Skip to main content

لاَ تَغْضَبُوا، فَالدِّينُ النَّصِيحَةُ

By الجمعة 4 جمادى الآخرة 1435هـ 4-4-2014ممحرم 21, 1441مقالات

في واقع المسلمين المعاصر آلاف المشكلات تنتظر المعالجة .. لكنّ المشكلتين اللتين أُريد مناقشتهما، تظهران دائماً في مناقشاتٍ وكتاباتٍ وحواراتٍ حول الأوضاع الراهنة التي أفرزها الربيع العربي. وأرى أنّ المشكلتين تُشكلان خطأين وخطرين كبيرين من حيث انعكاس نتائجهما السلبية على الناس. أولى المشكلتين تشوهٌ في التصور، وثانيهما غياب التصور. وللإيضاح أدخل في العمق، غير هياب، فالحقّ أحق أن يُتبع.


المشكلة الأولى: تشوهٌ في التصور

ففي ساحة الواقع في دول ثورات الربيع العربي جدل وسجال حول وجوب إقامة الحكم الإسلامي، بعد تجارب طويلة مريرة من التخبط السياسي، على مدى نصف قرن أو يزيد، أهلكت البلاد والعباد، جرّب فيها كل اتجاه ومذهب نفسه.

ولعل المندفعين بهذا الاتجاه هُم في المقام الأول من المنتسبين لتنظيمات الإسلام السياسي، أو من المتعاطفين المؤيدين، أو من المندفعين عاطفياً، ديدنهم الصراخ، وهم لا يصدرون عن علم ولا عن فهم، وقد أقول: ولا التزام. ولعل هذا الموقف من الشرائح الثلاثة لا يُمثل الواقعية، بل لا يمثل وجهة نظر الدين الصحيحة المؤصلة، التي تُختصر في (أنّ الأمة يجب أنْ تسبق الدولة).

والأمة غائبة أو محتضرة أو غثائية في كل مكان من العالم الإسلامي. وهذا ما قصدته (بتشوه التصور). والإصرار على التجربة، والاندفاع نحوها بتعليلات شتى، لا يعدو كونها مغامرة كأي مغامرة يقوم بها انقلاب عسكري في أي بلد. وأقول لمن أولعوا بالجدل: على رسلكم، ولا تنسوا (مرسي، والسيسي)، وقبل ذلك لا تنسوا أحداث الثمانينات في سوريا، إلا إذا كنتم تُريدون أنْ يبقى المسرح قائماً ويتناوب المغامرون الأدوار عليه..!


المشكلة الثانية: غياب التصور

فمواقف أصحابها مرتبطة بالأحداث، وتتغير وفق متغيرات الواقع، مع قدرة تبريرية. لذلك من الصعب أنْ يتبين المرء حقائق خلفياتهم التي تملي مواقفهم..!

وللإيضاح فلنقارن هؤلاء بمن سبقهم، فهناك رؤية وتصور وإنْ كانا مشوهين، (نريد إقامة الدولة الإسلامية). أما هنا فالرؤية محددة بمجريات الأحداث. فلا بأس بالدولة الإسلامية، إنْ قامت، دون حديث عن الكيف والمستقبل .. وإنْ تعثرت فلا بأس بالديمقراطية والدولة المدنية، والإسلام لا يُعارض ذلك .. وغير ذلك من احتمالات ممكنة. وأظن، وإنّ بعض الظن إثم، ولعل ظني لا يكون من الظن الآثم أنّ موقع هؤلاء هو إمساك العصا من الوسط، مما يضمن التغيير بالاتجاه إلى أحد الطرفين، وبحركة خفية خفيفة، حسبما يقتضي الحال المتغير على الأرض.

ففي الوقت الذي ينشغل الفريق الأول بالنقاش والجدال والقتال من أجل أن تكون الدولة الإسلامية وريث الأنظمة المنهارة، وبالمناسبة فهم ليسوا جميعاً، إنّما مناهجهم وأهوائهم شتى، ولكنْ تُوَحِدُهم الآن هيشة الأسواق، فإنّ هذه الشريحة يُشغلون أنفسهم والناس معهم بمناقشات حول كيف يمكن الوصول إلى إقامة الدولة الإسلامية، والمراحل التي لا بُد أنّْ تمر بها، ولا تفهم منهم عن موقفهم من المبدأ المطروح (أيهما الأسبق الأمة أم الدولة) شيئا، وهل يرون قيام الدولة الإسلامية غدًا إنْ سقط النظام، كما حدث في مصر، أم لا، إنّما يُريدون إثبات الحضور في الساحة، ولا يُريدون أنْ يُثبّتوا أنفسهم في موقع قد يغيرونه، لذلك نراهم طوافين على كل المواقع!

ومنذ أسبوع التقيت جمعاً من المهتمين بالقضايا الإسلامية، وفيهم داعية وباحث مشهور، وله حضور في بعض الفضائيات، وكان الحديث يدور عن الواقع المعاصر، وكان الحديث يتجه عند أكثر المشاركين إلى أنّ قيام الدولة الإسلامية يحتاج وقتا وإعداداً، والأوضاع الحاضرة في دول الربيع العربي لا تُساعد على ذلك، فانبرى الداعية المعروف، وبشيء من العصبية قبل أنْ يستأذن بالمغادرة وحسم النقاش بقوله: (إنّ الله قادر أن يقيم الدولة الإسلامية الآن)، وانصرف، وكأنّ من يحاورهم طلاب في الإعدادية.

ومن هذا القبيل، في أسلوب الطرح، ولكن في الاتجاه المقابل، غير المتحمس، ما قرأت منذ فترة عن تساؤل من أحدهم عن مراحل قيام الدولة الإسلامية، وكيف يمكن تحقيقها، ولم يُخف تشكيكه في إمكانية ذلك حين أسقط بعض الأفكار على الواقع الإسلامي.


إنّ ما يقوم به الفريقان المذكوران خطأ جسيم في حق الأجيال المسلمة من نَواحٍ:

أولاً: تناول هذه الموضوعات الكبيرة من كل أحد، وفي كل موقع من خلال النظرة الشخصية، ودون تأصيل ومرجعية، يُقدم إلى الأجيال المسلمة الصاعدة، القضايا الإسلامية الكبرى كالحُكم والدولة، على أنّها سراب بقيعة، ليحسبه الأجيال ماء، ثم لا يجدوه! إنّ الكلام في مثل هذه الموضوعات بالتأصيل الشرعي، والاستدلال الصحيح، وليس بالنظرة الخاصة المحدودة، وقد تكون خاطئة، وربط ذلك بالواقع المعاش، يُؤكد في نفوس الأجيال المسلمة الصاعدة، ثقتهم بدينهم وربهم ونبيهم، وبكل ما وُعدوا به، مع إيضاح أنّ ذاك الهدف يتطلب عملا دؤوباً، وجهدا صادقاً، ووقتاً طويلاً قد يحسب بالأجيال.


ثانياً: عندما يؤكد العالمون في الأمة، للأجيال، بما علموا عن ربهم ونبيهم، أنّ تحقيق الحكم بما أنزل الله لا بُد آت، وليس أملاً بعيد المنال، ولكن ظروفه الموضوعية ليست قائمة اليوم، وأنّ ما جاء ويجيء به الربيع العربي من إنهاء عهد الأنظمة الشمولية وتسلط الأفراد أو الأحزاب أو الأسر على رقاب الناس قد ولى، وما حدث إرهاص ومقدمة لإتاحة الفرصة لتحقيق الظروف الموضوعية لقيام دولة الإسلام، وأول وأهم تلك الظروف بعث الأمة من جديد. وأنّ الحُكم فور سقوط الأنظمة لا ينبغي أنْ يكون هدف أو هاجس أهل الدين، الذين ينتظرهم المشروع الإسلامي الإصلاحي الكبير المتكامل، مستفيدين من جو الحرية! ولا بأس من أنْ يحكم البلد كل المخلصين للبلد من كل مكونات السكان، وبالطريقة التي يتفقون عليها، وبشرط أساسي هو احترام الإسلام وأهله، وتمكينهم من الدعوة وتربية الأجيال .. فالمسلم الحق داعية إلى الله، وليس رجل سياسة وحكم، مع شركاء لا يرقبون فيه إلا ولا ذمة.

وكأنّي بكثيرين يرفعون أيديهم معترضين قائلين: وما الضمان أنْ يُسمح لأهل الدين بذلك! أقول ليس عندي إلا ضمان واحد أخلصوا لله النية، وتزودوا بمنهج مؤصل يرضي الله (ما أنا عليه وأصحابي)، ولن يتركم الله أعمالكم. وعلينا ألا نحتج بنكسات الماضي، فتلك أمم قد خلت، لم تخلص النوايا، ولم تضبط المنهج، والله لا يضيع عمل عامل.


ثالثاً: أما اعتبار الشعارات، من مثل (ياالله ما لنا غيرك) توجهاً إسلامياً علمياً مؤصلاً، وأنّ الهاتفين به هُم جند الإسلام ورجالاته لتحقيق الثورة الإسلامية، ومن ثم دولة الإسلام، فوهمٌ وضياع، وقد يكون لهذا الحال وجود في ميادين القتال أيضاً. وأما أنْ يجتمع في القاهرة، خمسمائة عالم مسلم، ويتعاورون المنبر أيهم يكون أعلى نبرة، ثم يتسابقون من يقرؤ البيان الختامي، ويعلن الجهاد بصوته، وهم يعلمون علم اليقين أنّ ما يجري على الأرض بعيد عن الإسلام شكلاً وموضوعاً .. ثم تكون النتيجة فقاعات صابون في الهواء، تتألق فيها ألوان الطيف، لا تلبث أنْ تنفجر وينتهي كل شيْ، وهمٌ آخر وضياعٌ أكبر.

إنّ تعليق الأجيال الصاعدة من المسلمين بآمال براقة لم تنل حظها من التأصيل والدراسة والعمل، تبنى على العواطف والارتجال، وتنتهي بنكسة إثر نكسة، ونبقى نُحمل الأعداء نكساتنا، وننسى ما أمرنا ربنا بتذكره (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، يُخرج أجيالاً نشأت على التناقض بين ما قرأت وتعلمت وسمعت، وبين الواقع المعاش، وهي ترنو بأبصارها إلى دنيا أهل الأرض الزاهرة العامرة بكل نجاح وتطور واحترام للإنسان، وهي تعيش في أمتها البؤس والتخلف .. فماذا ننتظر أنْ تكون هذه الأجيال؟ وهل نستغرب أنْ نجد فيهم من يقول بلسان حاله قبل مقاله: (الدين أفيون الشعوب)، ونكون نحن قد زرعنا هذه البذرة..!

أيها الأحبة .. لعل الكثيرين لا يُدركون خطورة هذه الممارسات، وكأنّها تدفع أجيالنا الصاعدة إلى العلمانية، ومن ثم إلى الإلحاد .. وكأنّنا نقول لأجيالنا بأفعالنا وجهلنا عهد الإسلام انتهى..! فهل ينتهي من يلقي الكلام على عواهنه؟ وأذكر نفسي وإخوني بقول النبي عليه السلام: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) .. ولا تغضبوا فالدين النصيحة.