Skip to main content

رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ

By الأثنين 27 جمادى الأولى 1437هـ 7-3-2016ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

سؤال كثر طرحه، ويكثر .. وصار مع مجموعة من التساؤلات موسمياً، أي له مواسم يُطرح فيها بتواتر زمني معين، لا نعلمه لأنّه تحكمه أمزجة السائلين أو المتسائلين .. وبين اللفظتين عندي فرق، ولست الآن أحرر المسسألة لغوياً ومعجمياً، بل اصطلاحياً، ويقر اللغويون أنّ بعض الكلمات يطبعها الاستعمال والتداول بين الناس بمفهوم جديد يخالف ما هو في المعاجم، ويرضخ أهل اللغة لهذا المعنى الجديد، معترفين به، ما دام يحقق تفاهماً بين الناس، وهو غاية اللغة، وليس في اللغة ابتداع، بل (نعمت البدعة) كما قال عمر رضي الله عنه.

الفرق عندي: أنّ السائل جاهل لمسألة، ويُقرّ بجهله، ويريد أن يتعلم من خلال السؤال .. أما المتسائل، فلديه اعتراضات وشكوك يريد عرضها، ولا نريد الدخول في شق الصدور..! إذاً بين أولٍ يُريد أن يتعَلَّم، وآخر يُريد أن يتهَجَّم.

قد يقول قائل: لمَ هذه المقدمة؟ أقول: لأنّ الأيام، والأخذ والرد مع الناس، علمنا أن نفهم ما بين تضاعيف الكلام، وما وراءه، قياساً على قولهم: (قراءة ما بين السطور وما وراءها). فالجاهل يُقنعه أن تطرح عليه المسألة التي يجهلها بأدلتها الصحيحة، وتنتهي عند هذا الحد مهمة السائل والمسؤول. أما المتسائل المتشكك، فلا يُقنعه ولا يكفيه، ما يُقَدَّم للجاهل، لأنّه مُماحك يصدر عن هوى وليس عن جهل. وصاحب الهوى لا ينبغي إطالة الوقوف معه، لأنّه يريد كسب الوقت، وطول الحوار، لصالح نشر هواه على ملإ لاصطياد متشككين أمثاله..! فهو صاحب غرض.

وكنت ذات مرة أطرح هذه الفكرة في مجلس، فسألني أحدهم: أليس من حق صاحب الهوى علينا أن يُعلَّم؟ قلت: بلى، ولكن حين يدع هواه ويعترف بجهله، وعندها مرحبا به ليتعلم.

ومن الموضوعات المطروحة للتشكيك وليس للتعلم، كما أسلفنا؛ (رجم الزاني) و(رضاع الكبير) و(سحر النبي) و(قتل المرتد) و(عذاب القبر) وغيرها من موضوعات ثابتة وواضحة الأدلة، ولكنّ الهوى أحاطها بالشكوك، ومصادمة العقل والواقع والإنسانية بزعمهم، ولا أريد أن يفوتني ذكر بعض الأسماء التي تتولى كبر هذه العملية التشكيكية: محمد ديب شحرور، مصطفى محمود، عدنان الرفاعي، عدنان إبراهيم، علي منصور كيالي، عمران حسين، وأحيانا جودت سعيد.

بعد هذه المقدمة، سيكون عرض الموضوع بغاية تعليم جاهل، أو تنبيه غافل، بالتذكير بالأدلة، ورد الشبهات دون الدخول في جدال مع أصحاب الأهواء .. ولعل ناقداً يستوقفني الآن ليطرح سؤالا: لِمَ ترمي من يخالفك بأنّه صاحب هوى؟ وقد قالها من قبل من قالها؟

أقول: إنّي لا أطرح رأيي واجتهادي، إنّما أطرح قول الله وقول نبيه، ومن يخالفهما فهو صاحب الهوى وفق الآية: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). وإلى الموضوع:

أولاً: الأدلــــة

. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خُذُوا عَنِّى خُذُوا عَنِّى قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْىُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ).

. وعن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَامَ خَصْمُهُ – وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ – فَقَالَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِى. قَالَ (قُلْ). قَالَ إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ. فَقَالَ النَّبِىُّ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا). فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا).
متفق عليه

. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب.. فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل، ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وقد قرأتها” الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البته نكالاً من الله والله عزيز حكيم). متفق عليه

. وفي رواية أخرى عنه في موطأ مالك وغيره: (أنّ عمر خطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها).

. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه ‏قال: (كانت سورة الأحزاب توازي ‏سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ ‏والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة).

. وعن جابر رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَتَى النَّبِىَّ وَهْوَ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِى أَعْرَضَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ (هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أُحْصِنْتَ؟). قَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ).

. وأخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِىَّ قَالَ: (لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ). قَالَ لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: (أَنِكْتَهَا). لاَ يَكْنِى. قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ).

وليس بخاف أبداً أنّ النبي عليه السلام قد رجم ماعزا والغامدية واليهوديين بسبب الزنا مع الإحصان.

ما مضى كان مما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في مسألة رجم الزاني المحصن. وقد تابع الصحابة رضي الله عنهم نبيهم فرجموا بعده، وقد مر معنا موقف عمر القوي من موضوع الرجم، كما ثبت عن علي تنفيذ حد الرجم: (ثبت عن علي رضي الله عنه حين رجم المرأة يوم الجمعة أنه قال: رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: وجلدتها بكتاب الله. قال ذلك ردا على من قال له: جمعت لها بين حدين).

ثانياً: الشبهات…

زعم بعضهم أنّ ما ذكر من نصوص يعارض ما جاء في سورة النور: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). فلم يجدوا في سورة النور أي ذكر للإحصان والرجم. ويجاب عن هذه الشبهة:

أنّ آية النور أعطت حكم البكر الزاني وعقوبته الجلد. أما سورة الأحزاب المنسوخ بعضها فقد اختصت بالمحصنين، وأيد ذلك أحاديث صحيحة قولية وفعلية ذكرت آنفاً، كما ذكر تطبيق بعض الصحابة لذلك بعد رسول الله عليه السلام. ومعروف أنّ القرآن الكريم تدرج في عقوبة الزنا ليستطيع الناس تمثل الدين والتطور بأحوالهم مع أحكامه. فنرى العقوبة الأولى للزناة الإيذاء بالضرب وغيره من التوبيخ. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا). ثم زيدت العقوبة بالنسبة للنساء بإمساكهن
في البيوت ومنعهن من الخروج تمهيداً لحكمٍ جديد بحقهن، يقول تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا). وقد مرّ معنا قول النبي عليه السلام: (خُذُوا عَنِّى خُذُوا عَنِّى قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْىُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ). مشيراً إلى الحكم الجديد من جلد أو رجم.

ومما أرجفه المرجفون، أنّهم طرحوا سؤالاً مفاده: لو صح فعل الرجم من النبي عليه السلام فهل كان قبل سورة النور أو بعدها، لأنّهم يفترون ويقولون إنّ الرجم كان قبل نزولها، تطبيقاً لما عند اليهود في التوراة، أما بعد نزولها فترك ذلك باعتبارها تغطي كل أحكام الزنا، وتعتبر ناسخة لما خالفها. وعضدوا افتراءهم هذا بالقصص الآتية: (لما سئل الصحابي عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه “هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟” فقَالَ: نَعَمْ، ثم سئل: “بَعْدَ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ أَمْ قَبْلَهَا؟” قَالَ: لَا أَدْرِي). وحرفوا فاعتبروا جواب الصحابي بلا أدري، نفياً لرجم النبي عليه السلام بعد نزول سورة النور.

والصحيح أنّ الصحابي عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه لم يثبت ولم ينف، وإنّما نفى علمه بما سُئل عنه. ويسقط بذلك هذا الافتراء .. وقد رد ابن حجر في الفتح رداً حاسماً فقال: (وقد قام الدليل على أنّ الرجم وقع بعد سورة النور؛ لأنّ نزولها كان في قصة الإفك، واختُلف هل كان سنة أربع أو خمس أو ست، والرجم كان بعد ذلك، فقد حضره أبو هريرة، وإنّما أسلم سنة سبع، وابن عباس إنّما جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع).
انتهى من فتح الباري. وقد مرت معنا روايات أبي هريرة وابن عباس في الرجم.

ولعل أخطر شيء في مسألة رجم الزاني، موقف المرجفين والمشككين وأصحاب الأهواء من قضية النسخ في دين الإسلام، وهو كموقف الكفار منه تماماً. يذكر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى في النحل: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). يقول: (رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا يَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ).

فكانت آية النحل السابقة، وكذلك قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بمثابة رد على افتراءات المشركين، ومن سار على طريقتهم. ومهما حاول الإنسان أن يتكلم مدافعاً أو مبرراً أو مقنعاً بقضية النسخ فلن يجد إلا الرجوع إلى الآيتين المذكورتين، مستخلصا منهما أنّ النسخ شأن الله، وهو فعال لما يريد، ولا يُسأل عما يفعل، وذلك من لوازم الإيمان.

ومن لم يستكمل الإيمان بمثل هذا التسليم، فسيبقى حائراً ناكصاً على عقبيه. ولذلك لا نعجب حين نرى أنّ بعض الخوارج والمعتزلة هم أول من تكلم في موضوع رجم الزاني المحصن، بل وصلوا إلى إنكاره. ولا يفوتني أن أقول: أنّ كل المتكلمين في رجم الزاني المحصن اليوم، هم من القرآنين الذين لا يؤمنون بالسنة، ومن العلمانيين العقلانيين الذين يقدسون العقل ويزدرون النقل، فماذا نتوقع من أمثال هؤلاء..؟

هذه بصائر فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها .. وإنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد … والحمد لله رب العالمين