وردني السؤال الآتي، وأحببت أنْ يكون الرد موسعاً وعلى ملأٍ للفائدة.
يقول السائل: قرأت كثيراً مما كتبت، وما زالت العبارة المتكررة كثيراً (أصحاب منهج ما أنا عليه وأصحابي) غامضة بالنسبة لي، إما لضعف ثقافتي الدينية، أو لكونها جديدة، فما المقصود بها؟ وكيف يمكن الانتساب لهذا المنهج؟ فهل تتكرمون بالبيان؟
بارك الله في السائل الكريم، وإليك هذه السطور، وشكراً لاهتمامك.
أصل العبارة كلام نبوي جاء في حديث الافتراق المشهور: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة) وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي).
وهذا الحديث يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعدد طرقه، فله طرق عديدة عن خمسة عشر صحابياً أو يزيد. ولكن بعض المعاصرين، هداهم الله ، دفاعاً عن الاختلاف، ومحاولة (شرعنته)، وتأكيد أنّه رحمة، تصدوا للحديث سنداً ومتناً، لإبعاده من ساحة العمل ومن حياة المسلمين. ويكفي أن أضرب مثالاً واحداً كنموذج للظاهرة. داعية كويتي، نفى بشدة أنْ يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد الفرقة الناجية، مسايرة وتطميناً لكاتبة يهودية .
وأقول لكل من له موقف من حديث الافتراق، غير الموقف الذي يفرضه العمل بظاهر النص، وذلك من أصول دين الإسلام، أقول لهم: ها أنتم تجرأتم على الحديث ودلالته، فما موقفكم من الآية التي تحمل دلالة الحديث نفسها، بل لا شك أنّها أصل له: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
ولا أحب أنْ أترك الحديث قبل وقفات معه للفائدة:
الوقفة الأولى: إنّ الحديث، وهو من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، يُؤكد حتمية الافتراق وأنّه واقع لا محالة، بل إنّه قد وقع. وما ذاك منه صلى الله عليه وسلم إلا تحذير لأمته من أنْ تقع في براثنه، فتفارق دين ربها باتباع السُبل المضلة، كما حدث في أمم سابقة. ذكرها ربنا مُحذراً المسلمين من اتباع نهجهم. ولنقرأ قول ربنا: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ).
الوقفة الثانية: لمّا ذكر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الافتراق محذراً من السير في طرائقه، بيّن صلى الله عليه وسلم سبيل النجاة، وطريقة اتقاء المصير المحتوم للافتراق الذي هو النار. كيف لا وهو، بأبي وأمي، الدال لأمته على كل خير، الآخذ بحجز أبنائها عن النار! إنّه الانتماء إلى الفرقة الوحيدة الناجية من أصل ثلاث وسبعين فرقة.
الوقفة الثالثة: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنّ الفرقة الناجية واحدة. ومن قال إنّها اثنتان أو خمس أوسبع أو سبعون، فقد احتمل بهتاناً وإثماً كبيراً، لأنّه افترى على الله ورسوله. ومن يرضى لنفسه هذا الموقف إنْ كان مسلماً حقاً يُريد النجاة؟
الوقفة الرابعة: إنّ إنتماء المسلم إلى هذه الفرقة الناجية الوحيدة، ليس اختيارياً، إنّما يجب عليه وجوباً شرعياً. وأي اختيار آخر هو اختيار النار، وبئس المصير.
الوقفة الخامسة: ذكر العدد في الحديث له مدلوله، وهو بيان أنّ الحقّ لا يحظى أتباعه إلا بالنسبة الأدنى بين البشر، وهذه قاعدة مُطردة ثابتة، أما الحكمة منها فلا يعلمها إلا الله. وقد يكون من بعض جوانب تلك الحكمة، التي قد ندركها بعقولنا، فتنة الذين في قلوبهم مرض، فينجفلون إلى الكثرة، دون تبصر، فترديهم ظناً منهم أنّ الكثرة دائماً على الصواب ومآلها إلى النجاة.
والحكمة الثانية أنّ الله تبارك وتعالى يربأ بكل عبد مسلم أنْ يكون تدينه تدين القطيع، يرى الكثرة فينخرط فيها دون تدبر. والله يريد من عباده تدين التبصر والتأمل والاتباع. وليس بعد قول ربنا تبارك وتعالى من قول في ذم الكثرة وتدين القطيع: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). ولندقق في نسبة النجاة والفلاح إلى الخسران والهلاك. إنّها حسب نص الحديث واحد إلى ثلاثة وسبعين .. فالحق غريب دائماً.
الوقفة السادسة: إنّ النبي عليه السلام لم يُعَرِّف تلك الفرقة الناجية باسم حتى لا تُتَّخَذ شعاراً، ويُصبح الانتماء لها تشريفاً، وهو انتماء ظاهري لمضمون غامض. إنّما عرفها بوصف محدد واضح، لا يُخطئه عقل أو نظر من تجرد عن الهوى والميل. وصفها بجملة جامعة، مانعة، مقتصدة في الحروف، مستفيضة في المضمون، لا يزيغ عنها إلا هالك (ما أنا عليه وأصحابي). دلالة ما بعدها دلالة، في الوضوح والتوصيف والتحديد، كيف لا، وهي من كلام النبوة. وهي هدية السماء إلى أهل الأرض. ليشكل كل مسلم نفسه وتدينه على ما يوافق ذاك الوصف النبوي، فالنجاة فيه وليس في سواه مما أفرزته عقول أهل الأرض.
ثم نأتي إلى السؤال: كيف يصبح المسلم منتسباً إلى منهج النجاة (ما أنا عليه وأصحابي)؟
إنّ السنين الطويلة التي عاشها المسلمون، في نصف القرن الماضي، راجت فيها ثقافة التنظيمات الحزبية (الإسلامية)، وبرزت ظاهرة (الإسلام السياسي)، أو ما كان (معادلاً موضوعياً) لها، وهو (التجمعات المشيخية)، وكانت واضحة الظهور في دمشق وبعض المدن السورية الأخرى، وضوح سابقتها بشكل ملفت، ما ترك أثراً باقياً على تصور كثير من الشباب، إلى حد القناعة أنّه لا سبيل لخدمة الدين، وإقامته في النفس، والمجتمع إلا بانتماء حزبي، أو انضواء مشيخي. وليست القاعدة المشيخية (من لا شيخ له فشيخه الشيطان) بخافية. والحزبيون يعملون بها مع التعديل!
وقد رافق ذاك الواقع غياب التأصيل الشرعي المنبثق عن التزام الوحيين، ونبذ ما سواهما. أما وقد بدأ يظهر، والحمد لله منهج العودة إلى الوحيين، وإبراز أنّ النجاة والسلامة والفلاح في الدارين منحصر في ما أرشد إليه نبي الأمة، وليس إضاعة العمر في ما سواه. فأقول: إنّ الانتماء إلى منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أبعد ما يكون عن المفهوم التنظيمي الحزبي الذي في أذهان الكثير من الناس، لا سيما الشباب، لمُعايشتهم (الإسلام السياسي) أو (التجمعات المشيخية) سنين عدداً. وقبل أي كلام أقول: إنّ التزام منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وتأسيس التدين عليه فقط، واجب شرعي، لا تبرؤ ذمة مسلم إنْ نَأى عنه، وتكون عاقبته خسراً .. والسبيل إلى ذلك الآتي:
أولاً: أنْ يستيقن المسلم ثبوت حديث الافتراق، ومعناه ومضمونه، دون تأويل ولي لعنق النصوص، واستبعاد كل التشويش والتشويه الذي أُريد له أنْ يكتنف الحديث. وأنّ هذا الحديث جاء بالتعريف بالداء، وإعطاء الدواء في آن معاً. فقد بدأ الكلام النبوي بالحديث عن الافتراق، وانتهى بتوصيف الفرقة الناجية التي فيها الخلاص. ولا يُعين، بعد توفيق الله، إلا التحرر من أي انتماء أو ميل إلى فرقة أو اتجاه مما يرفضه الحديث، والاستسلام الحقيقي للوحي.
ثانياً: الإيمان بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنّ افتراق الأمة حق وأنّه وقع، وأنّ هذا الافتراق ليس كما يقول بعض الدعاة إنّه افتراق تنوع، وليس افتراق تضاد، ويا للأسف.. إنّه والله افتراق تضاد مذموم، وإنّه مقتل الأمة، وليس رحمة، وقد وقع .. ولولا ذلك لما حذّر النبي عليه السلام منه.
ثالثاً: إنّ النبي عليه السلام زيادة في تحذير أمته من الافتراق، وتوضيحاً لسبيل النجاة من شر الافتراق، حدد دون لبس أو غموض أنّ الفرقة الناجية عند الله واحدة. وليس لأحد أنْ يُلحق بها ثانية وثالثة وعاشرة.
رابعاً: إنّ وصف النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الفرقة الناجية غاية في الوضوح والبساطة، لمن يُسِّر له بنيته. وإنّه وصف موقوف على النبي عليه السلام وليس لعقل بشري فيه إسهام أو تدخل. إنّه يُحدد دين الإسلام بما كان عليه هو وأصحابه، وما لم يكن معروفاً عند أولئك القوم، فليس مقبولا عند الله وليس دينا. ورحم الله ابن تيمية صاغ ذاك المعنى بعبارة رائعة: (الدين ما مات عنه محمد صلى الله عليه وسلم)، بعيداً عن التكلف والغموض والفلسفة والظاهر والباطن. وبساطة العبارة ناطقة تقول: إذا كان الدين وحي الله، فبموت محمد عليه السلام، انقطع الوحي، فيكون كل ما يُدْخَل في الدين بعد موت النبي عليه السلام مصدره عقل بشري. وبالتالي فهو باطل غاية البطلان، لأنّ الدين لله وحده.
خامساً: فإذا أدرك المسلم هذا العلم، لا يسعه بعد ذلك إلا أنْ يُعاهد الله، ويعقد العزم، على العمل بما علم، حتى يُبريء ذمته عند ربه، ولا براءة للذمة بغير (ما أنا عليه وأصحابي). ويغدو الانتماء إلى ذلك المنهج المبارك (ما أنا عليه وأصحابي) منحصراً في العلم والعمل، وهما متلازمان، ويجب أنْ يظهر ذلك بوضوح في كل شأن من شؤون المسلم، اتباعاً والتزاماً وبهذا يكون الانتماء، فالانتماء تطبيق وليس غير ذلك. وليس في بني البشر من له سلطة المحاسبة، أو طلب كشف الحساب، إنّما الضابط (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) و(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ).
ولا بُد من نصيحة أخيرة أيها الأخ السائل: إنّ التزام منهج (ما أنا عليه وأصحابي) يصاحبه شعور بالغربة بين المسلمين، الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وخلطوا الوحيين بأقوال الرجال، وأحلوا التقليد محل الاتباع، ونبيك يقول (طوبى للغرباء، ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) . فوطد نفسك على ذلك.
وفقك الله للحق والخير، وألزمك كلمة التقوى، وأنار بصيرتك وبصرك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.