كانت جلسة أقرب إلى أن تكون صاخبة، مع حرصي أن لا تكون لسببين: عامل السن عندي، ويزيد عليه، أنّي قد مللت الخوض في ذاك الحديث، أعني الشأن السوري، بل المنطقة بأسرها .. وما أصابني الملل، ولا أقول اليأس، إلا حين وجدت مع كثرة الخوض أنّ ظاهرة (الهوى المطاع، والشح المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه) صارت السمة الغالبة، مع غياب صحة الاستدلال .. ويوم طلبت برجاء إيقاف الحديث، واستبداله بما هو نافع .. قيل حبذا لو تلخص لنا موقفك بهدوء، وبدون مناقشة من الطرف الآخر .. فاستجبت، وفتحت الحاسوب وقرأت لهم مسودة لهذا الموضوع، وهي التي تحوي النقول التي لا يمكنني إيرادها من الذاكرة، لكثرتها .. وكان ذاك المجلس محرضاً على إخراج هذا الموضوع للنشر.
أقول لا بد من أسطر بين يدي الموضوع، أُضمنها الخلفية الواضحة، عندي، والتي بنيت عليها موقفي لأريح الكثيرين من التخرص والظنون .. وبملء الفم أقول: لا أحب أبداً أن أُحسب مع طائفة آثروا الغياب عن مشاهد (الربيع العربي) بعلل شتى شرعية وغير ذلك .. ولم أشأ أن تختلط عندي الأوراق، فأجدني مؤيداً، أو ساكتاً عن الظلم غير المسبوق الذي ساد لنصف قرن في البلاد التي اجتاحها (الربيع العربي) .. ورفضت بشدة أن أفعل ذلك من موقع شرعي، فأظلم الإسلام، وأقدمه للمظلومين ولكل الناس أنّه يحمي الظلمة الطواغيت، كما حدث لغيري ممن كنت أتمنى ألا ينزلقوا .. وفكرت وتدبرت وحددت موقفي الذي أكثفه في الآتي:
(إني منذ اليوم الأول لانطلاقات ثورات الربيع العربي عموما، وفي سوريا خصوصا، أعلنت موقفي، موقف أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وهو أنا مع الحراك الشعبي المتظلم، حراكاً سلمياً، ومن كل مكونات الشعب، بعيداً عن كل شكل من أشكال العنف، ولو قوبل بالعنف، ورفضت أن يسمى ذلك التحرك بأكثر من (ثورة مظلومين) .. وببيان أكثر كنت لا أرى أن يسمى ثورة إسلامية، ولا القتال فيه جهاداً ... ولا زلت على هذا، والتفصيل الزائد لا يتسع له المقام.
وما جرى ويجري، بفعل الربيع العربي، لا غنى للمسلمين عنه وبخاصة، أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) … لذلك لم يقفوا موقف المتفرج، بل آزروا وشجعوا، وفي أضعف الأحوال، لم ينكروا أو يُخَذِّلوا … فقد كانوا على يقين أنهم جزء ممن أصابهم القرح، طيلة نصف قرن، وإن لم تكن معاناتهم كغيرهم فهي الأشد والأدهى..! وقد أعانهم على نضج موقفهم أنهم كيفوا الحراك على أنه حراك مظلومين، قاموا ينتصرون بعد ظلمهم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، والنبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد) ، وليس حراكا لإقامة دولة الإسلام كما توهم أو (غالط، ويغالط) بعضهم … وقد يَجْنُون من حراك الربيع العربي ثمرة الحرية التي غابت عنهم طويلا، كما غابت عن غيرهم، والتي تسبب غيابها في إعاقة حركتهم في الأرض، وحجبهم عن دورهم الذي أناطه الله بهم، وهو الاستخلاف في الأرض. لكنهم لن يكملوا الشوط، مع الربيع العربي، إلى آخره، بل سيغيروا الوجهة، لاختلاف الرؤى … فالتغييرات السياسية الحالية ليست هدفهم، ولاتعنيهم، إنما همهم وغايتهم تغييرات أعظم، وأشمل، بعيدا عن منطق الثورات، وإسالة الدماء، وإثارة العداوات، وأساليب التحاصص والتنافس، واستنساخ ديموقراطية الكفر الزائفة في ديار المسلمين..! إنه الهدف العظيم والمشروع الكبير؛ بعث وإحياء الأمة الغائبة أو الغثائية، بردها إلى الوحيين اللذين شردت عنهما بعيدا وطويلا، عن طريق الدعوة على بصيرة، والتصفية والتربية. وبعد تحقيق الهدف تبدأ عملية البناء .. وعدتهم على ذلك الطريق الطويل عون الله ونصره، ما داموا ينصرونه .. ولقد بثثت في الشباب وقتئذ مئات المرات هذا الشعار: (للحراك السلمي في سوريا مقتلان: أَسْلَمَتُهُ وعَسْكَرَتُهُ)). وها
هو الواقع يشهد .. وإلى الموضوع بعد مقدمة طالت.
حين تتقاطع الخطوط، وتطيش السهام، ويُقتل الصديق بنار الصديق، وتتعدد الرايات، وتتخالف الجهات، وتُتَراشق الاتهامات، وتتعدد الانتماءات، ويظهر الاصطفاف وفق الولاءات، فيعم الخراب، وتسيل الدماء بغير حساب، ولم تعد البراهين ضرورية لتثبت أنّ هذا الواقع ليس من الإسلام في شيء، وأنّ على كل مسلم يريد الله والدار الآخرة أن يكون له موقف، يلقى الله عليه .. فكيف السبيل إلى ذلك؟ فلنعد إلى التاريخ وأي تاريخ؟ تاريخ من عاشوا بالإسلام وللإسلام وماتوا عليه .. أما أخبارهم فلم تصل إلينا مصبوغة بأهواء الرواة، وإنّما جاءتنا منضبطة بقواعد التحديث.
فلا يخفى على مسلم أنّه قامت في زمن الصحابة رضي الله عنهم خلافات وصلت حد الاقتتال فيما بينهم .. ولا بُد من القول، إنصافاً لذاك الجيل الفذ العظيم، جيل الصحابة، وقطعاً لألسنة الشر التي تُحاول أنْ تنال منه في كل زمان، وهي اليوم أشد ما تكون: إنّ ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم لم يكن خلافاً في الدين، ولم يكن كذلك خلافاً على دنيا، إنّما كان خلافاً على مواقف واجتهادات سياسية كل يرى أنّها لمصلحة الأمة
الإسلامية واستقرارها. فيُعارض من أجل سلامة الدين، وقد يُقاتل من أجل ذلك، وكل أشكال الهوى و(الأنا) كانت مستبعدة غائبة .. ولقد أوضح ذلك بجلاء تام، ومثلٍ معبرٍ واضحٍ الصحابي، خالُ النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وهو ممن اعتزل تلك الفتن: (إنّ مثلنا وأصحابنا كرفقة طريق ساروا، فلما أظلمت لم يعودوا يحسنون التوجه فسار كل في اتجاه يظنه، وجلسنا ننتظر الصباح فرأينا أنفسنا على الأمر الأول). فلم يكن خلافاً في الدين، فالدين لديهم واضح، ولم يكن خلافاً من أجل دنيا فقد كانوا أزهد الناس فيها، وقد وضعوها وراء ظهورهم .. وإنّما كان خلافاً على التعامل مع نوازل نزلت، وتعجلٍ في اتخاذ المواقف قبل أنْ تستبين، وما أروع استعمال سعد رضي الله عنه لعبارة: (الأمر الأول) وهي تعني ما كان في الوحيين، وتشبيهه بالصبح في وضوحه وعدم خفائه.
إذن كانوا جميعاً بين الأجر والأجرين، مجتهدٌ مصيبٌ وآخرُ مخطيءٌ. لكن وُجد الموقف الثالث الصحيح بينهم رضوان الله عليهم أجمعين، وهو اعتزال الفتنة، والأطراف الضالعين فيها، وعدم الميل إلى فريق من أهل النزاع حتى يستبين الأمر. وموقف الاعتزال ذلك له مدلول عظيم إضافة لكونه شهادة فهمٍ وتبصرٍ لأهله .. فهو مؤشرٌ واضح كل الوضوح أنّ خلاف الأطراف المتنازعة لم يكن عقدياً أو فقهياً أو شرعياً، ولو كان كذلك لما كان موقف الاعتزال والحياد صحيحاً ولا شرعياً، بل ولا ينبغي أنْ يكون منهم، لأنّ أمور الدين كانت واضحة جداً عند الصحابة فلا يختلفون عليها ولا يقتتلون .. ومن تلك المواقف:
. موقف الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، فقد جاء في خبر صحيح الإسناد أنّه قيل لسعد: (ألا تقاتل، فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان، ولسان وشفتان، يعرف الكافر من المؤمن، وقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد، ولا أبخع نفسي إن كان رجل خيرا مني).
وورد أنّ أحد أبناء سعد بن أبي وقاص قال لوالده: (نزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك، فضرب سعد صدر ولده عمر وقال له: (اسكت سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)). وفي رواية لأحمد بن حنبل أنّ سعداً قال لابنه عمر: (أي بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأساً، لا والله حتى أعطى سيفاً إنْ ضربت به مؤمناً نبا عنه، وإن ضربت به كافرا قتلته، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يحب الغني الخفي التقي)).
. (وأما محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه: فقد اعتزل موقعتي الجمل وصفين واتخذ سيفاً من خشب عملا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفا من خشب) وخرج من المدينة إلى بادية الرّبذة وأقام بها).
ومعروف أنّ محمد بن مسلمة هو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تضرّه الفتنة) وفي رواية: (لا تضرّك الفتنة).
وفي رواية للتابعي أبي بردة بن أبي موسى أنه مر أيام الفتنة بمحمد بن مسلمة بالربذة، فقال له: (لو خرجت إلى الناس فأمرت ونهيت، فقال له: قال لي النبي عليه الصلاة والسلام: (يا محمد ستكون فرقة وفتنة واختلاف، فاكسر سيفك، واقطع وترك، واجلس في بيتك) ففعلت ما أمرني).
. وجاء عن أسامة بن زيد رضي الله عنه وكان ممن اعتزل الفتنة: (أنه أرسل مولاه حرملة إلى علي بن أبي طالب زمن الفتنة، وقال لمولاه، إنه يسألك عن تخلفي عنه، فقل له يقول لك: (لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، لكن هذا الأمر لم أره).
هل بعد تلك الصراحة من صراحة..؟
وفي رواية: (أن عليا لقي أسامة رضي الله عنهما فقال له: ما كنا نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة، فلم لا تدخل معنا أي في القتال فقال له: يا أبا حسن، إنك والله لو أخذت بمشفر -أي شفة- الأسد لأخذت بمشفره الآخر معك حتى نهلك جميعا، أو نحيا جميعا، وأما هذا الأمر الذي أنت فيه، فو الله لا أدخل فيه).
. وممن اعتزل الفتنة من الصحابة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأثر عنه قوله: (من قال حي على الصلاة أجبت ، ومن قال: حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، فلا).
.وعن أبي بكرة قال: (لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)).
ولم يكن فعلهم الاعتزال والابتعاد فقط .. بل كانوا يحرصون على توعية الناس ونصحهم وردهم .. ومن أولئك الصحابي أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه اعتزل الفتنة ولم ينضم إلي أية طائفة. وعندما التقى بالأحنف بن قيس حاملاً سيفه، ومتوجهاً إلى الالتحاق بجيش علي بن أبي طالب، أوقفه وأقنعه بالعدول عن رأيه، بعدما أخبره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تواجه المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه) وفي رواية: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه).
ختاماً لمواقف الصحابة المعتزلين للفتنة، أذكّر هنا بالصحابي الذي فرح بذهاب بصره قبل حدوث الفتنة وهو: أبو أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه، وذلك أنّه فقد بصره قبل استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه فلمّا حدثت الفتنة قال: (الحمد لله الذي متعني ببصري في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الله الفتنة في عباده كف بصري عنها).
هكذا كانوا، فأين صرنا..؟
(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)…