Skip to main content

فَانْظُرُوا مَا هُمُومُكُم

By الخميس 5 ذو القعدة 1436هـ 20-8-2015ممحرم 21, 1441مقالات

دُوْمَا … اليوم، جرح وألم وخذلان، ولا نستطيع أنْ نقول إنّها الأسوأ حتى الآن .. فالسنوات الخمس المنصرمة شهدت الأفظع .. لكنّه النسيان، وقد يكون الاعتياد والإلف، ما يعني أنّنا، نحن السوريين، ومن ورائنا إخواننا العرب والمسلمون، أصبحنا في حالة غريبة خطيرة، من الغياب غير الطبيعي، عن الواقعة أو النازلة! نحتاج معها إلى صرخة توقظ النائم، تنبه الغافل، تحرك الساكن، وتنذر الآمن، أو بعبارة أشد، تعيدنا إلى الوعي.

وللذي يعترض ويعتبر ما أقول تجنياً واتهاماً، أقول: إذا كنت تعتقد ما يقال ويصور في الفيسبوك، وما يغرد به في التويتر، وما تسمعه في الأخبار، صحوةً وحضوراً وفعلاً، فما فهمت مرادي أيها الأخ. ورحم الله أول من أوجد مصطلحاً معبراً عن ممارسات تسود في الناس أحياناً، وهو مصطلح، بالعامية الشامية (حرب النضارات)، وهل كان يدري أنّها ستكون يوماً ما دَيْدَنَ النخب في المسلمين..؟. ألصق وصف يعبر عن واقع المسلمين اليوم، أنّهم في معركة وجود، لم تعد لها العدة، والأمة غائبة عنها.


ماذا أقول يا دُوما، بل يا سوريا، بل يا أمة الإسلام الغائبة .. ماذا أقول وقد كثر المتكلمون والناصحون والمنظرون والمفكرون..؟ فهل بقي شيء لم يقل..؟ إنّ كل ما جرى عالج الأزمة بالضغط على الأزرار غير الصحيحة وغير المناسبة..! وخاطب على تردد لم يلتقطه أحد! واستنهض، في النفوس كل شيء، إلا واحداً لا ينفع مع غيابه شيء..!

نعم، بقي صوت لم نسمعه، ولو سمعناه فقد لا نعيه، إذاً يكون لزاماً أنْ نجعله موضوع مناقشة .. يقول: مالك بن دينار: (إِنَّ الأَبْرَارَ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِأَعْمَالِ الْفُجُورِ، وَاللَّهُ يَرَى هُمُومَكُمْ، فَانْظُرُوا مَا هُمُومُكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ).

مالك بن دينار لم يعش محنتنا وأزمتنا، بالعمق الذي ندعيه لأنفسنا! لكن أتى بالحل المناسب وزيادة. لأنّه الحل الذي اعتاد المسلمون الأوائل التعامل مع مشكلاتهم، مهما كان حجمها، من خلاله. ما هو؟ الكلمة المفتاح لفهمه، لفظة (همّ)، بمعنى أنْ تصبح المشكلة هماً، في كل نفس. تأكل وتشرب، وتنام وتصحو، مع الإنسان، فيصِحُّ عندها أنْ يقال: إنّه صاحب مشكلة، يحمل همها، فهي إذن على طريق الحل.

وحين تكون المشكلة من الناحية النظرية وفي الأحاديث أُمَّ المشاكل (مستعارة من أم المعارك)، أما في واقع الأمر، فانقطاع التيار الكهربائي، وغلاء الأسعار، واختفاء بعض السلع من السوق، وتعذر السفر لقضاء الإجازات، في نظر الناس مشكلات أكبر، وأحوال أخطر .. فكأنّنا نقول للعدو، أياً كان، أبشر بطول سلامة! وللمشكلة عيشي معنا، ولن تجدي إلا حسن الجوار..!

وتذكرني كلمة مالك، بعبارة تلتقي معها، وهي الشكوى التي كان يطلقها عمر رضي الله عنه (اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة). فاللهم إنّا نشكو إليك عجز أمتنا، وهل من أحد يماري في عجز أمة الإسلام..؟ إذا كانت أمة غائبة، ألا تكون عاجزة خائبة؟

وحين يتحدث مالك بن دينار يستدعي إلى أذهاننا معادلة الوضع الصحيح الذي يجب أنْ يكون بين المسلمين وأعدائهم .. المسلمون المؤمنون يحملون في صدورهم هماً واحداً، يُكْفَوْنَ مقابل حمله، من ربهم كل هم. عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ. سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ}). أما إذا تبادل المسلمون مع أعدائهم الأدوار، فهل تكون النتيجة غير ما ترى العين، وما تسمع الأذن في بلاد المسلمين..؟


ولعل مسألة الهموم تحتاج إيضاحاً أكثر. والأمثلة تتولى ذلك إنْ شاء الله:

. أسرة، مسلمة، لديها ابن أو بنت في البكالوريا. يصبح هذا الهم الأكبر للأسرة كلها، لأنّه أو لأنّها على مفترق طريق .. ولو سألنا تلك الأسرة ما هو التقدير الذي يستحقه ابنكم أو ابنتكم في التزامه الديني؟ لتلعثم الأب، ولأطرقت الأم، ثم تفاجؤ بالجواب الصاعق، السؤال سابق لأوانه .. لأنّ فيه، طبعاً، إخلالاً بسلم الأولويات عند الأسرة! فنجاح الولد أو البنت هو الهم. وما سوى ذلك يهون.

. تاجر، مسلم، في استنفار لكل شيء، من أجل صفقة قد تكون ضربة العمر، هذه هي المشكلة الكبرى، بل الهم ، أما هل الصفقة شرعية، في سلامتها من الربا فمشكلة ثانوية، الآن، وقابلة للحل.

. فتاة، من أسرة مسلمة، تُخطب، وكل المعطيات ما بين جيد إلى ممتاز. تجتمع الأسرة كلها للمداولة واتخاذ القرار. فينبري مستضعف في الأسرة ليسأل، لم نسمع شيئاً عن دين الخاطب، فيجاب بالعموميات لا بأس (والشَّبْ حبَّابْ كتير)، فإنْ ثنَّى بسؤال، هل يصلي..؟ نظره الجميع شزراً، وقال كبير الأسرة أو كبيرتها، (مو مشكلة، بيرقع، ومع الأيام بيصير)، وترفع الجلسة بعد الموافقة بالإجماع، ويخرج المسكين المستضعف، لا يلوي على شيء، ليتذكر أنّه من الغرباء (من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم). لقد فاته أنّ زواج البنت عند الأسرة، هم، وما سوى ذلك مشكلة تحل.

ولننطلق من نطاق الأُسًرِ، إلى فضاء الأمة لتطبيق فكرة الهم، فنقول: إنّ الهمّ الذي يجب أنْ يسكن قلب كل مسلم اليوم، أنّ الأمة غائبة فكيف تعود؟ لأنّ كل مشكلات المسلمين على تنوعها، من هنا تبدأ، وهنا تنتهي.

. في السياسة: فالأمة قبل كل شيء كيان وجماعة، ويد الله على الجماعة، ولا يعترف الإسلام والمسلمون بأي جماعة، سوى الأمة الواحدة، وللأمة إمام وليس أئمة .. وصية النبي عليه السلام لحذيفة (إلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، جماعة واحدة لا جماعات، وإمام واحد لا أئمة. وإلا (فاعتزل تلك الفرق كلها)، وصدق رسول الله .

. في الاقتصاد: فالفتاوى المالية في كل البلدان الإسلامية، تلتف حول النصوص الصريحة والصحيحة لتوافق النظام الغربي، وهي محاولة أسلمة. وكأنّ لسان الحال يقول: (لا اقتصاد بلا ربا). لكنّ الأمة الحاضرة حقيقة، تـقدر على إيجاد نظام اقتصادي، يصبح الغرب عالة عليه، وقد رأينا الشواهد والنذر، ولا حاجة لإسهاب. والأمة الحاضرة لا تجمع على ضلالة، والأفراد المبعثرون في غياب الأمة، قد يجمعون على ضلالة، ويفترقون على ضلالات! فالأمة إنْ حضرت عصمة.

. في أمور المعاش: انفتح المسلمون على كل شيء في العالم، وزيارة المولات صرعة العصر. وعلى رفوفها، كل شيء موجود في أي بلد غربي. وكلام طويل، وجدل كثير، حول الحل والحرمة، ولا يصدر ذلك عن فراغ، لكنّه لم يصل لتنوعه، وتضاربه إلى حد الاطمئنان للأخذ به، ولقلة الموضوعية، وسلطان العصرنة، عند الباحثين .. مأكولات ومشروبات ومنظفات وصابون وشامبو ومستحضرات تجميل، حتى أكلات الأطفال الطيبة، كل ذلك حوله كلام، وأؤكد أنّه لم يخرج من فراغ، ونتائج البحث، أيضاً حولها كلام، ولا يصدر من فراغ. واستهلاك كل ذلك من قبل المسلمين، في ازدياد يومي .. لا أريد تشكيك الناس، حاشاي. ولكنّ حضور الأمة ضمان السلامة، والأمة لا تحابي أحداً ولا تناكف أحداً، لأنّها لا تريد إلا صلاح الدين، ولا تنطق إلا باسم الدين وأهله.


أمثلة لتقريب المعنى ليس إلا، في أنّ أي خطة، أو جهد للإصلاح يجب أنْ يبدأ باستعادة الأمة الغائبة .. فلنوحد همّنا، ولنعش له، وكفانا فرقة وضياعاً. لا حياة للمسلمين إلا بأمة، تَلُمُّ شعثهم، وتُسَيِّجُ وجودهم، وترعى مصالحهم. وأهم ما يعد لعودة الأمة الزمن، إذن لا يحسن ذلك ، ولا ينجزه المتعجلون .. والسلاح فيه الدعوة على بصيرة، والتصفية والتربية، ولا يملك ذلك إلا العالمون. فهل أنتم عاملون..؟ وهل وصلت الفكرة..؟ أرجو ذلك…