Skip to main content

إِنْقَاذُ الأُمَّةِ

By الأربعاء 20 صفر 1437هـ 2-12-2015ممحرم 21, 1441مقالات

ما أكتبه الآن أقرب إلى أن يكون رداً، من كونه إنشاءَ موضوعٍ جديد. وقد استفزني للكتابة قراءة خبر انعقاد مؤتمر (إنقاذ الأمة) في اسطنبول، فاستعرضت جدول أعماله، وأسماء المشاركين. وحرصت كل الحرص أن أطَّلع على كل ما قيل فيه كاملاً، لأّن كلمة الأمة عندي تثير من الخواطر والمواجع الكثير الكثير، ويعرف ذلك كل من جالسني أو قرأ ما أكتب في (الفيسبوك). فموضوع غثائية الأمة وغيابها هو عندي همّ لا يماثله ولا يوازيه همّ..! وازداد ذلك عندي تأكيداً وتعميقاً بعد تفجر الأوضاع في سوريا.

ولا زلت أعتقد أنّ معالجة غياب الأمة المسلمة، هو المقدمة الأولى لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. وأكثرت من القول: إنّ كل عمل أو جهد إصلاحي لواقع المسلمين، في غياب الأمة المسلمة، لا يعدو (إطفاء الحرائق) هنا وهناك، نتائجه محدودة، ونفعه العام ضئيل. كما أنّ قيام الدولة المسلمة، في غياب الأمة، ضرب من المستحيل، أو أحلام اليقظة .. والمسلمون بلا كيان الأمة يعيشون، ولكن لا كما يريد لهم ربهم من الاستخلاف في الأرض وعمارتها، إنّما يكون عيشهم وفق أهوائهم، وما يختاره لهم عدوهم .. ومهما اجتهدوا في إعداد القوة فلن تنفعهم ما داموا ليسوا أهلاً لأن يدافع الله عنهم.

لكنّي، مع الحرص والسعي، لم أجد بين يدي شيئا عن المؤتمر، إلا تعليقات مبعثرة، ونقولات مختصرة، حاولت أن أخرج منها بحكم عام عن المؤتمر، فإن لم أوفق، وإن أخطأت، فقد أبديت عذري.

وجدت المؤتمر سياسياً استعراضياً عادياً. وأحب أن أبين باختصار مقصودي من كل كلمة لأنّها حمالة معانٍ. أما أنّه سياسي، فلأنّ أسلوب المعالجة سياسي وليس شرعياً، خلافاً للصبغة التي صبغ بها المؤتمر. وأما أنّه استعراضي، فلتركيزه على عرض الوقائع، أكثر من البحث في الحلول. أما أنّه عادي، فلأنّه لم يخرج في بيانه الختامي عما صدر عن مؤتمرات تفوق الحد في عددها، ولا تصلح مقرراتها إلا للحفظ في الأدراج.

وحتى لا يتساءل قارئ في نفسه ماذا تريد؟ فأتطوع ببيان موقفي مكثفاً جدا جدا. أريد حشد الطاقات لاسترجاع وبعث الأمة الغثائية أو الغائبة، والطريق إلى ذلك أن نعرف سبب غثائيتها وغيبتها، ويُعرف ذلك من النصوص (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، وليس من المؤتمرات. إنّه بُعدها عن الوحيين علماً وعملاً، ولا يعيدها كما ينبغي لها أن تكون، إلا برامج جادة في التصفية والتربية، والدعوة إلى الإسلام على بصيرة، ووسيلة ذلك أن يتنبه النخب وأعني بالنخب دفعاً للبس (العلماء والدعاة وطلبة العلم) إلى دورهم المعطل، ويعودوا إلى مواقعهم المهجورة في جلسات العلم والتربية، وندوات الدعوة، التي مُسخت في تغريدات (التويتر)، وطغى عليها تطفل (المفكرين) الذين خطفوا دور العلماء والدعاة، وطلبة العلم .. فمتى سمعنا أو قرأنا في تاريخ الإسلام لفظة (مفكر)..؟ إنّما هي تراكمات ورواسب العلمانية ثم العولمة، في عقول بعض أهل الإسلام فعَكَّرَتْها..!

على نخب الأمة التعويلُ، من أجل بعث الأمة من جديد، وبدءِ طورٍ جديدٍ بعد عملية وجدانِ النفس، وتأكيدِ الذات … ليفارق المسلمون سنوات، بل قرون الضياع، ضياع الدنيا والآخرة.

وزاد من شدة الاستفزاز للكتابة أنّني قرأت أسماء بعض المتكلمين من أجل إنقاذ الأمة، والأولى بأولئك أن يحاكموا بتهمة تمزيق الأمة وإبعادها عن الجادة … كيف ينقذ الأمة من لا زال يعتقد أنّ الاختلاف رحمة، و(قرآنه): (نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه)، يبطلون بهذه (القاعدة الخشبية) كما سماها الشيخ العثيمين رحمه الله، قاعدة النجاة النبوية (ما أنا عليه وأصحابي)، وفريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر..! أهولاء سينقذون الأمة..؟

إنّ القرآن الكريم حينما تحدث عن الأمة في أعم وصف لها قال: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، وقال: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).

فالوحدة، وحدة الأمة الواحدة، هو الوصف الوحيد الذي اختاره الله تبارك وتعالى لأمة الإسلام .. فأين الأمة اليوم..؟ وأين وحدتها..؟

ولقد أجاد السعدي رحمه الله وأفاد في تفسير تلكم الآيات واستنبط منها كل ما تحمل من معان ظاهرة وخفية، يقول: (ولما ذكر الأنبياء عليهم السلام، قال مخاطبا للناس: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: هؤلاء الرسل المذكورون هم أمتكم وأئمتكم الذين بهم تأتمون، وبهديهم تقتدون، كلهم على دين واحد، وصراط واحد، والرب أيضا واحد. ولهذا قال: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} الذي خلقتكم، وربيتكم بنعمتي، في الدين والدنيا، فإذا كان الرب واحدا، والنبي واحدا، والدين واحدا، وهو عبادة الله، وحده لا شريك له، بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم والواجب عليكم، القيام بها، ولهذا قال: {فَاعْبُدُونِ} فرتب العبادة على ما سبق بالفاء، ترتيب المسبب على سببه.

وكان اللائق، الاجتماع على هذا الأمر، وعدم التفرق فيه، ولكن البغي والاعتداء، أبيا إلا الافتراق والتقطع. ولهذا قال: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لاتباع الأنبياء فرقا، وتشتتوا، كل يدعي أن الحق معه، والباطل مع الفريق الآخر و{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. وقد عُلم أن المصيب منهم، من كان سالكا للدين القويم، والصراط المستقيم، مؤتما بالأنبياء وسيظهر هذا، إذا انكشف الغطاء، وبرح الخفاء، وحشر الله الناس لفصل القضاء، فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب .

وقال تعالى للرسل: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمَّةً} أي: جماعتكم -يا معشر الرسل- جماعة {وَاحِدَةً} متفقة على دين واحد، وربكم واحد. {فَاتَّقُونِ} بامتثال أوامري، واجتناب زواجري. وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، لأنهم بهم يقتدون، وخلفهم يسلكون، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فالواجب من كل المنتسبين إلى الأنبياء وغيرهم، أن يمتثلوا هذا، ويعملوا به، ولكن أبى الظالمون المفترقون إلا عصيانا، ولهذا قال: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي: تقطع المنتسبون إلى اتباع الأنبياء {أَمْرُهُمْ} أي: دينهم {بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي: قطعا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي: بما عندهم من العلم والدين {فَرِحُونَ} يزعمون أنهم المحقون، وغيرهم على غير الحق، مع أن المحق منهم، من كان على طريق الرسل، من أكل الطيبات، والعمل الصالح، وما عداهم فإنهم مبطلون).

فهل تناول المؤتمرون موضوع وحدة المسلمين، وما السبيل لتحقيقها، وهذا أخطر شيء فيما هم فيه (إنقاذ الأمة)..؟ وهل من سبيل إلى توحيد المسلمين إلا باجتماعهم بل بالتصاقهم بالوحيين .. وهل فرقهم إلا هجرهما..؟

لا يمكن لجهد بشري مهما كان له من القوة، وكائنا من كان ممن يظاهره، أن يوحد الناس إلا على أمر الله، والاعتصام بحبل الله، هذا ما قاله الله لنبيه: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)، ألف بينهم بوحي أنزله ليطبقوه، ونبي أرسله ليتبعوه، فإن فعلوا ذلك كانوا موحدين، كأحسن ما تكون الوحدة، أقوياء كأشد ما تكون القوة، منصورين كأعز ما يكون النصر..!

إنّ الذي ينقذ الأمة: نقد الذات، وتغيير الذات، ونكران الذات، على منهج الفرقة الناجية (ما أنا عليه وأصحابي) وليس بالمؤتمرات…!