وفي الكتاب الكريم آيات بينات تبدأ هذه البداية، يحسن استعراضها:
(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا).
(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ).
(قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).
هذه الآيات رسمت الصورة الصحيحة التي يجب أنْ يكون عليها واقع الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بين الداعية والمدعوين .. والأنبياء هم النموذج الأول للدعاة إلى الله، ويرث عنهم هذه المهمة العظيمة بنو البشر، ويجب أنْ يرثوها بكل خصائصها (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا).
وأبرز خصائص الدعوة أنْ تتجرد تماماً لله، وأنْ تتنزه عن أي غرض دنيوي أرضي .. وإلا فسدت وصارت حطاماً ومتاعاً مما على الأرض..! يقول مؤمن بين كفار يعاندون الرسل قص الله علينا قصته: (يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ). ويحسن أنْ نقرأ كلاماً لبعض المفسرين.
يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: (ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ طَامِعٍ مِنْ دَعْوَتِهِمْ فِي أَنْ يَعْتَزَّ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُا حَتَّى يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَقَدْ بَلَغُوا مِنَ النِّكَايَةِ بِهِ أَمَلَهُمْ، بَلْ مَا عَلَيْهِ إِلَّا التَّبْلِيغُ بِالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ لِفَائِدَتِهِمْ لَا يُرِيدُ مِنْهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ، إِلَّا عَمَلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ).
ويقول صاحب الظلال: (فليس للرسول صلّى الله عليه وسلّم من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام. ليست هناك إتاوة، ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم. وهو يدخل في الجماعة المسلمة بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه. وهذه ميزة الإسلام. ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته، ليس هنالك «رسم دخول» ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان).
ويقول الشيخ السعدي: (وإنّك -يا محمد- لا تسألهم على إبلاغهم القرآن والهدى أجرا حتى يمنعهم ذلك من اتباعك ويتكلفون من الغرامة، {إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} أي: إلا من شاء أن ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله فهذا وإن رغبتكم فيه فلست أجبركم عليه، وليس أيضا أجرا لي عليكم، وإنّما هو راجع لمصلحتكم وسلوككم للسبيل الموصلة إلى ربكم، ثم أمره أن يتوكل عليه ويستعين به فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذي لا يموت}).
ثم لنجعل هذا السؤال مدخلاً لموضوعنا: هل حال الدعوة والدعاة اليوم على ما يرضي؟ فلنبحث.
عندما تكثر الآراء، وتتعدد الاجتهادات، وتختلف الوجهات في أي ساحة فكرية، عند أي تجمع بشري، وهذا واقع، فذلك أمر تقتضيه طبيعة البشر ما داموا يصدرون عن عقولهم، وثقافاتهم، وانتماءاتهم، والأصل في ذلك كله الاختلاف، وفق الطبيعة البشرية، ولانعدام مرجعية الثوابت. أما أنْ يكون ذلك في أي مجتمع مسلم، إذا كانت العبارة تعني أنّ الإسلام مُحكم فيه، في كل مناحي الحياة، فلا يُعد ذلك طبيعياً، ولا مقبولاً، بل ولا شرعياً .. ويكون، حينئذ، قد فشا في ذلك المجتمع التفرق والتعصب والهوى، وتعدد الولاءات..! و(كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا). لأنّ الأصل في المجتمع المسلم أنْ يغيب كل أولئك ليسود فيه الاتباع بأشكاله الثلاثة:
. اتباع ما أنزل الله (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ).
. واتباع النبي المعصوم (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
. واتباع سبيل المؤمنين المحققة والمجسدة للاتباعين السابقين (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
كيف لا، والإسلام دين ثوابت، وهل في الوجود أثبت من الوحيين المنزلين، واللذين تكفل الله بحفظهما، إلى يوم يرث الأرض وما عليها .. ولا يعني ذلك أنّ الاجتهاد يغيب كلياً، وإنّما يبقى منه ما يوافق الضوابط الشرعية، ولا يتسع لها المقام.
أما أنْ يغدو البحث الشرعي في العبادات، والحلال والحرام، وغير ذلك من أمور الدين، كلأً مباحاً لكل أحد، وتفقد النصوص قدسيتها وسلطانها، فهذا من أبرز العوامل التي أدت إلى غياب الأمة، وانفراط عقد المسلمين، وهوانهم على أهل الأرض..!
وأبرز أعراض تلك الحالة، تضخيم وتعظيم الأشخاص وآرائهم على حساب نصوص الوحيين، وهذا ما يمكن تسميته بالمصطلح الدارج (شخصنة الدعوة). وينتج من هذا أنْ يُصبح الحق يُعرف بالرجال، ومن خطورة ذلك أنْ يكثر الشغب حول صوت الحق المرتبط بما أنزل الله وبما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يطلقه الغرباء، أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، لأنّ رجالهم ليسوا تحت الأضواء، وليسوا في الصدارة، وخارج طرق النجومية.
إنّ الدعوة إلى دين الله يوم ترتبط بالأشخاص، وليس بالمنهج، والالتصاق به، تفتح الأبواب مشرعة أمام الأدعياء والأعداء. وتهبط الدعوة من أنْ تكون سماوية علوية، تريد الله والدار الآخرة لتصبح أرضية تعبث بها أهواء البشر، تُسخر لحاجات النفس من حب الظهور، وتجميع الأتباع، ومنافسة الأقران، فلا يبقى فيها شيء لله عياذاً به.
ماذا يكون إذا ارتبط الصواب في طرح الدين، في أعين الناس، بالأقدر على سحر أعينهم، بمهارات كاذبة مصطنعة ومدعاة، وبكلام مفترى ومنمق، ومثل هؤلاء اليوم يوشكون أن يتبوؤوا مركز الصدارة عند الناس، ومن يُحسَن بهم الظن أو (كان)، لا يجرؤون على نقدهم، بل يخطبون ودهم .. فأي إدبار سيكون، وأي ضياع، بل أي انهيار ننتظره بعد هذا..؟ من هؤلاء الأدعياء بل الأعداء د. محمد ديب شحرور، منصور علي كيالي، عدنان ابراهيم، وقد يكون غيرهم أضعافاً، لكنهم لا يزالون مستخفين ينتظرون الوقت المناسب.
إنّ كشفهم للمسلمين واجب شرعي، يأثم بتركه القادر عليه. ويعجب المرء بأنّ الأكثرين يلوذون بالصمت نائين بالنفس..! وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:
(الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، وهذا أفضل…). ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق هؤلاء الأدعياء وأضرابهم: (إنّ الله لا يحبّ هذا وضَرْبَهُ؛ يلوُون ألسنتَهم للنّاس ليّ البقرة لسانَها بالمرعى! كذلك يلوي الله ألسنتهم ووجوهَهم في النّارِ). تُخْلَى لهم الساحة، بدعوى الاعتراف بالأخر، والرأي والرأي الآخر، والحوار، وغير ذلك مما يستهوي النخب المسلمة، من مفتريات العصر.
إنّ الكثيرين لا يدركون خطورة ارتباط الدعوة، أو الفتيا، أو التعليم الشرعي بالذوات (الأشخاص)، ولقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى من ذلك في قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وفي أكثر من مجلس علم سألني بعض الشباب أنّهم تعلموا من القراءة في كتب التفسير أنّ آخر الآية في الغالب مناسب لأولها، فما مناسبة نفي الشرك، والآية في أولها تتحدث عن دعوة على بصيرة؟ وكانت إجابتي بتوفيق من الله: (ما أرى إلا أنّ في الآية تحذيراً شديداً، إذ إنّ الداعية قريب من الشرك، وذلك في أن يعجبه أداؤه، وإعجاب الناس وثناؤهم عليه، فيصيبه العُجب، فتصبح دعوته لتخدم نفسه، وليست نفسه خادمة للدعوة وصفائها ومتطلباتها. وأكثر ما يظهر ذلك عند الخطباء فتجد هَّمَّ بعضهم الحديث عن الحضور واكتظاظهم، وعن مبيعات الأشرطة وأعدادها..! وهل طريق الشرك إلا يبدأ بالإعجاب بالنفس..؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العُجب العُجب).
إنّ (شخصنة) الدعوة إلى الله أمر في غاية الخطورة لأنّه قرين الشرك .. وحصل ذلك ويحصل بين المسلمين، ترى الرجل اليوم يمن عليك، أنْ وافقك على مسألة شرعية تصححها للناس (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا). وآخر لسان حاله يقول لك (لا تطمع ولا تفرح أن أوافقك فيما تذهب إليه). والمسألة عند الأول والثاني أرضية مقيتة، مع أنّهما محسوبان على أهل الدين والنخب. ويأسف الإنسان، بل يتحفظ أن يقول، حتى لا يساء فهمه، إنّ الفهم الخاطيء للمذهبية وسوء التعاطي معها ورفعها فوق النقد، وفوق كل ذلك مجاملة هذا الواقع ممن يعرف سوءه، أدى إلى كثير مما نحن فيه، وإلى الله المشتكى.
فما المخرج؟ أنْ نعود إلى النصوص، ونحيا بالنصوص، ونُحَكِّم النصوص، ونُحَجِّم الشخوص .. والحمد لله رب العالمين