كلمة قالها إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل رحمه الله، حين سأله بعضهم عن موقفه من بدعة وفتنة ومحنة خلق القرأن، وكان المتصدي لها في زمانه. قالوا له: كنت تقول: (القرآن كلام الله) ثم صرت تقول: (القرآن كلام الله، غير مخلوق) ثم صرت تقول: (القرآن كلام الله، غير مخلوق، منه خرج وإليه يعود). فقال: (نعم، زادوا فزدنا) أراد، رحمه الله، أن يقول لمن سأله: إنّ المنهج لا يتغير وإنّما يتطور.
استَعَرْتُ مقولة الإمام لتكون رمزاً لرد مفصل، إنّ شاء الله، على سؤال ورد إلي من بعيد، من أخ حبيب، فطن أريب، إلى النفس قريب .. قال: سمعناك وقرأناك تُبْدِيءُ وتُعيد، منذ عشرين سنة أو يزيد، أنّ أزمة المسلمين تتلخص في آيتين كريمتين، كي لا يضيع الحق في كثرة الكلام: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) و (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ). حتى حفظنا عنك، من كثرة الترداد تفسيرك للآية الأولى (كَلَّفَنا ما نُطيق، وتَكَفَّل لنا بما لا نُطيق). ثم نرى، اليوم، عبارات جديدة، تغلب في تردادها تلك التي كانت، مثل عبارات: (غياب الأمة)،(غثائية الأمة)،(استرجاع الأمة)،(بعث الأمة)،(الأمة تأتي بالدولة، وليس العكس)، إلى غير ذلك .. فهل من إضاءة..؟
أستعين بالله وأقول: إنّ المنهج هو المنهج، لم يتغير، ولا يتغير، ولن يتغير، إنْ شاء الله، أبداً، لأنّه مؤصل، وثباته من ثبات ما أُصِّل عليه، إنّه منهج (ما أنا عليه وأصحابي). وهل من تـأصيل قبله، أو تأصيل بعده، وهو الوصية والهدية
التي خرجت من بين شفتيه الكريمتين، بأبي هو وأمي، إلى المسلمين، حتى يرث الله الأرض وما عليها.
وبالتعبير الرياضي، فالمنهج
هو الثابت، وكل صروف الواقع من حولنا هي المتحرك، ولا بُد للمتحرك أنْ يكون مِطْواعاً للثابت، ملتزما ضوابط المنهج وهدي النصوص. ولو عكسنا كان الشرود والانهيار من وجهة النظر الشرعية. أما الليبرالية والعلمانية فمنهجها، ترويض الدين وأهله للإذعان للواقع، تمهيداً لتقليص مرجعية الدين في الحياة المعاصرة، أو إستبعاده بالكلية من الحياة العامة.
أجل المنهج ثابت، ولكنّ المراحل تتغير، بتطور الأحداث والمجريات على الساحة، وكل مرحلة لها نوع من الخطاب، ويبقى المضمون واحداً والأصل ثابتاً. أضرب مثالاً يزيد الإيضاح. في ما مضى كان القول للناس (اتقوا الله) وعظاً يكفي ليصلح حال الناس، لِمَا استقر في نفوسهم، أنّ تقوى الله هي العودة الكاملة إلى دينه. ولَمَّا انتشرت الفرق، وسُوِّغ الاختلاف، وعَمَّت البدع، وصار بعض المسلمين، بل أكثرهم، يعبدون الله ويتقربون إليه ببدع فِرقهم، فالصوفي بصوفيته، والأشعري بأشعريته، والمعتزلي باعتزاله، وهكذا .. وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، ويتقون ربهم..! لم يعد يُشعرهم بانحرافهم أنْ تقول لهم (اتقوا الله)، لأنّ في ظنهم أنّهم متقون..! بل لا بُد أنْ نقول لهم: (اتقوا الله حق تقاته، وعودوا إلى دين الله الحق، ودعوا هذه الفرق المنحرفة).
أما زمن العجائب زماننا، فالصوت الأقوى بين الناس صوت الابتداع، وصوت الاتباع خافت، لأنّ أهله غرباء..! والأشد إيلاماً، أنّ كثيراً من النخب بدأت تتراجع لتنضم إلى الركب العام، على استحياء، وتلتمس مكاناً فيه، مع اعتذار خفي، وكأنّها ضاقت ذرعا بحياة الغربة (وما أحيلاها من حياة لمن ذاقها..!). ورحم الله ابن القيم وقد قال: (فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها ، بل هو آنسَ ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه..!).
فكيف يكون خطاب اليوم إلا أنْ تخاطب الناس بشدة المقال، لبيان الحال، والتحذير من المآل، مستعينا بقوارعَ من الوحي، ولعلهم يرجعون .. فلنقل لهم، بملء الفم ودائماً وأبداً: (…وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة، وفي رواية: ما أنا عليه وأصحابي).
ونكرر على أسماعهم تلك الفقرةٌ من حديث حذيقة بن اليمان، رضي الله عنه: (…فَقُلْتُ هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: (نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا). فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: (نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ). فَقُلْتُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
وهل يصلح لخطاب أهل زماننا إلا هذا..؟ ولعلها الفاجعة أنْ أقول: وفي نخبنا ودعاتنا وعلمائنا اليوم، من يحاول رد هذه الأحاديث أو تأويلها، تمهيداً لطيها واستبعادها من حياة المسلمين .. وبعد: ألسنا بحاجة إلى تطوير الخطاب، وليس تغييره..؟
والكلام وأنت تنشد الإصلاح، وتَسعى للتغيير، وتَتعهد بناء الأنفس، على ما أمر الله يختلف عنه، والعدو بالسوح نازل، يَخرب البيوت والمنازل، وكل شيء إلى الفساد آيل. والنوايا العدوانية تستهدف بلا مواربة إسلام (ما أنا عليه وأصحابي)، الذي ضيعه أهل الإسلام، فدخلوا معاركهم بغير استعداد، ولا إعداد، بل بغير زاد وعتاد، الظهور مكشوفة .. والصدور عارية .. لأنّنا بلا أمة، ولباس التقوى عند أكثرنا خلق، لأنّنا بلا دين يقوم على الاتباع، فما أسهل أن نؤكل، بل نقتل..! نحسب الجولة (فزعة) لإطفاء حريق شبَّ، كالمعتاد، ثم نعود في انتظار جولة جديدة لعملية إطفاء جديدة، في منطقة جديدة، وليس في أنفسنا، وليس في عقولنا، والقادة والنخب قبل غيرهم، في الاتهام، أي تصور عما مضى من تجارب الأمس ونوائبه، فالأمر أبعد من إشعال حرائق، ما دمنا قادرين على إطفائها، لكن من أشعلها لم يردها أصل المكيدة، بل ظاهرة من ظواهرها، تُمَوِّهُ الحقيقة، وتُلهينا عنها، وتعطينا نشوة نصرٍ كاذب، وتشغلنا بسرابٍ خادع.
ولما نتعلم بعد، والمشهد يتكرر، لأنّنا لا نريد أنْ نتعلم! المهم أنّنا لم ولن نفشل في الإطفاء، رغم كل فوضيتنا، ومثالبنا وتناقضنا، فنحن على خير، هكذا يُخيَّل لنا، ويُراد ويُكاد لنا..! وكل يوم يمضي، يُكرِّسُ غيابَ
الأمة، وينسي خطورة غيابها، وركنية حضورها .. فمتى ندرك أنّ المسلمين هم الحالة الوحيدة لانعدام الوزن، على الأرض، والكيان العظيم غائب، إنّه الأمة. والمسلمون يسعون إلى كل شيء من أجل الحياة، إلا حضور الأمة الغائبة، لقد صار نسياً منسيا، فنسوا بذلك مقومات الحياة كما أرادها لهم خالقهم .. حياة تُصلح أمر الدنيا والآخرة، ولا يضبط العلاقة، والتوازن الدقيق بينهما إلا الإسلام الحق، على منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وليس إسلاماً مُبَدَّلاً مزعوماً، مدخولاً..!
والإسلام يُعرِّف نوعاً وشكلاً واحداً متميزاً للأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). أما الاجتماع على المصالح الأرضية وأمر الدنيا فقط، وإنْ سمي تجمعاً أممياً، فمغالطةٌ، كما هو حال أهل الأرض، ويقال له: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى).
هذا أيها السائل الحبيب جواب ما سألت، باقتضابٍ لا يُخل، واستيفاء لا يمل. لم يتغير شيء، فالثوابت لا تتغير، تبقى ثابتة أو تزول .. وما استمرأناه من خلط الحق مع الباطل، والوحي مع الرأي، والتوحيد مع الشرك، والتدين مع العلمانية، بدع عصرية، قامت على أساس فكر الفرق المنحرفة، أفكار من يريدون ظهورها، لتصرفَ المسلمين عن أسباب الحياة، وتُعميَهم عن رؤية طوق النجاة..! وقد زالت تلك الفرق بأسمائها وكياناتها التي ظهرت بها، وعاشت ما عاشت تعيث في أهل الإسلام فساداً، ثم اضمحلت، وخلفت وراءها، وتحت ركامها، أتباعاً يخلف بعضهم بعضاً، في مهمة إفساد الأجيال المعاصرة، ولكن تحت مسميات جديدة خداعة .. ويا للأسف..! ولا زال في المسلمين سماعون ومنخدعون. فإلى الله المشتكى
إنّنا حين ننادي بحضور الأمة الغائبة، وبعثها من جديد، نحدد كما نبديء ونعيد، طريقين إلى ذلك الهدف: التصفية والتربية، والدعوة على بصيرة. والأفراد هم المعنيون بهما، وهل الأمة إلا أنا وأنت، وأخي وأخوك، وصاحبي وصاحبك، ومعنا أهالينا وكل من يوالينا، وبكل هؤلاء تقوم الأمة المتعثرة، وتحضر الأمة الغائبة، ويعود للمسلمين الأمل الضائع، والكيان المفقود، ونبدأ من جديد لتحقيق الموعود، متى..؟ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) .. فهل تغير شيء..؟ وهل عُرف المقصود..؟ أرجو، ويبقى عندك أيها الحبيب، الاستجابة، والدعوة، والدعاء (تَسْمَعُونَ، ويُسْمَعُ مِنْكُمْ، ويُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ) .. وسلامٌ عليك هاديا مهديا…
Top of Form