كُنت في مجلس يضم بعض الأطباء، وكان الحديث لطبيب مُتألق في تخصصه، ومما قال في معرض حديثه: لقد تعلمت ذلك من أستاذي الدكتور فلان رحمه الله وذكر اسماً أجنبياً. فسألته على الفور: هل كان مسلماً؟ فأجاب باستهجان: لا، فقلت: كيف تترحم عليه..؟ أجاب: ما المانع..؟ قلت: رحمة الله لا تنال إلا المؤمنين..! والله يقول: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) .. فلم يُعجبه ذلك، وبدا لي أنّ بعض الحاضرين معه، وطلب إيضاحاً، وعزز طلبه بقوله: هل تـرى أنّ أديسون الذي أنار العالم، وأدار عجلات التطور فيه، بواسطة الكهرباء، في النار؟ أجبت: نعم. فازدادت دهشة المندهشين، والإنسان عدو لما يجهل..!
ولقد تعرضت لمثل هذا السؤال عن عمل الكفار مرات ومرات ولا زلت. والمسألة مستغلقة على من لا حظّ له من دراسة العقيدة الإسلامية، وإن كان يرى نفسه ويراه الناس مسلماً مُطَبقاً.
ولأهمية الموضوع ولعموم البلوى به رأيت الخوض فيه في عجالة:
إنّ الفهم غير الصحيح وغير الواضح لقوله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) ضيّع الفكرة الصحيحة عند بعض الناس يوم حكّموا العقل والعواطف كصاحبنا الطبيب..! وللإيضاح أقول مستعينا بالله:
أجل (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) وذلك من مقتضى عدله تبارك وتعالى. ومفتاح فهم الفكرة أنّ الله يُثيب كل محسن لكنّ نوع الثواب مختلف، ومثوبة الله لعباده على أضرب ثلاثة: مثوبة أخروية، ومثوبة دنيوية، ومثوبة دنيوية وأخروية.
والمؤمن الذي أتى بأركان الإسلام والإيمان قد يتمتع بالأنواع الثلاثة مجتمعة أو ببعضها متفرقة .. لكنّ غير المؤمن لو كان له عمل صالح فأمامه نوع واحد من المثوبة وهو في الدنيا فقط.
وقبل أنْ أسرد الأدلة أُؤكد أنّ المسألة تحكمها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، وقبل ذلك الإيمان. فالله أنزل للناس كتاباً، وأرسل رسولا وأمرهم بأن يُصدّقوا ويُؤمنوا بكل ما جاء من عند ربهم، فإنْ فعلوا فلهم الجنة بفضل الله ورحمته .. وإنْ أعرضوا وكذبوا وكفروا فليس لهم إلا النار، بوعيده وعدله .. لكنّ الإنسان، وقُتل الإنسان ما أكفره، يُريد أن يُعرض ويَكفر ثم ينسى أنّه هو الذي أوبق نفسه وأساء لها (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ).
لكنّ وعد الله بأن لا يُضيع عمل عامل، وعدله في الثواب والعقاب، يجعلان الكافر إنْ أحسن في الدنيا ينال ثوابه وأجره في الدنيا فقط لأنّه في الأصل لم يُؤمن بالبعث، ولا بالجزاء الأُخروي فكيف ينتظر أن يكون له في الآخرة نصيب..؟ والأدلة صريحة بل شديدة الوضوح في المسألة لا تقبل لبساً ولا تأويلا .. وهذه بعض الأدلة:
. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).
. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم:
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثاب عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا ويُجزى بِهَا فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا الْكَافِرُ فيطعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تكن له حسنة يعطى بها خيراً).
وفي حديث آخر صحيح: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ ويُحْسِنُ الْجِوَارَ ويَصِلُ الرَّحِمَ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا قَطُّ: اللَّهُمَّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
وأكتفي بهذه النصوص اختصاراً، فهي واضحة الدلالة على المطلوب .ويلحظ القاريء المدقق أنّه ذكر في آية الإسراء الحالان: حال المؤمن وحال الكافر، فيما يخص الانتفاع بالعمل، زيادة في الإيضاح. ويتجلى عدل الله ورحمته في قوله: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا). وفي تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور التعليق الآتي: (وَهَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ خَلْقَهُ مِنْ أَثَرِ رَحْمَتِهِ حَتَّى الْكَفَرَةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِلِقَائِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ نِعْمَةِ الدُّنْيَا عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَ لَهُمْ وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ : [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] وَقَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي]).
فالأمور الشرعية، وبخاصة ما يخص العقيدة لا تقبل تدخل العقل والذوق والعواطف والمقولات الأرضية، إنّما هي استسلام لما أمر رب العباد، قابلين مُذعنين قائلين: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) … والحمد لله رب العالمين