(جاء رجل لمالك رحمه الله فقال: أريد أن أجادلك! فقال له مالك: إن غلبتني؟ قال: تَتبِعُني؛ قال: إن غلبتك؟ قال: أتبَعُك؛ قال: فإن جاء ثالث فغلبنا؟ قال: نتبِعُه؛ فقال له مالك: أنت ليس لك دين..!).
هكذا وبدقيقة،
ينتهي موقف إمام دار الهجرة رحمه الله، مع مجادل جاء إليه يستَخِفُّه..! وكذلك ينبغي أن ينتهي الحال، بين مؤمنٍ راسخٍ في مواقفه، ومتهوكٍ يسير بشكوكه، ممن يبغونها عوجاً. بل، أكثر من هذا يجب أن ينتهي الموقف بفضح حقيقة أهل الباطل، ووسمهم بما يليق بهم من وصف، ليكونوا عبرة لمن خلفهم، وليحذرَ المؤمنون أن يَستَخِفَّنَّهُم الذين لا يوقنون، علمنا ذلك مالكٌ، بعبارة صريحة (أنت ليس لك دين)، فرحمك الله يا أبا عبد الله، لَمْ تفْتِنْكَ ثقافة العصر، (الحوار أولًا)، ولا (الرأي والرأي الآخر)، ولا مصطلح (الطاولة المستديرة)..! بل تعلمت من كتاب ربك (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ).
ما أحوجنا اليوم إلى ذلك الصفاء في الفهم، والثبات في الموقف، والاستعلاء بالدين؛ (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وما أحوجنا أن نكون، بإيماننا وثقتنا بكل ما جاء به ديننا الحق، سواء في عالم الغيب أو الشهادة، راسخين في ما نحن فيه، فلا يَلعبُ بنا من تحركهم حَيْرتهم، فهم في قلق دائم، أو من يؤزهم كيدهم وحقدهم، فعداؤهم لدين الله قائم .. وأن يكون أمر ربنا حاضراً معنا، لا نغفل عنه: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ). وأنصح الأخ القاريء بالرجوع إلى تفسير هذه الآيات في تفسير الشيخ السعدي رحمه الله في آخر سورة الروم.
أجل ما أحوجنا إلى كل ذلك ونظيره، في زمنٍ تَغوَّل فيه أهل الباطل، وانتفشوا بباطلهم، ووهَنَ أهلُ الدين، وصاروا ينصرونه على استحياء، وأُذَّكِر أنّي أقصد بكلامي النخب قبل غيرهم، حتى لا تُعَصَّب الجنايةُ برؤوس غير المستحقين لها .. واللهِ إنّه لشيءٌ عُجابٌ، جرأةُ المبطلين اليوم، ومداراة أهل الحق لهم، وقد فُتحت أمامهم كل المنابر، بل والفضاء كله .. وزاد الأمر ضِغْثا على إبَّالة، أجهزة التواصل الاجتماعية التي أضحت لهم صوتاً ولساناً، في أغلب الأحوال. ومن جرأتهم، وأعتذر أن أقول من وقاحتهم، أن يتظاهروا بأنّهم من الصف الإسلامي، بل من الغيورين والمصلحين وليسوا منه. وأنّهم أهل (العقل)، فيا ضيعة العقل..!
ومَنْ على الطرف الآخر؟ لفيفٌ ممن جعلوا أنفسهم ناطقين باسم الاسلام والمسلمين، همهم المداراة والمداورة، وتدوير الزوايا مع أهل الباطل. حتى ليتذكر المرء، وبأسىً عميقٍ مقولة عمر رضي الله عنه: (اللهم إنّي أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة)..! وكان الأجدر بهؤلاء المندسين في الصف المؤمن، المستغلين تراجع بعض النخب أمام افتراءاتهم، أن يُصارَحُوا بأنّ حالهم مفضوح، وأنّ موقفهم مرذولٌ مقبوح، ويجب أن يُواجَهوا بفضح القرآن لهم، وأن يوصفوا بالذي به قد وصفهم: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا).
يقول السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات وما قبلها: (المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم. فأخبرهم الله تعالى أنّه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنّهم منافقون..).
وقد حكى ابن جرير عن مجاهد: (أنّها نزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياءً ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا، وهاهنا).
مَن هم هؤلاء الذين أطَلْتُ في ذكرهم؟ كثيرا ما كانت تجري بيني وبين بعض الأشخاص الذين كنا ننعتهم بالعلمانيين، وكان المصطلح قد دخل الساحة الإسلامية حديثا. ولكن كلمة العلمانيين صار لها اليوم أكثر من مدلول، والذي يعنيني فئة ومعظمهم من المثقفين، غير مطبقين للإسلام إلا في الظاهر، لأنّهم يريدون إسلاماً من صنع عقولهم، ويجهدون بأن يدعو إليه ليكثروا سواد انحرافهم.
وهم أيضا أصحاب النزعة العقلية، ورثة المعتزلة، فتراهم يحرصون على حوار بعض الضعفاء في مواقفهم من نخب المسلمين، ليُنشِئوا معهم حلفاً، بعد أن يعلنوا للناس أنّهم أزالوا بالحوار، ما أحدثه البعد والجفاء بينهم، والنتيجة أنّهم في صف واحد، صف الباطل. ولقد صار بعض المهتمين يصفهم تمييزا عن غيرهم من العلمانيين بالمستنيرين أو العصرانيين. بعد أن تبلور المصطلح، وتحددت دلالته .. لكن في ذاك الوقت، منذ نصف قرن أو أقل، لم يكن ذلك المصطلح معروفاً أو واضحاً في استعماله. فكنّا نظنهم أناساً مسلمين لكن لديهم بعض شبه، فأضعنا كثيرا من الوقت مع أمثال أولئك بحسن الظن، والرغبة في هدايتهم .. أما اليوم فصار القوم يُعرفون في لحن القول، وصارت لهم مواقعهم على الشبكة، وقنواتهم، ومحاضراتهم، وندواتهم، وأتباعهم، وهم نشطون نشطون والحق يقال .. وأهدافهم التي يسعون إليها يمكن أن تختصر بالآتي: (يريدون، زعموا، أن يُخضعوا تعاليم الإسلام لكل مفاهيم العصر، ولو كان على حساب مخالفة الوحي، بل تركِهِ وإبقاءِ الإسلام واجهةً كبيرةً يستترون وراءها، لينفوا عن أنفسهم الكفر، ففروا من الكفر ووقعوا بشر منه وهو النفاق، لهم إمامان العقل والعلم الكوني).
وإذا كان حالهم كذلك، فهل الحوار معهم مجدٍ؟
لا إنّه هدرٌ للوقت، ويُعطيهم شرعية لما هم في حمأته من الباطل. وهذا ما يسعون إليه جاهدين مع بعض الشرائح من نخب المسلمين الذين ذكرنا قبلا. ولا أجد غضاضة في أن أذكر أسماء بعضهم، ممن اجتهدوا في الظهور، بقصد أن يُعرفوا ويُؤثروا، ويكونوا رواد ذاك التوجه، فمنهم الدكتور محمد ديب شحرور، وبعض من يزعمون أنّهم تلامذة جودت سعيد، وهو ليس بعيدا عنهم، مع استغراق فلسفي أكبر، وحقيقتهم أنّهم في الركب العلماني سائرون، وعدنان إبراهيم، وعلي منصور كيالي، وعدنان الرفاعي وغيرهم .. أما لو سُئِلتُ من هم السماعون لهم في الصف الإسلامي، فإنّي أعرض عن التصريح، أولاً، من باب العمل بهدي النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يقول: (ما بال أقوام…) ولا يسمي. وثانياً لعلهم يفيئون إلى الحق إن شاء الله.
يقول العرب في أمثالهم: (إنّ الشيء بالشيء يذكر)، وحديث العلمانيين والعقلانيين، الذين هم، من نظرة إسلامية واقعية، آفة العصر، وأشد ما يواجه الإسلام والمسلمين من كيدٍ خفيٍ، يستتر وراء مدنية العصر ومنجزاته وبهارجه، ويجعلها طُعم صيده.
وكما بدأت بكلام مالك رحمه الله، أريد أن أختم بقصةٍ وواقعةٍ هي في السياق نفسه، تتعلق بالحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، الذي نحن في صدده، وهل هو مجدٍ أم لا .. وللواقعة مغزىً ونفعٌ كبيرٌ، وفيها تعليمٌ وتذكيرٌ.
وأضُمُّ ذلك إلى مقولة مالك وموقفه، وهم أبناء عَلّات، لأبشر أنّه لا زال في المسلمين من بقية أولئك، وليحذوَ النخب حذوهم.
ولا بد قبل البدء من أن أحدد المقصود بكلمة (الإسلاميين) كما عرفت العلمانيين قبلا، والمقصود (هيئات وأحزاب وتنظيمات وجماعات لها أسماؤها ووجودها في بعض المجتمعات الإسلامية، ترفع لافتات إسلامية). أقول لقد اثبتت التجارب المتكررة أنّ الحوار لم يقدم ولم يؤخر، وأستغفر الله، فأقول لقد أخر فكانت نتيجة الحوارات أن اقتنع بعض الإسلامين بوجوب تلطيف المواقف، وتدوير الزوايا مع العلمانيين اعترافا بأنّهم شريحة لها دورها وحضورها وفعاليتها في كل المجتمعات الإسلامية، وأنّه لا بد من الاستفادة من القواسم المشتركة بين الإسلاميين والعلمانين، زعموا…!
استطردت بعض الشيء وأعود إلى القصة: فمنذ ما يقرب من خمس وعشرين سنة تنادى بعض الإسلاميين في مصر وعقدوا مؤتمرا للحوار مع العلمانيين، وكان الدكتور يوسف القرضاوي هو الذي تولى كبر ذلك الموضوع، ولا شك أنّهم خرجوا بغير طائل. لكنّني سقت القصة من أجل إظهار وجهة نظر أخرى في هذا الموضوع، وهي بيت القصيد، للأستاذ محمد قطب وهو داعية معروف، علق على ذلك المؤتمر، في بعض كتبه وفي معرض حديثه عن الصحوة الإسلامية، بكلامٍ مؤصلٍ عميقٍ، بعيدٍ عن مناورات المجاملات، ولدقته وأهميته، وارتباطه الوثيق بما يجري على الساحة الإسلامية، أحببت أن نستعرضه معا .. يقول رحمه الله:
(ولا تُستدرج {يقصد الصحوة} إلى “مؤتمرات” منصوبة خصيصاً لتشتيت الانتباه وتمييع القضية، كمؤتمر الإسلاميين والعلمانيين الذي ما كان للمسلمين أن يشاركوا فيه، لأنّ مجرد قبولهم المشاركة فيه معناه إعطاء شرعية للعلمانية على قدم المساواة مع الإسلام! وتحويل الإسلام إلى “وجهة نظر”، تعرض إلى جانب وجهة نظر أخرى مخالفة (الرأي والرأي الآخر كما قالوا!) والناس مدعوون للمقارنة بين وجهتي النظر واختيار إحداهما.!
أي مهانة لدين الله أن يتحول على يد المؤتمرين – أو المتآمرين – إلى وجهة نظر ترفض من قبل العلمانيين، ويعترض عليها ونحن قعود معهم، بحجة استمالتهم للإسلام وتليين معارضتهم لتطبيق الشريعة! والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة]. ويقول للمؤمنين: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء]. ويقول في قضية “الرأي والرأي الآخر”: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [سورة الأحزاب]
إنّما كان على الإسلاميين إن أرادوا أن يحضروا مؤتمراً كهذا أن يضعوا النقط على الحروف من أول لحظة، وأن يطلبوا من العلمانيين أن يُحدّدوا موقفهم بوضوح، فيسألوهم: “أتريدون – أم لا تريدون – أن تكونوا مسلمين؟!” فإن قالوا: – كما سيقولون بالطبع – إنّما نحن مسلمون بالفعل ومستمسكون بالإسلام، فيقال لهم: إنّ الإسلام يقتضي تحكيم شريعة الله – كما قضى الكتاب والسنة، وإجماع الفقهاء – فهل تريدون – أم لا تريدون – تطبيق الشريعة؟! فإن قالوا: نريد فقد انتهت القضية، وإن قالوا: لا نريد! فقد انتهت القضية كذلك ولم يعد هناك مجال لحديث، وينتهي “الحوار” بعد افتتاحه بدقائق معدودات!
ولو علم المؤتمرون أن الإسلاميين لديهم هذا الوضوح وهذا الحسم ما جرءوا أن يدعوا لمثل هذا المؤتمر من مبدأ الأمر!).
أي وضوح هذا .. وأي صدق .. وأي واقعية .. وهل يليق بأي فرد مسلم، فضلاً عن النخب، غير هذا؟!
أردت من هذا أن أعرض موقفين متباينين لرجلين معاصرين، بينهما تشابه كثير في الموطن والنشأة والسن والانتماء والثقافة، بل والمعاناة لكن رؤيتهم للواقع وللحلول مختلفة، وفهمهم للدين، وطرائق العمل به غير مؤتلفة. وأظن ومن خلال معرفتي بفكر الرجلين عن طريق القراءة والمتابعة، أنّ أحدهما يرى طريق الالتزام بالوحيين وتطبيقهما، وإخضاع الواقع في أي زمان ومكان لهما .. أما الآخر فاختار لنفسه وصف الوسطية، فيرى إدخال العقل، ومراعاة ومسايرة الواقع، مطلباً رئيساً في النظرة الإسلامية للأمور، تفرضه العصرنة.
رحمك الله يا مالك .. ورحمك الله يا محمد قطب .. التقيتما على المنهج الحق، رغم تباعد السنين، بل القرون بينكما..! فَلِمَ لا نَتَّعِـــظْ…!