الموضوع اليوم استمرار للموضوع الماضي، الموسوم (ثلث الإسلام). فذاك كان مكرساً لموضوع البدع، وهذا مكرس لموضوع ضبط نصوص السنة، وصحة نسبتها إلى صاحبها صلى الله عليه وسلم .. وهل البدعة إلا نقيض السنة..؟
وحديث الباب في موضوع اليوم: (إياكم وكثرة الحديث عني فمن قال علي فليقل حقا أو صدقا، ومن تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار).
وفي الحديث تحذير لكل مسلم ومسلمة من أخطر ذنب يُرتكب، والناس عنه غافلون، وعن خطورته ساهون، لا يُلقون له بالاً وهو عند الله عظيم .. إنّه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولكن كيف يكون الكذب على رسول الله؟
إنّه نوعان حسب مَن يصدر عنهم: أما النوع الأول فأعداء للدين، يريدون الإفساد فوضعوا أحاديث من صنع عقولهم وركّبوا لها الأسانيد لتنطلي على الجهال .. وعُرف هذا في علم المصطلح (بوضع الحديث)، ووضع الحديث انتهى أمره وتصدى له علماء الحديث في زمانهم ووأدوا تلك الفتنة في مهدها. أما في حياتنا المعاصرة فلا وجود لوضع الحديث والحمد لله، إلا من شرائح من الناس، وفيهم مسلمون، لا يزالون يجترون ما وضعه الوضاعون ابتغاء الفتنة والتشويش على الدين وأهل الدين. وكما تصدى أهل الحديث في الماضي لهذه الفتنة، فطلبة العلم الذين أكبوا على دراسة الحديث ومصطلحه هم لها اليوم.
وقبل أن أنهي الحديث عن وضع الحديث في الماضي أريد أن أعرج على حالة من حالات وضع الحديث قام بها أناس زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوها حسنة وما هي بذلك. برروا فعلتهم الشنيعة بعبارة (نكذب له ولا نكذب عليه). ويُرد عليهم إنّ دين الإسلام، وإنّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، حق صراح لا يحتاج لمن يكذب له، فالحق لا ينتشر بالكذب. وقد اشتهر خبر أحدهم في الكتب، ويدعى (نوح بن أبي مريم) ما ترك سورة في كتاب الله إلا وضع حديثا في فضلها، ولا زالت تلك الأحاديث في بعض كتب التفسير حتى الآن. وانظروا إلى رده لما ووجه بذاك الفعل. ذكر القرطبي في تفسيره: (قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة).
ما أقبح الجهل بدين الله كم يورد أهله المهالك. وبالمناسبة فإنّ ما يصح من أحاديث في فضائل بعض السور لا يتجاوز عدد أصابع اليدين أو يزيد قليلا .. وهذا أحد الوضاعين يعترف بلسانه عن فعلته الشنيعة، وهو ممن كان يعتقد أنّه (يكذب له وليس عليه). وأما غيره من الوُضَّاع، فكشفهم وفضحهم جهابذة المحدثين ومن نذروا أعمارهم لخدمة الدين، والوحي الثاني بخاصة، فجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء.
أما النوع الثاني من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأخطر، في وقتنا المعاصر..! فخطير وعجيب..! أوتدرون مَن الذي يفعله؟
إنّهم الخطباء والوعاظ والدعاة والمشايخ..! وحتى لا يكون هذا الكلام صدمة للبعض لا بد من الإيضاح الآتي: ما المقصود بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هو نوعان: الأول؛ كذب متعمد، وهو وضع الحديث كما مر، أي تقويل الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وكان ذلك من شأن الماضي وانتهى.
والثاني؛ وهو بيت القصيد الآن، عدم التحري والبحث في حال الأحاديث قبل روايتها، وإشاعتها بين الناس، منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وتتضح الخطورة حينما نعلم أنّ مصدر التلقي لكثير من الناس، في زماننا، هم الخطباء. فكثيرا ما تصوب لإنسان درجة حديث فيبادرك القول: سمعته أمس من خطيب الجمعة.
إذن يستوي في الكذب على النبي عليه السلام، متعمد للكذب، ومهمل مقصر في تحري الأحاديث، لأنّهم التقوا على نتيجة واحدة، وهي نشر باطل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أخطر الانحرافات في الدين لخطورة نتيجته، وهي أنّه كذب على وحي السماء، فهو كذب على الله. ولنقرأ الحديث الآتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ كَذِبًا عَلَىَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). حديث شريف يحذر من أخطر ذنب يقع الناس فيه في كل الأعصار، ويفهم من الحديث بكل وضوح أنّ الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام ليس كالكذب على أحد من أهل الأرض .. لماذا؟ لأنّ الكذب على النبي، كما ذكرنا آنفا، كذب على الوحي: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، والكذب على الوحي كذب على الله.
ونستنتج أنّ الكذب على النبي تغيير لدين الله .. وكل خطيب أو واعظ أو داعية يجب عليه أن يمحص الأحاديث التي يذكرها، مكتفياً بما هو واثق من صحته، وإلا كان مشمولا بمنطوق الحديث .. ولنركز إنتباهنا على العقوبة التي توعد بها رسول الله عليه الصلاة والسلام من يكذب عليه، سواء كان متعمداً أم مقصراً في التحري، إنّها النار وساءت مصيرا.
ويؤكد ما نقول هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَدَّثَ عَنِّى بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ). ورواية يُرى بالضم تعني أنّه معلوم بين الناس أنّه كذب، وأما رواية الفتح (يَرى) فتعني أنّه الناقل، وهو الشاك في صحة الحديث، وعلى الحالين يأثم بروايته ويكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولنتذكر أول كلمتين في حديث الباب (إياكم وكثرة…) فالتحذير مُنصب على كثرة التحديث ليس لذاتها، فما أحسن وما أنفع الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، لكنّها الكثرة في الحديث التي تُخلُّ بالصحة وبالتحري والتثبت.
وأذكر أيام الضجة الكبرى في قصة الدانمارك والرسوم ضد النبي صلى الله عليه وسلم، أنّ شخصا قال لي: لا أراك مهتما بهذا المهرجان..! قلت أصبت والله. قال: ولِمَ ؟ قلت لأنّي أحب الحقيقة وأكره المهرجانات. قال كيف؟ قلت: أولئك كفار لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل إنّ الكنيسة تعلمهم أنّ محمدا مجدف جاء ليفسد دين النصارى. فهل بعد الكفر من ذنب..؟ وفي بلاد المسلمين يُكذب على رسول الله ملايين المرات، في اليوم الواحد، ولا أبالغ، من مسلمين متدينين، ومنهم من يفعل ذلك من على ذرى المنابر..! وهل يقارن سوء هذا الأمر الخطير، الذي يجري باستمرار في ديار المسلمين، مع مقال أو صور أو أي افتراء يصدر من كافر؟ المسألة واضحة، ولكنّنا نغالط أنفسنا، فلِمَ لا نبدؤ تحركنا لإصلاح ما حولنا قبل أن نذهب إلى ما وراء البحار..؟ مفتعلين معركة تستخف الجميع فترة، ثم يعود كل شيء إلى حاله. قال: ما فهمت. قلت: كل من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تثبت، ومن يميت سنة النبي صلى الله عليه وسلم بإحياء البدع، فهو كاذب ومفتر على النبي كذبا وافتراء أشد من أهل الدانمارك. حتى لو كان مسلماً، أو كان شيخاً صاحب عمامة، أو كان خطيبا مشهورا، بل قد يكون صاحب مؤلفات إسلامية..! ومثل هؤلاء هم الذين يجب أن يكونوا هدف الإصلاح، إن كنا جادين في ضجيجنا.
وإليكم هذه الطرفة: في حمأة ذاك المهرجان المصطنع، والكل يتسابق لتسجيل موقف يخيل إليه أنّه يبريء به ذمته عند الله تبارك وتعالى، وما هو بمبريء..! وقد اشتدت حمى المقاطعة للأجبان والزبدة والألبان، كل يتعاطى معها بفن يراه. امتلأ الجوال عندي برسائل تدعو إلى المقاطعة. ومن عادتي ألا أرد على الرسائل، حتى جاءتني رسائل تطلب مني أن أقول شيئا، فأخذت الجوال وكتبت:
أحيوا اتباعا سنة العدنان |
والحق ما يأتب به الوحيان |
ولا يفوتني، وقد أشرت آنفا إلى المؤلفين والخطباء، أن أنبه إلى أمر هام وهو أنّ عزو الحديث إلى الكتب التي أخرجته لا يُعد تثبتاً من صحة الحديث إلا إذا كان العزو للصحيحين البخاري ومسلم، لأنّ الناس أكثرهم حتى العوام يعرفون أنّ الصحيحين مظان الصحة، لكن لو كان العزو للسنن وغيرها، كأنّ يقال أخرجه الترمذي أو النسائي أو البيهقي أو الحاكم أو أو أو، فهذا يعني الإسناد ولا يعني الصحة. أما درجة الأحاديث، وأعني الصحة والحسن والضعف بأقسامها، فلها كتبها المتخصصة. فلا بُد من الرجوع إليها.
وليكن همُّ كل محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حريص على الذب عن عرضه أن يعظم سنته، ويخدم نشرها، ونشر العلم بها لتمييز صحيحها من سقيمها. وليكن رائده في ذلك كلمة علي رضي الله عنه: (لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم أسمعه).
ولتكن خاتمة هذا الموضوع نصيحة أسديها لكل أخ مسلم، وأخت مسلمة:
أقول لا يخفى أنّ السنة النبوية هي الوحي الثاني، وقد تعرضت لموجات متتالية من الكيد، من كل معاد للإسلام جملة، ومن القرآنيين، ومن العقلانيين، وأخيرا من العصرانين. وكانت أولى المحاولات للتشكيك، القول بأنّه يمكن الاستغناء عن السنة، والاكتفاء بالقرآن، وتلك مقولة القرآنيين. وقد تولى صاحب السنة صلى الله عليه وسلم الدفاع عن سنته في حديث يخفى على كثيرين:
عن المقدام بن معديْكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إنّي أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإنّما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه). رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه وأحمد بسند صحيح
فالحديث يؤكد حقيقتين لا جدال فيهما ولا مراء؛ الأولى أنّ السنة هي الوحي الثاني الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. وفي فتح الباري، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ أَحَدِ التَّابِعِينَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ: (كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ). والثانية أنّ لها ما للقرآن من القوة في التشريع دون أي فرق.
واستمرت المحاولات للنيل من السنة تترى عن طريق التشكيك برجالات السنة، كأبي هريرة رضي الله عنه، والبخاري رحمه الله، ثم إثارة بعض الموضوعات مثل الفرق الزمني بين موت الرسول صلى الله عليه وسلم وأول محاولة لجمع الحديث، ليستنبط منها ألف كذبة وكذبة كل ذلك لتشكيك المسلمين بالسنة النبوية. والمشكلة الأكبر أن يوجد في المسلمين سماعون لتلك الافتراءات.
واستهداف السنة استهداف لدين الله، بل ولحقيقة وجود الله والإيمان به تبارك وتعالى. ولكن بطريقة غير ذكية لظن أصحابها أنّهم يفلحون في ستر نواياهم الخبيثة. وقد ذكرت في أكثر من موضع من كتابات لي، رداً واحداً يكفي المسلم لدحض كل تلك الدعاوى، وليكون تثبيتا لكل نفس أخذتها تلك الشكوك. قلت: إنّ المسلمين يكفيهم أن يفهموا عن ربهم وعده لهم أنّه قد تكفل لهم بحفظ الدين كما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، من خلال آيتين، أولاهما: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، مع ملاحظة أنّ كلمة الذكر لا تعني فقط القرآن الكريم، وإنّما تعني الوحي فيكون حفظ الله تبارك وتعالى شاملاً للوحيين، القرآن والسنة التي هي المُبيِّنُ للقرآن، وهل يستقيم عقلًا حفظ المُبيَّنِ دون حفظِ المُبيِّنِ له..؟
والثانية وهي قول ربنا:
(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) وهي أنّ الله تكفل بهداية البشر إلى الدين الحق حتى قيام الساعة، وذلك بقوله تبارك وتعالى (إِنَّ عَلَيْنَا) وذلك مصطلح لغوي، يعني أخذ العهد على النفس بشيء ما.
وهاتان الآيتان تدحضان كل حملات التشكيك التي يثيرها أعداء الدين في وجه السنة النبوية .. والحمد لله الذي هدانا بفضله إلى الحق المبين