لمن بلا عُدَّةٍ يَتَقَحَّم، وبلا رصيد يدخل السوق، أهدي هذا المثل، ولعله يفهم .. لا أعرفه إلا في الصور، إنّه يسكن الشاشات، وما أكثر ظهوره في الفيسبوك، في مقابلات ومناظرات وتحليلات، مع بعض المنظرين والمفكرين، ممن صَنْعتهم مضغُ الكلام، وهم في وادي الذات يهيمون، والمسلمون وجراحاتهم وهمومهم وآلامهم وهزائمهم في وادٍ آخر يعانون. يظنون أنفسهم أساة الجراح، وأبطال الإصلاح، والأقرب أنّهم بآرائهم المتخلفة، بل المحنطة، ونظراتهم القاصرة، كانوا سببا من أسباب النكبة الحاضرة.
كتب في مدونات الجزيرة مقالة بعنوان (إلى متى تفرقنا كتب العقيدة). وكنت عاهدت نفسي أن لا أرد على أحد، لأنّنا نعيش زمن الرويبضة، الذي حدثنا عنه الصادق المصدوق. حيث أتاح الفيسبوك، والتويتر، والفضائيات المغرضة، الفرصة لكل أحد ليصبح مفتيا أو زعيما أو كاتبا أو نجما..! إلا إن اقتضت الحاجة تصحيحَ مقولةٍ، إبراءً للذمة، ونصحًا للمسلمين.
ولعل هذا أول مقال أقرؤه للكاتب، وقد استوقفني معه لسببين: لما فيه من مغالطات وتجاوزات شرعية. ولما اكتشفته، من أنّ الكاتب دعيٌ يهرف بما لا يعرف .. ولم أر بدا من الرد، ويشهد الله أنّي لا أريد الملاحاة، ولا الظهور، لكنّي استخرت الله، ونويت ذلك لوجهه الكريم .. ولن يكون نقدي شاملا لكل ما جاء في المقال، إنّما سأحدد نفسي ببعض نقاط أساسية، لتبيان المغالطات الشرعية الكبيرة التي جاءت في المقال، ودحضها، وبيان الحق، والله من وراء القصد.
المسألة الأولى: يقول الكاتب: (أضحى من الضرورة تجديدُ كتب العقيدة، فالزمان تغيّر، وجدّت فيه شبهات لم تكن معروفة سابقاً، فما كان يشغل العقول في عصور سابقة لم يعد يسترعي اهتمام إنسان عصرِنا).
أقول: إنّ عقيدة المسلمين لا ترتبط بالزمان والمكان وتطور الفكر، وتقلبات العقل غير المستنير بالوحي. بكلمات محددة، العقيدة الإسلامية الصحيحة ترتبط
بالثوابت وليس بالمتغيرات .. ومن الثوابت التي هي مصدر عقيدة المسلمين الصحيحة، ولا مصدر سواها، ما أنزل الله، وما علَّم رسولُ الله، وفق فهم القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، ثم جرى على ذلك سبيل المؤمنين: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
وكتب العقيدة، التي بين أيدي الناس، فيها الغث وفيها السمين، ولا يُعتد إلا بما وافق الثوابت التي ذكرنا آنفا. وكل دعوة للإصلاح يجب أن تركز على رد العقيدة إلى الله ورسوله وسبيل المؤمنين.
ولقد أنهى الكاتب الفقرة بمغالطة شنيعة فقال: (وهذا ما دفع الثقافة الإسلاميّة إلى الاعتماد على كُتب التصوّف والوعظ -على ما فيها- لتعوّض ما فاتها في كُتب العقائد الكلاميّة). ونرد بالمثل القائل (كالمستجير من الرمضاء بالنار)، وكأنّ أمر الدين صار للثقافة وأربابها، وليس لله ورسوله. ولِمَ لا يكون الحل العودة إلى الوحيين؟ والأصل أن نستعمل كلمة (الدين) وليس (الثقافة)، ومن هنا بدأ التفلت..!
المسألة الثانية: كأنّ الكاتب لا يفرق بين العقيدة والفقه، في أنّ العقيدة لا تقبل الاجتهاد كبعض الأحكام الفقهية، فأدلة العقيدة قطعية. ولجهله هذه الحقيقة يقول: (لكن المطلوب توسيعُ سَمّ الخِياط الذي يضعه بعض المصنّفين، والتسامحُ بالخلافات التي يسعها الاجتهاد). ويتضج جهله بقوله أيضا: (فكون المسألة عقديّة لا يعني عدم الاختلاف فيها). لقد فاته أنّ الصحابة رضوان الله عليم أجمعين لم ينقل عنهم أبدا اختلافهم في مسائل عقدية، مع اختلافهم في بعض الأحكام الفقهية.
المسألة الثالثة:
مغالطة كبيرة تَوصل إليها عقله، لأنّه يصدر عن عقله وفهمه، وليس عن النصوص، وما استنبطه منها أكابر العلماء المحققين. يقول: (.. لكن بقيت مسألةٌ تشقّ الصفّ وتصنّف الناس وهي ما يُسَمّى [آيات الصفات]، قلت: [ما يسمّى] لأنّني أعتقد أنّ آيات الصفات حقّاً هي الآيات التي تصف الله تعالى صراحة، مثل: [الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم] [قل هو الله أحد..] [على كلّ شيء قدير..]. أمّا الآيات التي توهم الجسميّة والجهة ومشابهة الله تعالى للمخلوقات، فهذه قضيّة ينبغي تجاوزها تماماً).
وماذا يقصد بقوله (يجب تجاوزها)؟
إنّ هذا الكلام الخطير ليذكرني بقوله تعالى: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)، وقد فسرها ابن عاشور في التحرير والتنوير بالآتي: (جَعَلُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِضِينَ [أقساما] فَصَدَّقُوا بَعْضَهُ وَهُوَ مَا وَافَقَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَّبُوا بَعْضَهُ الْمُخَالِفَ لِأَهْوَائِهِمْ).
وحاشا أن أتهم الكاتب، هداه الله، بإرادة هذا المعنى الكفري، لكنّه لما كان يلقى الكلام على عواهنه، أوقع نفسه في هذا المضيق. والأصل أن نقول عن آيات الصفات وغيرها من أيات الكتاب الكريم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).
ولْنرَ كيف يستَجِرُّ علمُ الكلام وأهلُه، المسلمين، حتى بعضَ علمائهم، إلى مثل هذا التأويل الباطل الذي هو من العبث بمعاني آي القرآن الكريم، وصرفها عن مراد الله بها، لتواطيء مراد أهل الفلسفة والعقل وعلم الكلام..؟ والظاهر تماما، أنّ الكاتب لا يستطيع أن يتخلص من الفهم المنحرف الذي تربى عليه علي أيدي مشايخه الأشاعرة، وما استحفظوه إياه من أبيات جوهرة التوحيد ومنها:
وكل نصٍ أوهم التشبيها أوله، أو فوض ورم تنزيها
هل فكَّر أهل هذا المذهب بعقول اهتدت بنور الوحي؟ وإذن لحكموا ببطلان هذه (الفحمة) وليس (الجوهرة). هل أنزل الله في قرآنه نصوصا تضلل الناس وتحيرهم، وتجعلهم يشبهون ربهم بالمخلوقين، حتى أتى الأشاعرة لينقذوا الخلق ببدعة (التأويل الباطل)..؟ أين هم من قوله تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).
وما معنى أن ننزه الله عما لم ينزه عنه نفسه، ولم ينزهه عنه أعلم الخلق بربه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن لم يكن هذا الفعل العبثي استدراكا على من أنزل القرآن، ومن بلغه وعلمه للناس فماذا يكون..؟
ثم يطالب الكاتب أن نقبل كل قول في العقيدة ونحترم قائله، يقول: (واحترامُ كلّ الأطراف، فالكلّ يريد تنزيهَ الله تعالى، فالمثبتون لا يريدون تعطيل الصفات، والمؤوّلون لا يريدون تشبيه الله تعالى، والأدلّة محتملة وغير قطعيّة، ولو كان الأمر قطعيّاً ما اختلفوا أصلاً، فأصول العقائد متّفَق عليها عند أهل السُّنّة…)، وأقول له إنّ الذي يُقدَّر ويُحترم ويُقدم، هو كل من أخذ بظاهر كلام الله، وصحيح حديث رسول الله، وسلك في فهمهما والعمل بهما سبيل المؤمنين، وليس من شرق وغرب.
ويبلغ الجهل بالمسكين، أن يتألى على الله تبارك وتعالى، عياذا بالله، ولا يتحرج من أن يستهل هذا التألي بقوله: (والذي أعتقده)، ما يذكرني ببيت من الشعر يتردد كثيرا في الكتب الدينية في ردهم على الأدعياء:
يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ
يقول هداه الله: (أمّا في الآخرة فالذي أعتقده أنّ الله تعالى لن يسألنا -بفضله وكرمه- عمّا يُسَمّى بآيات الصفات ولن يختبرنا اختبار عقيدة (كما تفعل اللجان الفاحصة) بجزئياتٍ تصنّف الناس وتقسِّمهم، لكنّ الله سيحاسبنا على أركان الإيمان الستّة، وأركان الإسلام الخمسة، وعن سلوكنا ومعاملاتنا وأخلاقنا…).
ولا يفوتني، أن أقول لهذا الجاهل المتسرع الذي يسخر من حقائق شرعية حينما يقول: (ولن يختبرنا اختبار عقيدة {كما تفعل اللجان الفاحصة})، قد فاتك من العلم الكثير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الصحابي معاوية بن الحكم السُلَمي ويقول: (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: (ائْتِنِي بِهَا) فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللهُ؟) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: (مَنْ أَنَا؟) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: (أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).
رسول الله، بأبي هو وأمي، يختبر جارية اختبارا شرعيا في توحيد الأسماء والصفات، ويشهد لها بالإيمان ويكافؤها بالعتق، وأقسم غير حانث، أنّ هذا السؤال لو طرح على أكثر علماء المسلمين اليوم، لما وفقوا بإجابة ترضي الله، بعد أن ضللتهم مذاهب المتكلمين في العقيدة..! وأزيدك علما بأنّ الأشاعرة، الذين تربيت على أيديهم، يقولون: من سأل عن الله بأين فقد كفر، ومن قال إنّه في السماء فقد كفر..! ألم يقرؤوا الحديث السابق، بل ألم يفهموه؟ بلى، ولكنّهم ألغوه بفريةٍ ابتدعوها، فقالوا إنّه خبر أحاد، لا يحتج به في العقيدة..!
وإليك الرد الأخطر على هذه الباقعة التي صدرت منك حين جعلت آيات الصفات عضين..! وليتك سكت بعدها، بل أبيت إلا أن تتألى على الله حين قلت: (أمّا في الآخرة فالذي أعتقده أنّ الله تعالى لن يسألنا -بفضله وكرمه- عمّا يُسَمّى بآيات الصفات ولن يختبرنا اختبار عقيدة [كما تفعل اللجان الفاحصة] بجزئياتٍ تصنّف الناس وتقسِّمهم…)، وأريد أن أعرف كيف ستردُّ أنت ومن علمك من مشايخ الأشاعرة ومن على شاكلتهم من أهل الفرق عما يأتي: يقول الله، تقدست أسماؤه وصفاته، في سورة القلم: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ). فلو أخذنا بمذهب الأشاعرة، ومن اعتقد معتقدهم، وأولنا الكشف عن الساق بأنّه كناية عن اشتداد الأمر، واحتفينا بأبيات من الشعر تقول ذلك، على طريقة أكثر المفسرين الذين استبعدوا في التفسير الوحي الثاني، السنة المبينة للقرآن، وسمحوا لعقولهم ولعلم الكلام، أن تستقل بتفسير كلام الله، فكم نكون قد خُنَّا المسلمين، وسنحمل وزر تلك الخيانة..! فلنقرأ أيضاً هذا الحديث بإمعان:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) مُتَّفق عَلَيْهِ .. ولنقرأ رواية ثانية للحديث: (إذا جمع الله العباد بصعيد واحد نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم ههنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجدا وذلك قول الله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة).
هل يشك عاقل، فضلاً عن مسلم، يقرأ الآية والحديثين في أنّ الله تبارك وتعالى قد جعل صفة كشف الساق، بالتعبير العسكري، كلمة السر بينه وبين عباده المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وقد جاء ذلك صريحاً في الكتاب والسنة
الصحيحة..؟ وماذا سيفعل من رُبِّيَ على التأويل والتبديل والإنكار، هل سيسجدون..؟! وهل سيُصدقكم المسلمون أم يُصدقون الله ورسوله…؟!
المسألة الرابعة: ولا يزال الخطأ يستدرجه، وليس عند المسكين علم يعصمه. يقول: (فمذاهب أهل السُّنّة المقبولة بهذه المسألة هي: الإثبات والتفويض والتأويل، أمّا المرفوض: التجسيم والتعطيل. وعليه فالمذاهب الثلاثة [أشعريّة وماتريديّة وسلفيّة] كلّهم من أهل السُّنّة والجماعة، لأنّ أهل السُّنّة واقعيّاً يشملون هؤلاء كلّهم. [يقول الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي: “أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْأَثَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَشْعَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمَاتُرِيدِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رحمه الله). ويضيف: (كثيرون لن يقبلوا هذا الكلام، فكيف نتجاوز الخلاف في العقيدة؟!).
وأرد على هذا الكلام فأقول: إنّ عقيدة المسلمين مصدرها الوحيان
وليس العلماء، فالصحابة عليهم رضوان الله لم يجتهدوا في العقيدة..!
وأسأل الكاتب ومن يقول بقوله، ويعتقد معتقده، إذا سلمنا لكم، من باب التنزل مع الخصم، بأنّ المذاهب في العقيدة هي الثلاثة، فأجيبونا ماذا كانت عقيدة كل المسلمين الذين سبقوا تلك المذاهب، وهل كانوا على ما يرضي الله ؟ ولا ننسى أنّ فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية..!؟.
وبالمناسبة فإنّ كلاما مثل هذا يقال للمتعصبين للمذاهب أيضا؛ هل دين من عاشوا قبل المذاهب الأربعة أرضى لله، أم من بعدها؟ ننتظر الإجابة..!
أما جوابي عن تساؤله: (فكيف نتجاوز الخلاف في العقيدة؟!).
أقول: أن نضع العقل والفلسفة وعلم الكلام التي أضلت الناس في العقيدة، جانبا، ونكون
متبعين وليس مبتدعين.
لكنّ الكاتب أجاب نفسه فقال: (الجواب: هذا خلاف بفروع العقيدة وليس في أصولها، وكما أنّ الأمّة مرّت بفترات تعصّب فقهيّ مذهبيّ حتّى إن بعضهم مضى به التعصّب إلى عدم جواز التزوّج من أتباع مذهب آخر، وبنوا عدّة محاريب في المسجد الواحد! ثم شاع التسامح الفقهيّ وتجاوزت الأمّة هذا التعصّب الذميم، وعليه ينبغي على الأمّة أن تسير بوعيها لتجاوز هذه الخلافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالمهم هو العقيدة التي تزرع الخوفَ من الله والحبَّ له والتعظيمَ له. وهذا ما أعتقد أنّه سيحصل في قابل الأيّام، لكنّني هنا أطالب بالسرعة لاعتماد هذا الرأي، حتى نوفّر على أمّتنا المتعبة مزيداً من الجروح والآلام).
بدأ إجابته باعتبار الاختلاف في أسماء الله وصفاته، اختلافا في فروع العقيدة..! يا هذا إذا كان توحيد الأسماء والصفات من فروع العقيدة، فماذا بقي من العقيدة. نعوذ بالله من هذا الجهل والشطط.
ثم يعود لتشبيه مسائل العقيدة بمسائل الفقه، وقد نبهنا قبلا، أنّ الصحابة رضي الله عنهم رغم اختلافهم في مسائل فقهية، لم يسجل عليهم خلاف واحد في العقيدة. ولو كان لي أن أضع عنوانا لهذه الفقرة، مما كتب الكاتب، لقلت: تمييع العقيدة بامتياز..!
وفي آخر فقرته السابقة طلبَ، مُلِحًّا: (لكنّني هنا أطالب بالسرعة لاعتماد هذا الرأي، حتى نوفّر على أمّتنا المتعبة مزيداً من الجروح والآلام).
فهو في غاية الاطمئنان لصحة رأيه الذي يراه بلسما لجراح الأمة، ويطلب سرعة تطبيقه. نجيبه بالمثل العربي (ثَبِّتِ العرش ثم انقش).
المسألة الخامسة: ولا يزال يقدم الآراء والمقترحات، وأتذكر هنا حديثا، وأذكره به هداه الله: (لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك؛ العُجْب).
يقول: (وفي مجال التعليم: علينا دراسة العقيدة المقارنة كما ندرس الفقه المقارن، فنقول: في هذه المسألة لأهل السّنّة ثلاثة مذاهب: من أهل العلم من أوَّلَ فقال: كذا وكذا، وبعضهم قال: نُفوّض المعنى لله تعالى، وبعضهم قال: نثبت صفة كذا وكذا.. ولا بأس بترجيح مذهب على آخر.. والراجح أنّ هذه النصوص لا يصحّ معاملتها معاملة واحدة، فمنها ما سِيق النصُّ لأجله، ومنها ما سيق النصّ لغيره، ومنها ما اتُفق على تأويله، ومنها ما اختُلف فيه، فينبغي معاملة كلّ نصٍ على حِدة . ويسع المسلم اعتقاد ما يطمئن له قلبه، ويرتاح له عقله، دون تثريب أو لوم، فتفاصيل كُتُب العقائد من البدع التي لم تكن زمن الصحب الكرام، وقضيّة الصفات لم يهتمّ بها الصحابة الكرام ولا درّسوها لأحد، ولا امتحنوا بها عقيدة أحد، بل لم يرد عنهم كلامٌ واضح يمكن أن نُكوّن من خلاله تصوّراً يمكن أن يشكّل مذهب السلف).
لا زال يبديء ويعيد مشبها العقيدة بالفقه، ويأتي هنا بمصطلح جديد وهو (العقيدة المقارنة) قياسا على الفقه المقارن. ولقد تم الرد عليه تفصيلا، قبلا. وأُذكر هنا بفكرة أساسية أنّه لا يوجد في الإسلام خلاف في العقيدة
لأنّ الأدلة فيها قاطعة، وقياس العقيدة على الفقه خطأ من كل وجه.
أما الرد على ما جاء في تتمة الفقرة، فأعيد ما قلت قبلا؛ لو كان لي أن أضع عنوانا لهذه الفقرة، لقلت: تمييع العقيدة بامتياز…!
المسألة السادسة: وينقل في أخر مقاله كلاما لأحد الكتاب يقول فيه: (كتب العقيدة تفرّق، والإيمان الذي جاء به الإسلام يجمع، فالإيمان إجمال والعقيدة تفصيل، الإيمان بساطة والعقيدة تعقيدٌ، الإيمان فطرة والعقيدة تكلُّف، الإيمان باب مفتوح والعقيدة سور منيع).
وأرد على هذا فأقول: لعلك لم يحالفك التوفيق إلا في هذه الجملة! فكتب العقيدة حين ترك أصحابها تحكيم النصوص، وتحقيق الاتباع، واستبدلوا علم الكلام وشوارد العقل بها، يصدق في تلك الكتب أنّها تفرق وزيادة. ولْنَصدُقْ مع أنفسنا، ونقول من المسؤول عن هذا الانحراف. لكنّا نصانع ونجامل الخلل ونريد أن نلزم المسلمين بقبول الانحراف في العقيدة وهي أصل الدين، بدلا من أن نلزمهم بالعودة إلى تحكيم النصوص والتزام الاتباع.
ويختم مقاله بالفقرة الآتية: (لكنّ الذي نطالب به -وبشدّة- عدمُ إخراج إخوانكم من دائرة أهل السُّنَّة، فإن كنتم تتَّهمونهم بالتجسيم، فإنّهم يتهمونكم بالتعطيل! مع الأسف نحن نختلف حول بعض الصفات الإلهيّة والناس أنكروا الذات والأديان، ونختلف حول التوسّل بالنبيّ والناس أنكروا النبوّة والوحي! فهذا زمان إنقاذ الإيمان، وليس زمن الانتصار لمذهب عَقديّ إسلاميّ على آخر).
وتعليقي على هذه الفقرة ، وأبدأ من آخرها، وأقول: لعلي لا أجد كبير فرق بين من رغب عن الحق متمثلا باتباع ظاهر كتاب الله، والتزام هدي رسول الله، وخاض في توحيد الأسماء والصفات، بضلال عقله في متاهات الفلسفة وعلم الكلام، وبين معرضٍ عن الدين أصلا. كما أنّي لا أفهم بأي منطق وميزان عادل نقول: مادام الناس يكذبون بالوحي والنبوة، فلنتساهل في أمر التوسل بالنبي، من أين جئت بهذه الموازنات وهذه المقاربات، بل المواربات. إنّ هذا الأمر دين فيه حدود لا بد من الوقوف عندها، وعدم تعديها (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)، وليس هو أمر سياسة يُقضى (بمسح اللحى)، وجبر الخواطر..!
وما تبقى من هذه الفقرة ولكل ما جاء في هذا المقال أقول:
العلم قال الله قال رسوله |
قال الصحابة ليس خلفٌ فيهِ |
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…