Skip to main content

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ

By الخميس 12 جمادى الأولى 1438هـ 9-2-2017ممحرم 21, 1441مقالات

الواقع يشهد أنّ المسلمين في شتى بقاعهم، منغمسون أكثر مما ينبغي في عالم المادة، ولا يعتبر هذا حالا خافية تتطلب كثير عناء لإدراكها .. فالظاهرة أوضح من أن تخفى .. وجاءت وسائل أو وسائط التواصل الاجتماعي لتعطي شهادات من الناس على واقعهم، موثقة مكتوبة، وبالتالي لن يكون وجود هذه الظاهرة، والحديث عنها تخرصاً وتكلفاً.

والظاهرة في ذاتها ليست مشكلة أو انحرافاً .. إنّما المشكلة والانحراف في خروجها عن الضوابط الشرعية، واستدرارها الفتاوى الجائرة، التي تود إخفاء الانحراف الشرعي في الممارسات المالية، وإيجاد الحلول الشرعية التبريرية، مسايرة لواقعٍ عالمي، بات الكثيرون يعتبرونه ضربة لازب. وهذا سبب خروج الفتاوى الجائرة.

وللحق نقول إنّ ضبط الأمر وإبقاءه ضمن الرؤية الشرعيية ليس سهلا أبدا، فالنظام المالي العالمي السادي، يصادم تعاليم الإسلام في كثير من مضامينه، وتطبيقاته .. وحتى اللحظة كانت كل المحاولات للإصلاح (ترقيعيَّة)، وفشل حتى الآن إنجاز نظام مالي إسلامي متكامل، يستوعب كل متطلبات العصر، ويرتكز على النصوص .. وليس ذلك مستحيلا، لكنّه معقد ودقيق، ويحتاج عملاً جماعياً، ومؤسَّسيا متخصصا، مُتابَعا بإلحاح وإخلاص..! والتطور السريع، والحاجات الملحة، سبقت هذا الإنجاز المنتظر، ولا بد من القول: إنّ التقصير موجود على كل الأصعدة.

وأنا الآن لا أتصدى للمعالجة، فالمشكلة أكبر من الأفراد وقدراته، كما ذكر آنفا .. لكنّني مذكرٌ لناسٍ أو غافلٍ أو متساهل. ومستنهضٌ عزائم الأفراد المشتغلين بالمال، ومسؤولياتهم الفردية، في أن يَدَعوا ما يَريبُهم إلى ما لا يَريبُهم، فتضيق مساحة المخالفة، ويعود الحسُّ الشرعيُّ، بالحلال والحرام، لمن أوشكوا أن ينسوه، لما صارت المخالفات أكثر وأعم من تطبيق النصوص.

إنّ المسؤولية الفردية في الإسلام لها دور كبير في تعويض تراجع المسؤولية الجماعية إن ضُيِّعت، وإيجاد المثل والقدوة في الالتزام يوم يتجه الواقع إلى التفلت. ونرى هذا الأمر واضحاً في أداء العبادات على الوجه الشرعي وليس البدعي، وفي حجاب المرأة، وبعض التعاملات المالية، فلا تخلو المجتمعات من قائم لله بحجة، يوم غاب الأمر بالمعروف والنهي عن النكر في كثير من مفاصل الحياة الإسلامية .. وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة لأهمية وخطورة الدور الفردي منها (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) و(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا)، وفي الوقت نفسه، التقليل من شأن جماعية الانحراف، وأنّ الكثرة لا تعني الصواب (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

وما أروع تلخيص ابن مسعود للفكرة بأوجز عبارة: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك) .. ولقد أثبت الواقع أنّ العمل الجماعي يضعف الاستشعار الفردي للمسؤلية، والإسلام العظيم ضبط الأمرين معاً، الفردي والجماعي، فلكل واحد تبعاته، والحسابُ دقيقٌ.

ومما يجعل الموضوع المالي مُهماً في الاسلام ويحتاج الملاحظة والمتابعة والإصلاح، قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح الجامع: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمتي المالُ). وهل كلمة (الفتنة) في الدين بسيطٌّ أمرها..؟ ولنذكر واحدة من الآيات التي ذكرت فيها كلمة الفتنة: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

ومما يندرج في هذا السياق، سياق فتنة المال، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). وهو مخرج في السلسلة الصحيحة وغيرها من كتب الشيخ الألباني رحمه الله.

ويعلق الشيخ الألباني رحمه الله على الحديث في بعض كتبه فيقول: (فقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا تبايعتم بالعينة}؛ إشارة إلى نوع من المعاملات الربوية ذات التحايل على الشرع.

وقوله صلى الله عليه وسلم: {وأخذتم أذناب البقر}؛ إشارة إلى الاهتمام بأمور الدنيا والركون إليها، وعدم الاهتمام بالشريعة وأحكامها. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: {ورضيتم بالزرع}.

وقوله صلى الله عليه وسلم: {وتركتم الجهاد}؛ هو ثمرة الخلود إلى الدنيا، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.

وقوله صلى الله عليه وسلم: {… سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم}؛ فيه إشارة صريحة إلى أن الدين الذي يجب الرجوع إليه هو الذي ذكره الله عز وجل في أكثر من آية كريمة ، كمثل قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضت لكم الإسلام دينا}. وفي تعليق الإمام مالك المشهور على هذه الآية ما يبين المراد، حيث قال رحمه الله: {وما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها}).

ومن الأحاديث التي ينبغي أن تذكر في معرض الكلام عن فتنة المال؛ قوله عليه الصلاة والسلام: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِى السَّاقَةِ كَانَ فِى السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ). رواه البخاري

قضية المال تستحق من كل مسلم أن يوليها أدق اهتمامه، وأن يكون منها على حذر شديد، مخافة أن يستدرجه فيها الهوى فتزل به قدم، فهي منطقة مغرية زلقة، ولنتذكر تحذير نبينا السابق: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمتي المالُ) .. إنّ أمر المال يتجاوز، في خطورته في حياة المسلمين، الأفراد ليكون فتنة للأمة كلها .. ولعل الغفلة هي السائدة بين المسلمين، وما أحسبهم إلا بحاجة إلى معالجة بالصدمة، وذلك ليس اختياري، بل هو حديث نبيكم ليُعَرِّف المسلمين بحقيقة المال الذي فيه ينغمسون، وإليه يتسابقون، ومن أجله يختصمون ويتدابرون .. وأختم بهذا الحديث:

(تَقِىءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَجِىءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِى هَذَا قَتَلْتُ. وَيَجِىءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ فِى هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِى. وَيَجِىءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ فِى هَذَا قُطِعَتْ يَدِى ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا).

ولنتواص بأن ندعو بهذا الدعاء قبل طي الملف: (يا شداد بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم إنّك أنت علام الغيوب) .. والحمد لله رب العالمين