لا أحب إلا أن أقدم قبل كل قول البيان الآتي: إنّ هذا المقال للإصلاح والتعليم وليس للنقد .. وضرورة هذا القول، حتى لا يقرأ قاريء، ممن قد يكون واقعاً في ما يُخَطِّئُه المقال، فتصبح قراءته يكتنفها حب الانتصار للنفس، فيفوت فرصة التعلم والانتفاع. وأؤكد غايتي بالآية الكريمة (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّه).
أما مقصود العنوان، فهو أنّ وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال تجاذب الحديث أو توجيه النصائح، وخاصة ما يجري في المجموعات (الكروبات)، وتحديداً في المطارحات الدينية، والتواصي بالعمل ببعض النصوص والتأكيد على ضرورة تداول ذلك ونشره، وذكر أجر من يفعل ذلك، ينكشف أنّ أكثر المشاركين لا زالوا متأثرين بكثير من البدع، ومنظومات اعتقادية تتعلق بها، ويحاولون نشرها، لظنهم أنّها خيرٌ وحقٌ..! وإذا بوسائل التواصل الاجتماعي، ليسر استعمالها، وانتشارها غير المسبوق، بين كل شرائح الناس، تغدو أسرع وأفعل وأخطر وسيلة لانتشار البدع في السنوات الأخيرة. وأنا أحدد نفسي، بالجانب الديني فقط، والحق أنّ فيها الكثير من الخلل .. فلا بُد إذن من كلام مؤصل في موضوع البدع، إبراء للذمة، وإقامة للحجة ونصحاً للأمة.
ولعله لو تواضع المصلحون على هذا وتعاونوا في توعية الناس، لغدت وسائل التواصل أدواتٍ لنشر الحق والخير، بعد غياب الباطل منها. وحتى يكون تسلسل الموضوع منطقياً، وعرضُه ميسراً، فسيكون على شكل مَحَطَّاتٍ:
الأولى: إنّ الخطأ الشائع عند كثير من المسلمين، هو الاعتقاد أنّ الكلام في البدع وتخطئة فاعليها والداعين لها، والشدة في ذلك، كل أولئك ثقافةٌ خاصةٌ بفئةٍ من المسلمين، وهم قلة، ولا يحظون بالقبول لدى جماهير المسلمين وعلمائهم..! وتنعت بالسلفية أو الوهابية، أو غير ذلك، جهلاً وتقليداً أعمىً، ويصَنَّفُون على أنّهم أهل الشدة والتشدد، إن لم يُقل إرهابيون..!
أحكام البدعة في الإسلام، ليست ثقافةً يدعيها أحد، أو تُنسب إلى أحد، إنّما هي هدي المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم .. هي دين أسَّسَه عليه الصلاة والسلام، يُلزم كل مسلم، ويَأثم بتركه. فمن هدي النبي صلى الله عليه وسلم خطبة تسمى (خطبة الحاجة)، كان يفتتح بها خطبه أحاديثه وهي التي تبدأ: (إنّ الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا…). وكان عليه الصلاة والسلام يختمها بقوله: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
ولنضف إلى ما سبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايتيه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) و(من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). ولنتأمل كيف فهم سلف الأمة هذه الأقوال، وطبقوها دون أدنى محاولة للدوران من حولها.
الثانية: لما قررنا وبالأدلة، في الفقرة الأولى، أنّ ذم البدع، وردها القاطع على أنّها ليست من الدين، هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يُقبل من مسلم، بل كيف يَقبل من نفسه، وكيف يَرضى لنفسه، أن يكون مخالفاً للنبي عليه الصلاة والسلام، رافضاً هديه، والله تبارك وتعالى يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). بل كيف تطمئن نفوسنا أن نقبل أن يكون في تراثنا العلمي مقولة (البدعة الحسنة)، وهي من قول بعض العلماء، وتمسك بها العوام، لتبقيهم على ما هم عليه من المخالفات والانحرافات في الدين. وقد عمت حياتهم الدينية البدعُ، وصاروا يحسبونها السنن. كيف نقع في مثل ذلك الانحراف العظيم، ونبينا الناصح للأمة الدال على كل خير يحذر (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ).
ومن شؤم البدعة على المسلمين، ما جاء في سنن الدارمي بسند صحيح، عن التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي رحمه حيث قال: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سننهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة).
وانتشار البدع وقلة من يتصدى لها من العلماء العالمين، يقلب الأمور في حياة المسلمين، فبدل أن تَفعل التربية المنهجية فعلها في المسلمين، لتصبح ثقافةُ الناس توقيرَ السنة وصاحبها، عليه الصلاة والسلام، والعضَّ عليها بالنواجذ، ومحاربةَ البدع التي تصادمها، أينما وجدت، نرى في حالنا أنّ ثقافتنا صارت تداولَ البدع وتكريسَها ومصادمة السنة بها، حتى في مساجدنا. وهذا موافق تماماً لما صح عن ابن مسعود موقوفاً، وهو مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حُكْماً، أنّه قال:(كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، إذا ترك منها شيء قيل: تُركت السنة؟ قالوا: ومتى ذاك؟ قال: إذا ذهبت علماؤكم، وكثرت قُراؤكم، وقَلَّت فقهاؤكم، وكَثُرت أمراؤكم، وقلَّتْ أمناؤكم، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة، وتُفُقهَ لغير الدين).
ويربط الناس، جهلاً، بين شدة التحريم لمسألة، وبين عدد النصوص المحرمة، وهذا غير صحيح. والعبرة بقوة النصوص من حيث أسانيدها ورواتها، واستيعابِ المعنى المقصود من الشارع. ولنطبق هذا على البدعة فنُذكر بالنصوص الأساسية، وقد ذكرنا بعضها في تضاعيف الكلام السابق، وهي وإن عُدَّتْ على أصابع اليد الواحدة، لكنّها كالجبال الراسيات في قوتها، ولا بأس من الإشارة إلى بداياتها:
قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ…) الآية.
قوله عليه السلام: (من عمل عملا…) الحديث.
قوله عليه السلام: (من أحدث في أمرنا) الحديث.
قوله عليه السلام في آخر خطبة الحاجة: (وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
وكل هذه النصوص، وما هو على شاكلتها، يجب أن يفهم بضميمة أصل عظيم في دين الإسلام، وهو كلمة التوحيد (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله). وفي هذه العبارة ملمح شرعي عقدي، لا ينبغي أن يفوت علمُه أحداً من المسلمين، ومع ذلك فالأكثرون يجهلونه.
لقد شاء الله، جل وعلا، أن يحصر أمر الدين في شخص واحد من البشر، وهو رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي تميز عن البشر كلهم، بما خاطب رب البشر به البشر، على لسان المؤتمن على الوحي والدين (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ). فلا يُتلقى الدين إلا عنه ومنه. وقد جمع الله تبارك وتعالى في كلمة التوحيد نوعين من التوحيد؛ توحيدَ الألوهيةِ في (لا إله إلا الله)، وتوحيدَ الرسالةِ في (وأنّ محمدا رسول الله)، فمن أطاع غير الله دخل في الشرك الأكبر، ومن أخذ الدين أو شيئا منه، عن غير الرسول، دخل أيضاً في الشرك الأكبر. ومن هنا كانت البدع في خروجها عن طاعة الرسول شركا، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا).
الثالثة: نرجع إلى البدعة الحسنة، وأقول بكل أسفٍ وأسى، إنّ هذا المصطلح (البدعة الحسنة)، هو الغطاء الشرعي، بزعم بعض العلماء، لتمرير بعض المحدثات في الدين التي قبلوها بتأويلات باردة..! لتوافق العقل، أو المذاهب، أو أهل الأهواء .. وما ذاك إلا من باب المجاملة في الدين، وما وفقوا في ذلك..! فهل في دين الإسلام (بدعة حسنة)، أم أنّها فريةٌ تُردُّ على من (ابتدعها)، وعلى كل عاملٍ بها..!
إنّ أبسط جواب عن هذا السؤال، والذي يستوعبه طالب في المرحلة المتوسطة لبساطته، نقول: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في أكثر من حديث: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، ولفظة (كل) عند أهل اللغة من ألفاظ العموم، فكيف يستقيم القول بالبدعة الحسنة..؟
جاء في موسوعة الألباني في العقيدة: (هذه الكلية [كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار]؛ لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ورسوله حقاً أن يعارضها وأن يقول: لا، ليست كل بدعة ضلالة … كيف يقول هذا مسلم يؤمن بالله ورسوله حقاً، ثم يعارضه ويشاققه ويشاكسه ويقول: لا، البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة حسنة وبدعة سيئة).
ويقول الشيخ الألباني في موضع آخر من الموسوعة: (عجيب جداً أن يوجد في بعض المسلمين من يشاقق الرسول في هذه الكلمة، فالرسول يقول: «كل بدعة ضلالة» وذاك المسلم يقول: البدعة تنقسم إلى قسمين: حسنة وسيئة. وماذا يقال في حديث آخر عن رسول الله ، فيه مثل هذه الكلية «كل مسكر خمر». فسيقول ذلك الذي قسم البدعة إلى قسمين: ليس كل مسكر خمر، وإنما منه ما هو خمر ومنه ما ليس بخمر..!
سبحان الله! كيف يتجرأ المسلم أن يقول بهذه القسمة الضيزى؟ والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}).
ويقول رحمه الله: (لهذه المعاني التي أدركها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ينهون أشد النهي عن الابتداع في الدين, لمنافاة الابتداع لكمال الدين، ولمنافاة الابتداع لكون المشرع رب العالمين، ولمنافاة الابتداع لكون المتبوع هو محمداً رسولَ الله الأمين ، فقط ليس إلا…).
(ومن تلك الآثار التي وردت عن الصحابة الكبار رضي الله عنهم قول حذيفة بن اليمان: «كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فلا تتعبدوها». ومن ذلك، وهو أوضح في إنكار الزيادة في الدين قول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة» فأين نحن اليوم من هذه الأقوال السلفية، لقد ابتعدنا جداً وخالفنا هذا الخط إلى خط آخر. فبينما أصحاب الرسول ينهون عن الزيادة في الدين ، إذا بنا نحن نقرر بكل جرأة أن الزيادة في الدين لا بأس بها . ورحم الله الإمام مالك، إمام دار الهجرة، إذ يقول فيما يرويه الشاطبي في الإعتصام: [من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً]).
ومن شؤم البدعة، ما يصيب المسلمين حين تفشو بينهم، فعَنْ التابعي الجليل حَسَّانَ بن عطية المحاربي قَالَ: (مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا ثُمَّ لَا يُعِيدُهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فالدين الحق ما مات عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما زيد في الدين بعد موته، مردود على قائله أو فاعله، لأنّه يفتقر إلى دليل من الوحي، ولا وحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
وأختم الكلام عن مقولة (البدعة الحسنة)، وأنّها من الابتداع المردود جملة وتفصيلاً، بعبارات قلتها ذات مرة، في محاضرة لي عن البدعة، لتقريب بطلان القول بالبدعة الحسنة من الأذهان، مشوبةً بشيء من الطرافة، قلت: (إذا صحت في العقل السليم، والفهم القويم، العبارات الآتية : لصٌ شريف، زانٍ عفيف، وحشٌ لطيف، جمالٌ مخيف، مستنقعٌ نظيف، عاقلٌ سخيف، فيلٌ خفيف .. أجل إذا صحت، وهيهات..! يصح أن يقال إنّ في الإسلام بدعة حسنة).
الرابعة: سؤال هام جداً: أين تكون البدعة؟
البدعة لا تكون في كل جديد ومحدث، أو بتعبير آخر، لم يكن زمن النبي صلى الله عليه وسلم .. إنّما تكون في كل مستحدث وجديد، ولم يكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام فيما يُراد منه التعبد لله، والتقرب من الله، زيادة على ما قاله أو فعله أو أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا كان أجمع تعريف للبدعة، ما قرره الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات) يقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى).
ومؤدى التعريف، أنّ كل من زاد على ما كلفه الله به، وجاء في هدي النبي، ابتغاء التقرب إلى الله دخل في البدعة. فينحصر معنى البدعة في ما يُحدث في العبادات والقربات، لا في ما يكون في المعاملات وأمور المعاش. وبمصطلحٍ شرعيٍ آخر (البدعة تكون في المقاصد، لا في الوسائل).
ولما جهل بعض الناس، أو أنصاف المتعلمين منهم، هذا المعنى المحدد للبدعة، قالوا منكراً من القول وزوراً، فاعتبروا أنّ الأكل بالملعقة والشوكة، وعلى الطاولة، والأذان بمكبر الصوت، وغير ذلك من أعمالٍ لم تكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من البدع، فأساؤوا القول، وشوشوا الأفكار، وكان إفسادهم أكثر من إصلاحهم..!
ومن الخطأ الذي يقع فيه كثير من المبتدعة قوله: نحن لا ننوي السوء ببدعتنا .. وعلى ذلك جوابان:
الأول: القاعدة التي تقول: (إنّ صلاح النية، لا يصلح فساد العمل).
الثاني: لقد سبق بمثل هذا التبرير أقوامٌ، كانوا رُوَّادً البدعة في الزمن الأول..! ولنتدبرْ هذا الأثر الوارد في سنن الدارمي بسند صحيح، يحكي قصة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم: (عُدُّوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم متوافرونَ، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملةٍ أهدى مِن ملةٍ محمدٍ..! أو مفتتحو باب ضلالةٍ..! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه).
تلك هي حجة المبتدع منذ القديم (والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير)، ويأتي الجواب الصارم الحاسم من أبي عبد الرحمن رضي الله عنه، والذي يبقى إلى قيام الساعة مدوياً في وجه أهل البدع: (وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه). ومن أعجب ما جاء في آخر ذلك الأثر، في سنن الدرمي، ما قاله عمرو بن سلمة رضي الله عنه، وهو راوي الحديث: (لقد رأينا أكثر أهل تلك الحلق يطاعنونا مع الخوارج يوم النهروان).
ولا يفوتني قبل إنهاء هذه الفقرة، أن أورد بعض النصوص التي تعتبر أصلاً في هذا السياق؛ (استحسان البدعة تحت نية حسنة):
. عن سعيد ابن المسيب رحمه الله: (أنّه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثرَ من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه! فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟ قال: (لا ولكن يعذبك على خلاف السنة)).
قال الألباني رحمه الله في الإرواء: (وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيراً من البدعِ باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك).
. وقال رجل للإمام مالك: (يا أبا عبدالله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحلَيفة، من حيث أحرم رسول الله. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة في هذه ؟! إنما هي أميال أزيدها!!قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلةٍ قصر عنها رسول الله ؟ قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}).
الخامسة: ولعل أشد نص ينخلع له قلب المؤمن، عن عقوبة الابتداع، هي الحرمان من الشرب من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ولنتدبر هذه الأحاديث:
. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْ الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى).
ومن الروايات: (إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا.
. وصَحَّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قولُه في تفسير قولِه تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون). يقول: (تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة).
فيا أيها المؤمنون بعد كل ما مرّ من الهدى والهدي، ألا تجب علينا وقفةُ تدبرٍ، تليها توبةٌ نصوحٌ، يعقبها تواصٍ بالحق والصبر..؟ وموسم الخير في رمضان على الأبواب، وقد قيل (حيث يكثر الاجتهاد في العبادة، يكثر الابتداع، إذا غاب العلم). وليكن التواصل الاجتماعي، وأدواته بين أيدينا، وسائل خير، وإصلاح، وتقرب إلى الله … والحمد لله أولا وآخرا