عليه الصلاة والسلام القاطع والموحى به من ربه: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ولنضع عشرات الخطوط الحمراء، في ذواكرنا على الأقل، تحت: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) في الآية الكريمة. ولنحسن الربط بين هذا الجواب النبوي القاطع، وبين كلام هام وخطير نكرره دائماً عن فتنة التبديل. لنوفق إلى إسقاط استحقاق هذه الآية الكريمة على واقعنا المعاصر، بغية الإصلاح.

وحتى أنقل القراء إلى جو الفهم الصحيح للمقصود بفتنة التبديل، واستيعاب خطورة هذه الفتنة، وقد حلت بالمسلمين فعلا، أستعير عبارات دقيقة، وغير مسبوقة، من كتاب (الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية) للمؤلف الدكتور (عابد محمد السفياني). وهذه نقول متفرقة من الكتاب:

(ولكن التغيير والتبديل الذي وقعت فيه طواتف كثيرة من هذه الأمة جعلها تتبع غير سبيل المؤمنين وجعل الغزو الفكري ينفد إلى أهم مواقعها ويحيط هذه الأمة بشبه كثيرة وينشر بينها أفكار المذاهب المعاصرة).

(ولقد حرص أعداء البشرية -الشيطان وجنده – على تعميق هذا الانحراف، واستعملوا من الأسلحة أخطرها، فكان ذلك السلاح هو “التبديل”
تبديل المفاهيم والقيم وتلبيس الحق عل الناس واستحداث صورة جديدة للمفاهيم والقيم والأحكام، وتغييرها في كل عصر ومكان وتزيينها للناس، والحيلولة بينهم وبين الهدي الرباني
).

(فلجأ هذا الفريق إلى حيلة أخرى فاخذ في تبديل المعاني الشرعية فجعل السنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا، والتوحيد تخلفا وخروجا إلى الانحراف، والشرك تقدما وتوحيدا، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة وهكذا .. والكتاب والسنة بين يدي المسلمين يقرأون نصوصهما على غير مراد الله، لا ينجو منهم من هذه الفتنة إلا من رحم ربك).

(فترى أئمة الغزو الفكري في العالم ، يقرأون الكتاب والسنة ويدرسونها ويحرفون معانيها ويسعون في فتنة التبديل، وينشرون دراساتهم وكتبهم لتحقيق هذه الغاية).

(وقبل ذلك وقعت البشرية في فتنة المخالفين من داخل هذه الأمة، فقد حرفت “الفرق الضالة” عقيدة الإسلام وشريعته، وسعت في فتنة التبديل مع استبقاء الانتساب للكتاب والسنة، وقد استفاد أئمة الغزو الفكري منهم وبنوا على تجربتهم واجتمع جهدهم -وهم في أمر مختلف – ولكنه يكون أقوى اجتماعا، وأشد تناصرا عند نشر فتنة التبديل والتغيير مع اختلاف الأساليب والمواقع والشارات والشعارات، وعدو البشرية الأول يرضى عن ذلك كله، إذا ما كان الهدف واحدا والغاية التي رسمها مطلوبة ومتحققة).

(وإنّ المسلمين اليوم قد أحاطت بهم هذه الفتنة، كما أحاطت بالبشرية في أكثر مراحلها وهي تحيط بها اليوم من جميع أقطارها، وليس لنا ولا لها أن ننتظر رسولا جديدا يرفع هذه الفتنة بإذن الله، ولكن علينا أن نستمسك بالكتاب والسنة ونحذر من فتنة التبديل، ونتبع ما كان عليه نبي هذه الأمة، صلوات الله وسلامه عليه، وما ربي عليه أصحابه رضوان الله عليهم، لنكون بفضل من الله من الطائفة التي تقوم بالحق، وبهذا يتحقق لنا أهم أسباب النصر. ولم يبق بعد ذلك الا الصبر على بذل الجهد، وإحسان العمل لنتغلب على الأعداء، ونحول بين البشرية وفتنتهم. وطريق العودة هوخروح هؤلاء من فتنة التبديل، وفهم الإسلام عقيدة وشريعة كما فهمه رسول الإسلام وأصحابه عليهم رضوان الله).

لعلي أطلت، وأكثرت النقول، لأنّني لا أريد للقراء أن يفهموا معنى فتنة التبديل فهماً لغوياً، ولا فهماً خاطفاً، وحسب .. إنّما أريده فهما واعياً، عميقاً، واقعياً، حقيقياً .. ولا يفوتني أن أنصح كل قاريء بقراءة الكتاب المشار إليه، والمنقول منه.

ولأنتقل الآن إلى بيت القصيد من هذه السطور. وهو طرح سؤال جريء صريح
خطير ومحرج؛ هو محرج للسائل والمسؤول..! أما للسائل، فلأنّه سيجعل كاتب السطور محل نقد ورد بل وتسفيه، وأقول إنّ ذلك لا يعنيني ما دمت أكتب لأرضي الله، وأتذكر شاهدا في النحو تعلمناه أيام الطلب:

ولقد أمر على السفيه يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وأما كون السؤال محرجا للمسؤول، فلأنّ أولئك الذين احتنكتهم فتنة التبديل، لا يجدون في وفاضهم جوابا ينفق في سوق المناظرة، ولن تجد عندهم إلا حجةً داحضةً، ودعوىً ناقضةً. وكيف لا يكون ذلك وهم خصوم نصوص الوحيين. وما هو ذاك السؤال؟

السؤال: أوليس بعض المسلمين، من أهل فتنة التبديل، والساعين فيها، قد
حققوا مطلب أهل الكفر من النبي صلى الله عليه وسلم منذ قرون، وهو تبديل القرآن؟ والجواب بلى، فإنّ كل من قال في الإسلام قولا، أو فعل فعلا، يخالف ما جاء في نصوص الوحيين؛ وهي الكتاب والسنة الصحيحة، فهو من أهل فتنة التبديل، ولو شهد معه على فتنته أهل الأرض جميعا، والله ورسوله أصدق من كل أولئك.

إنّ المسلمين قد انغمسوا في فتنة التبديل على مر قرون، واتبعوا ضلالات الفرق التي حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام. فهم في كل قرن يُرذلون، واللاحق شر من السابق، أما المصلحون فلا تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. ليس لأنّهم غير موجودين ولكن لندرتهم، وغربتهم، وكما وصفهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

وماذا فعلت فتنة التبديل بالمسلمين؟ ومع فداحة الخطب في ذلك الفعل الذي فعلته، فقليلون جدا من نخب المسلمين ومن دعاتهم وأشياخهم، من أدرك ذلك، ووعاه، أو وفق إلى تشخيصه. إنّ فتنة التبديل أنزلت بالمسلمين بلاء، لن تقوم لهم قائمة بعده، ما لم يرجعوا إلى (الأمر الأول)؛ كما دلهم نبي الأمة بأبي هو وأمي، ومن أوتي جوامع الكلم، في كلمات قليلة، كيف يكون المخرج من كل فتنة، ولعل فتنة التبديل التي تعايشنا الآن، تكون آخرها بإذن الله، بعد أن وصل المسلمون إلى القاع بل الحضيض. قال عليه الصلاة والسلام: (إنّها ستكون فتنة، قالوا: وما نصنع يا رسول الله، قال: ترجعون إلى أمركم الأول).

ولنعض بالنواجذ على عبارة (الأمر الأول)، كما تمسك بها، وعمل بها، أسلافنا وخير الناس، وهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ فقد استعمل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، خال النبي عليه السلام، العبارة نفسها وهو يتحدث عن الفتنة التي أصابت جيل الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وما تبع ذلك، مبررا اعتزاله وبعض الصحابة، تلك الفتنة. يقول رضي الله عنه: (إنّ مثلنا وأصحابنا كرفقة طريق ساروا، فلما أظلمت لم يعودوا يحسنون التوجه فسار كل في اتجاه يظنه، وجلسنا ننتظر الصباح فرأينا أنفسنا على الأمر الأول).

نرجع لنبين ما هو ذاك البلاء العظيم الذي أصاب المسلمين بسبب فتنة التبديل، ولن تقوم لهم قائمة بعده حتى (يرجعوا إلى الأمر الأول). لقد سلبت منهم فتنة التبديل، بتقدير الله العلي الحكيم، الجانب المعنوي والروحي والرباني من وجودهم فباتوا أعدادا لا وزن لها ولو بلغت المليار والنصف؛ ذلك هو كيان الأمة، الذي أذهب ريحهم بالتعبير القرأني، أجل إنّه غياب الأمة، أو غثائيتها.

وأبدأ بتفريق ضروري، يخفى على كثيرين، وهو أنّ غياب الأمة لا يعني غياب المسلمين، فالمسلمون باقون وإن غابت الأمة. لأنّ وجود المسلمين وجود مادي لأحياءٍ يُرون، وهم يتحركون ويعملون ويصخبون ولهم دوي، أما وجود الأمة أو غيابُها فأمرٌ معنويٌ يُعرف بالآثار الإيجابية لوجوده، والسلبية لغيابه. والمسلمون بلا كيان الأمة يعيشون، ولكن لا كما يريد لهم ربهم من الاستخلاف في الأرض وعمارتها، إنّما يكون عيشهم وفق أهوائهم، وما يختاره لهم عدوهم .. ومهما اجتهدوا في إعداد القوة فلن تنفعهم ما داموا ليسوا في كنف الأمة، وليسوا أهلاً لأن يدافع الله عنهم. وتجلس مع أناس حتى الآن غير مقتنعين بظاهرة غياب الأمة، لأنّهم يسمعون المآذن تصدح، والصلوات تقام، والعمار والحجاج والزوار، يضيق بهم الحرمان، والجمعيات الخيرية، وأعمال البر والإحسان تملؤ كل مكان! إنّهم لم يُحسوا بعد بالمصيبة الكبرى التي حلت بالمسلمين، لسببين الجهل أو المغالطة أوالمكابرة.

وبين يَديَّ نصان كافيان لكل بصيرة، إذا تجرد للحق، أن يقتنع بحقيقة غياب الأمة:

عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) .. ألم يتداعى العالم كله على المسلمين؟ وهل ذلك من قلة وهم يعدون المليار والثلث؟ وهل هم في حالة الغثائية أم لا؟ وهل الغياب والغثائية إلا شيء واحد في النتيجة؟ فماذا ننتظر، وماذا أعد النخب للمعالجة؟

والنص الثاني قول النبي عليه السلام لمعاذ: (إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي، وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ من كانوا وحيث كَانُوا، اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ ما أصلحت، وايم الله لَيَكْفَأُنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكفأ الْإِنَاءُ فِي البطحاء).

ولنتأمل هذا التشبيه النبوي، في وضوح بيانه، ودقة دلالته، ولا زال أكثر المسلمين ونخبهم عنه غافلين، في أنّ أمة الإسلام ستُكفَأُ عن دينها بالطريقة نفسها التي يُنثر فيها الماء من الإناء بإمالته ليفرغ مما فيه .. ودين الأمة سيكفأ بأيدي أبنائها أكثر من أيدي أعدائها الخارجيين..! فهل وقع هذا أم لم يقع..؟ ودققوا أنّ النبي عليه السلام ندب أولياءه المتقين لإصلاح ذاك الفساد (إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ ما أصلحت)..! فأين النخب، وأين أهل الإصلاح؟ وكم أضاعت المكابرة والمماحكة الحق عند كثير من الناس..؟

على المسلمين، في كل مواقعهم، أنْ يُدركوا أنّ رد ذلك الكيد الذي يُكاد للمسلمين، وتلك العداوات التي تُضمر لهم، في عالم اليوم، لا يمكن اتقاؤها إلا بالأمة المجتمعة على أمر الله، المعتصمة بحبله .. وهي اليوم غائبة، غائبة، غائبة .. وقد أخذ مكانها لغثائيتها، أشخاص، وجماعات، وأحزاب، وأنظمة، وكيانات مصطنعة، من كل المشارب والألوان، ولكل مصالحه وبرامجه .. وما زاد ذلك المسلمين إلا خبالاً .. فلن يُغطي دور الأمة الغائبة أحد، ولا يُمكن الوصول إلى الدور المطلوب، وتحقيق الأهداف المنشودة إلا بها.

وإنّ الأمة المجتمعة على ما يُريد الله ويرضاه، تكون يد الله فوق أيدي كل العاملين فيها، من أجل رفعتها ومنعتها، فالله مولاها، إنّه نعم المولى ونعم النصير