هذه الآية الكريمة كانت الموحية بموضوع اليوم، لدى تلاوتها .. ولا بد للإيضاح من قراءة ما قبلها: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
يقول الشيخ السعدي في تفسير هذه الآيات: ({بَلْ عَجِبْتَ} يا أيها الرسول وأيها الإنسان، من تكذيب من كذب بالبعث، بعد أن أريتهم من الآيات العظيمة والأدلة المستقيمة، وهو حقيقة محل عجب واستغراب، لأنه مما لا يقبل الإنكار، وأعجب من إنكارهم وأبلغ منه، أنهم {يَسْخَرُونَ} ممن جاء بالخبر عن البعث، فلم يكفهم مجرد الإنكار، حتى زادوا السخرية بالقول الحق. {و} من العجب أيضا أنهم {إِذَا ذُكِّرُوا} الذي يعرفون في فطرهم وعقولهم، وفطنوا له، وأُلفت نظرهم إليه {لا يَذْكُرُونَ} ذلك، فإن كان جهلا فهو من أدل الدلائل على شدة بلادتهم العظيمة، حيث ذُكروا ما هو مستقر في الفطر، معلوم بالعقل، لا يقبل الإشكال، وإن كان تجاهلا وعنادا، فهو أعجب وأغرب. ومن العجب أيضا أنهم إذا أقيمت عليهم الأدلة، وذكروا الآيات التي يخضع لها فحول الرجال، وألباب الألباء، يسخرون منها ويعجبون. ومن العجب أيضا، قولهم للحق لما جاءهم: {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} فجعلوا أعلى الأشياء وأجلها، وهو الحق، في رتبة أخس الأشياء وأحقرها).
وكما رأينا في كلام الشيخ السعدي، فإنّ أكثرَ المفسرين، وهو الراجح، فسروا الآيات السابقة على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عجبَ ويعجبُ من إعراض وصدود وكفر المدعوّين إلى الدين الحق، وهم يرون بأعينهم هذا الكون العظيم الدال على عظمة الخالق، ويسمعون بآذانهم ما يأتيهم منه على لسان نبيهم فيسخرون، ويمعنون في الِكبر والمكابرة…!
ولعل المحور الأساس، في هذه المقاربة، سيكون في توظيف (العجب) في باب من أبواب الدعوة إلى الله، ائتساءً به عليه الصلاة والسلام في تعجبه بأنواعه الثلاثة؛ من الصدود، ومن السخرية من الحق حين يأتي به الوحيان، من المدعوين، لمخالفته عقولهم القاصرة. ومن تمادي المبطلين في الغي، وعدم الانتفاع بالتذكرة، بعد التذكرة ، وكل هذه الممارسات نجدها اليوم، في حياتنا المعاصرة، كما كانت زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وأكثر، لأنّ الفتن في هذا العصر أكبر وأكثر وأفعل، في النفوس التي خبا فيها ألقُ الوحي، حتى ممن يزعمون أنّهم على طريق الإسلام، وهم يخالفون الوحيين، ويسيرون على السبل، خارج صراط الله المستقيم، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وبالعقل وحده، تسانده الفطرة السليمة، قبل أي شيء غيرهما، فإنّ هذا المرئي والمسموع كافٍ أشد الكفاية، ليكون نقطة تحول في حياة البشر، وناقلاً لهم من الكفر إلى الإيمان (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
فللنبي صلى الله عليه وسلم أن يعجب، ولكل عاقل بعده أن يعجب. وقد وضَّح النبي عليه الصلاة والسلام هذه الفكرة الهامة، وأكدَّها في الحديث المتفق عليه: (مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ومختصر الكلام في تفسير هذا الحديث، أنّ الأنبياء قبل نبينا صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين، أوتوا من المعجزات المادية والحسية ما يكفي لشد البشر إليهم، وإلى ما جاؤوا به من الحق، وحَمْلِهم على الإيمان والتصديق والاتباع، وترك كل قوى جذب الهوى، وتقليد الآباء والأجداد .. لكن نبينا صلى الله عليه وسلم أوتي أعظم من ذلك كله، وهو الوحي (قرآنا وسنة)، ليبقى أثره القوي في الناس إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وليس مرتبطا بحضور النبي، وزمن المعجزة الحسية. وعلى ذلك فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أنْ يكون أكثر الناس أتباعا يوم القيامة.
ونفسر العبارة الأخيرة (أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بجملة واحدة، وهي أنّها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الوحي الذي أنزل عليه من ربه، بقوة التأثير على البشر الذي أنزل إليهم، وأنّه علاج لكل أمراض الصدود والإعراض التي يبديها البشر لدعوة الحق…! ولنقرأ إذا شئنا قول ربنا تبارك وتعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وبعد، أفلا يحق لي ولكل من استوعب ما مر، وعَقَلَه، أن يقول بكل ثقة وجرأة ووضوح: إنّي لأعجب من عاقل (مدعٍ للعقل) لا يُسْلم ولا يُؤمن، بل إنّي لا أعدّه عاقلا، ولو رآه الناس جميعا كذلك.
وإذا كان قد قيل: ليس من يقطع طرقا بطلا … إنما من يتقي الله البطل
فإني الآن أقول: ليس من يُتْقِنُ فنّاً عاقلاً … إنما من يعرف الله عَقَلْ
ومن ذلك، أوليس غريبا أن نرى طبيبا في أعلى المستويات العلمية والمهارات، وعالمَ فضاء يشارك في غزو الفضاء، ومخترعَ أجهزةٍ وآلاتٍ، مدهشة في استعمالاتها، وإنساناً متقنا لسبع لغات وأكثر، ومزارعاً يعيش ليل نهار مع عنصرين فقط، تربة الأرض والماء، ومنهما فقط تمتليء الأرض بما لا يحصى من نباتات شتى، من فواكه وخضار، ذوات ألوان وأشكال، وأحجام وطعوم، وروائح، فوق الحصر في تنوعها. ومثل ذلك من الأزهار، ويستطيع الإنسان أنْ يذكر آلاف النماذج من البشر، كالتي ذكرنا، والتي توصف بلفظة (عقلاء)، لا يزالون على بهيمية الكفر، مع تلك العقول التي يمتلكونها، فأين عقول أولئك العمالقة الكبار، بمعيار أرضي، ألم تستشعر تلك الحقيقة الأزلية؛ أنَّ للأكوان خالقا، ينبغي أن يُعبد ويُطاع…؟ أوليس هذا هو العجب العجاب؟
أولا يكون عجيباً أن تكون تلك العقول قائدة لأصحابها إلى النار يوم الدين؟ ولن تغني عنهم من الله شيئا، ويقال لهم: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)؟ وماذا فعلت تلك العقول الجبارة؟ ولنقل الشيء نفسه، مع حاكم اتخذ فرعون له إماما ومثلا، وحَسِب أن بيده كلَّ شيء، وظن أن لن يَقدر عليه أحد! وسيجد نفسه يقول: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ).
كل الصور السابقة أحوالُ ضحايا عقولٍ حجبها الكبر والهوى عن نور الوحي، فكانت ظلامية رغم الأضواء المسلطة عليها، وأوردت أصحابها المهالك .. أليس تجاوزا أن يوصف أولئك بأنّهم عقلاء؟ وتستوقفني كثيرا آية تصف الكفار( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا). وللشوكاني كلام جيد في تفسير الآية، فلنقرأه:
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أَيْ: أَتَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ مَا تَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الْمَوَاعِظِ، أَوْ يَعْقِلُونَ مَعَانِيَ ذَلِكَ وَيُفْهِمُونَهُ حَتَّى تَعْتَنِيَ بِشَأْنِهِمْ وَتَطْمَعَ في إيمانهم، ليسوا كَذَلِكَ، بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَهُمْ وَقَطَعَ مَادَّةَ الطَّمَعِ فِيهِمْ فَقَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أَيْ: مَا هُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَسْمَعُونَهُ إِلَّا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي هِيَ مَسْلُوبَةُ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ فَلَا تَطْمَعْ فِيهِمْ، فَإِنَّ فَائِدَةَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَفْقُودَةٌ، وَإِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ وَيَعْقِلُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ كَانُوا كَالْفَاقِدِ لَهُ. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَالْأَنْعَامِ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ: أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ طَرِيقًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: [الْبَهَائِمُ تَعْرِفُ رَبَّهَا وَتَهْتَدِي إِلَى مَرَاعِيهَا وَتَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقَادُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَيْهَا وَلَا عِقَابَ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا أَضَلَّ لِأَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا لَمْ تَعْقِلْ صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ لَمْ تَعْتَقِدْ بُطْلَانَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا الْبُطْلَانَ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً غمطا لِلْحَقِّ]).
وأضيف عجبا آخر من شهادة أولئك العقلاء على أنفسهم، حين يرون العذاب، يوم القيامة: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ). وكلمة السمع في الآية لا تعني مجرد السمع الحسي، بل سماع طالب الحق، وكلمة العقل تعني عقل من نبذ الهوى. ويقول ابن عاشور: (وَذَكَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ يُرِيدُونَ سَمْعًا خَاصًّا وَعَقْلًا خَاصًّا، فَانْتِفَاءُ السَّمْعِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] وَانْتِفَاءُ الْعَقْلِ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ الرُّسُلِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِمْ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ. وَلَا شكّ فِي أَنَّ أَقَلَّ النَّاسِ عَقْلًا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ طَرَحُوا مَا هُوَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ لِغَيْرِ مُعَارِضٍ يُعَارِضُهُ فِي دِينِهِمْ، إِذْ لَيْسَ فِي دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَعِيدٌ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشِّرْكَ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ، وَلَا عَلَى مَا يُخَالِفُ أَعْمَالَ أَهْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ قَاضِيًا بِأَنْ يَتَلَقَّوْا مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ من الْإِنْذَار بالامتثال إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي دِينِهِمْ لَوْلَا الْإِلْفُ).
وما أكثر دواعي العجب، من أحوال شرائح من بني البشر، يكتنفهم اصطفافٌ واحد، هو اصطفافُ الإعراض عن دعوة الحق، والتكذيب بحقائق هذا الوجود، رغم كثرة ما بينهم من اختلافٍ وتضادٍّ وتباعدٍ، في كل شيء.
والأكثر فائدة من مجرد العجب، من أحوالٍ ذكرناها، أن نتجاوزه، إلى مناقشة موضوعية لتلك الأحوال، في محاولة تشخيصية لتلك المواقف، تفضي إلى الاعتبار والادِّكار.
الفكرة الأساسية التي أريدها محوراً للبحث، وأريد تحريرها من كل غموض يكتنفها، وكذلك من توجيهات غريبة ألصقت فيها، (العلاقة بين العقل والإيمان) وهل العقل يصل بصاحبه إلى الإيمان؟
قلتُ، وكتبتُ أكثر من مرة، إنّ معظم الملحدين والمعرضين والزنادقة، قادتهم إلى الزندقة والإلحاد والإعراض عقولُهم، إذ لم ينتفعوا بها ولم يوظفوها لنجاتهم عند الله … ولطالما ذكرت مقولة لأحد علماء السلف، وغاب عني اسمه الآن، يقول: (إنّ أول معصية لله تبارك وتعالى، كانت بالعقل، وبالأقيسة الفاسدة، في مواجهة الحق المبين؛ {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}). فعلى أي أساس قرر إبليس اللعين، أنّ النار خير من التراب، إلا على ما زينه له عقله وهواه؟ ولنستنتج قاعدة هامة، نُسجلها قبل أن تُنسى؛ (إنّ كل من قدم العقل وقياساته، على النقل، هروبا من إلزام النص والأمر الشرعي، فهو على مذهب الشيطان يسير). وما أفسد دين كثير من الناس إلا إعمالُ العقلِ المُشْبَعِ بالهوى، في أمر الدين، وهجرُ النصوص.!
ولم أر من وفق في ضبط هذه المعادلة (العلاقة بين العقل والدين) وسد باباً بل أبواباً أدخلت الكثير من الشرور على أمة الإسلام، فشوشت عقيدتها وأفسدت ديانتها، من ابن تيمية رحمه الله، وتأملوا ودققوا في ما يقول:
(فَالنُّفُوسُ أَحْوَجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ (النبي) وَاتِّبَاعِهِ مِنْهَا إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ هَذَا إذَا فَاتَ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا. وَذَاكَ إذَا فَاتَ حَصَلَ الْعَذَابُ. فَحَقَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَذْلُ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ، إذْ هَذَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالسَّعَادَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ. إذْ لَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ. بَلْ كَمَا أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ لَا يَرَى إلَّا مَعَ ظُهُورِ نُورٍ قُدَّامَهُ فَكَذَلِكَ نُورُ الْعَقْلِ لَا يَهْتَدِي إلَّا إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ. فَلِهَذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ). انتهى كلام ابن تيمية، وهو نفيسٌ، يكتب بماء الذهب!
واليوم يُحيي الكثيرون، ومنهم دعاة يطلون علينا من الفضاء، دورَ العقل المتمرد على النقل .. والعقل المتطاول على النص .. والعقل الذي يريد إخراج النقل من دائرة الدين. إنّه فكر المعتزلة وأفراخهم … ومذهب من قال لرب العزة (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) … ويزينون دور العقل ويضخمونه ويجعلونه المرجع الأول في الحياة المعاصرة. إنّهم يريدون اجتثاث جذور الدين النقلية … وجعل هذا الدين المُنزل من فوق سبع سماوات، مادة للحوار، ورياضة للأفكار..! إنّهم يريدون تأريض الدين، ليعبث به من أخلدوا إلى الأرض، وحَنُّوا إلى أصلهم الطيني! وراء متاريس الواقعية، والعصرنة، والحداثة، والاستنارة، والإعجاز العلمي (المُتَكَلَّف)، والتيسير أحيانا…! يفعلون ما يفعلون إرضاء لأعداء الدين، الذين ينفثون في روعهم، تلك الأفكار الهدامة، بدعوى أنّ ذلك لمصلحة الدين، في العصر الحديث.
ولقد أغراهم إعجابُهم الخاطئُ بالعقل، وكفرهم بقدسية النقل، إلى رد أحاديث أجمعت الأمة على صحتها، لا عن طريق دراسة أسانيدها، ولا تَدبُّر متونها … إنّما بكل بساطة لأنّها تخالف العقل، كما يرون. ولْنمثل لهؤلاء من العصر الحديث، بالشيخ محمد الغزالي.
ولعل من أسباب التخبط في مسألة العقل، وعلاقته بالنقل، وزعم التناقض والاختلاف بينهما، الجهل بضبط العلاقة الصحيحة بين العقل والنقل. ودفعاً لهذا الجهل نرى بعض العلماء يستعملون هذه الثنائية وهي عبارة (العقل الصريح) و (النقل الصحيح) … فما دام النقل والعقل يتصفان بهذين الوصفين، كان كل منهما مُكمِّلاً للآخر … وإن فقدا هذين الوصفين، أو فقد أحدهما وصفه كان التعارض والتناقض. ولقد تنبه بعض العلماء إلى ضرورة هذا الوصف للعقل لدفع كل إيهام وتلبيس فقالوا: (العقل الصريح؛ هو السالم من الشبهات والشهوات).
فما أكثر ما يرتبط العقل عند الناس بالهوى، فهذا اللص الذي يضع خطة محكمة للسطو على بيت، قد طوع عقله لخدمة هواه، فلم يكن عقله آمراً له بالمعروف، ناهياً له عن المنكر.
ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس، حول هذا الموضوع، في كتابه (الصواعق المرسلة)، يقول فيه: (…أَنَّ الْحُجَجَ السَّمْعِيَّةَ مُطَابَقَةً لِلْمَعْقُولِ، وَالسَّمْعَ الصَّحِيحَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، بَلْ هُمَا أَخَوَانِ وَصَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: فَذَكَرَ مَا يُتَنَاوَلُ بِهِ الْعُلُومُ وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْفُؤَادُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَقْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مُوجِبِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، فَدَعَاهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِهِ بِأَسْمَاعِهِمْ وَتَدَبُّرِهِ بِعُقُولِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، فَجَمَعَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَأَقَامَ بِهِمَا حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا، فَالْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ وَالْعَقْلُ الْمُدْرِكُ حُجَّةُ اللَّهِ على خَلْقِه).
لقد أنبأنا الصادق المصدوق عن واقع مُترَدٍّ تمر به أمة الإسلام، يتنافر فيه العقل والإيمان ويتناكران. وما كان ذلك ليكون لولا أنّ العقل لم يعد العقلَ الصريحَ، السالمَ من الشبهات، المُعافى من الشهوات … بل صار العقلَ المنحازَ المشدودَ إلى كل اتجاه إلا الاتجاه السماوي..! إنّ الله خلق الخلق ليكونوا عبادا صالحين، وأرادهم أن يسعدوا في الآخرة، بأن يكونوا من أهل الجنة. وهَيَّأَ لهم كل فرص الهداية، وحذرهم وأنذرهم وخوفهم من مهاوي الغواية، ثم تركهم لاختيارهم المحرر من كل تأثير، إلا هوى الأنفس الأمارة بالسوء (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .. وقد يغرق العبد في هواه، فلا يفيق منه إلا على شفا جهنم، فلا يجد لنفسه من حيلة إلا أن يتمنى على الله الأماني قبل أن يلقى فيها مذموما مدحورا .. وسيأتي تفصيل ذلك وأدلته في السطور القادمة.
ولنبدأ بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، المتفق عليه قال: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا (أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ). وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ إِنَّ فِى بَنِى فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ. وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ). وَلَقَدْ أَتَى عَلَىَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِى أَيَّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ الإِسْلاَمُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَىَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلاَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا).
وإلى شرح مبسط للحديث، استلهمته من قراءة شرحه في فتح الباري، وشرح النووي على مسلم، وأوجزته في السطور الآتية:
إنّ مفتاح فهم الحديث يكمن في معنى كلمة (الأمانة). وقد جاء في شرح مسلم عرضٌ لأقوال بعض العلماء في ذلك: (وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ هُوَ الدِّينُ وَالدِّينُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ. فَالْأَمَانَةُ فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمُ الطَّاعَةُ وَالْفَرَائِضُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَائِهَا الثَّوَابُ وَبِتَضْيِيعِهَا الْعِقَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ). وكل تلك المعاني تناسب سياق الحديث .. ومعنى الأمانة الواسع هو كل ما يؤتمن عليه الإنسان. ويظهر جليا أنّ المعاني السابقة كلها، متآلفةٌ ومجتمعةٌ على معنى واحد؛ فالدين هو الإيمان، وتكاليفه هي الأمانة التي حُمِّلَها الإنسان، وأداء الأمانة مما يأمر به الدين. ونتذكر ونحن نقول هذا الكلام، قول النبي عليه السلام: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ). فالحديث يؤكد أنّ معاني الأمانة التي ذكرها العلماء متوجهةٌ كلُّها.
ففي الحديث الأول، الذي يرويه حذيفة رضي الله عنه، أنّ الأمانة وهي الدين والإيمان، قد رُكِزَ في صميم قلوب الناس، عن طريق الميثاق الذي أخذه الله على البشر، وأشهدهم على أنفسهم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
وعن طريق الفطرة التي غرزها الله في أصل خِلقة البشر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ). ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ (فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لاتبديل لخلق الله)). وقوله عليه الصلاة والسلام: (وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإنَّهُ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا). ثم جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم فعلمهم الوحيين الكتاب والسنة، فازدادوا بهما علما بربهم ودينهم. وكل ذلك من تيسير سبل الهداية إلى الحق، لكل الخلق، كما أشرنا قبلا.
أما الحديث الثاني، فيحدثنا فيه النبي عليه الصلاة والسلام، عن تصرف بعض الخلق الذين رغبوا عن طريق الهداية، واتبعوا خطوات الشيطان. وعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك (برفع الأمانة)، على ما جاء في المعاني السابقة كلها. وفي قوله ينام النومة، كناية عن الغفلة التي تصيب الناس عن الدين وتكاليفه. أي تصيبه الغفلة عن أداء ما ائتمن عليه مرة بعد مرة. فينام النومة فتقبض منه الأمانة، والقبض كناية عن تناقص الأمانة في القلب، ويكون ذلك التناقص شيئاً فشيئاً، حتى تقبض كاملة. وقد عبر النبي عليه السلام عن التناقص المتدرج بتمثيلٍ، فبعد تناقصها الأول يبقى أثرها في القلب مثل الوَكْتِ، وهو (تغير لون الجلد بسبب كدمة عقب صدمة)، ثم تستمر الغفلات فلا يبقى في القلب بعدها للأمانة إلا أثرٌ غيرُ نافعٍ، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأثر غير النافع (بالمَجْلِ) وهو انتفاخ الجلد، مع وجود ماء داخل الانتفاخ، كما يصيب اليد بعد عمل طويل بالفأس، أو ما يصيب الجلد من انتفاخٍ وتورمٍ وتقرحٍ، بعد تدحرج الجمر عليه. فمَن المسؤول عن تناقص الأمانة عند البشر، إلى حد فقدانها كليا، وقد جعلها الله في أصل خلقهم، وجذر قلوبهم، ثم جاءهم النبي ومعه القرآن فذكرهم بها، وأكدها وثبتها في نفوسهم من جديد، إلا الهوى والغفلة والركون إلى العاجلة، وترك العمل للآجلة…؟
وبعد حالة رفع الأمانة أخبرنا نبينا بما يؤول إليه حال الناس: (فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ إِنَّ فِى بَنِى فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ. وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ).
وينهي حذيفة الحديث مصورا الحال التي آل إليها الناس بعد تغيرهم بأنّه كان يُبايعُ (بمعنى البيع والشراء) مَنِ اتَّفَقَ غَيْرَ بَاحِثٍ عَنْ حَالِهِ وُثُوقًا بِالنَّاسِ وَأَمَانَتِهِمْ، فالمسلم يرده دينه عن الغش والخداع، وإن كان نصرانيا تَحمَّل مسؤولية رده إلى الصواب (ساعيه)، أي وليه المسؤول عنه. أما بعد أن تغير الناس فما عاد حذيفة رضي الله عنه يبايع إلا قلة ممن يعرفهم من الناس.
وفي نهاية الشرح، أريد أن أؤكد على معنى قد يلتبس على الناس، وهو قبض الأمانة. وليس لقبض الأمانة وتناقصها من قلب الإنسان، من سبب، إلا الغفلة التي تصيبه، بكسبٍ منه وتقصيرٍ، ولن يسأل عن هذا إلا الإنسان نفسه. وقد عُبِّرَ عن الغفلة (بالنومة)، كما قدمنا.
والأمر الثاني الذي أريد التأكيد عليه، هو أن يُحْمل معنى الأمانة في الحديث، على كل المعاني التي أوردها العلماء، وهي الدين والإيمان،والتكاليف والواجبات، وكل ما يؤتمن عليه الإنسان، ولا تعارض في ذلك، كما أسلفنا.
وأوَدُّ الوقوف أطول مع فقرة من الحديث، أراها لصيقة بالواقع الذي نعيش، هي قوله عليه الصلاة والسلام: (فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ إِنَّ فِى بَنِى فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ. وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ).
لقد صدق الصادق المصدوق، وتغير الناس، ولا سبب لهذا التغير إلا أنفسهم. فاستحقوا أن يغير الله نعمه عليهم (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، بدل أن يغير لهم ما يسوؤهم من حولهم، ويردَّ الله عنهم عداوات أهل الأرض، كما وعدهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
وما بقي اليوم عند الناس إلا خصالٌ أرضية طينية، لا تصدر عن إيمان يعمر القلب، ويهذب النفس، ومع ذلك، تشد الناس إليها، وتصبح في زمن الغربة، غربة الإسلام، هي المعايير التي تواضع عليها الناس فترفع وتخفض، وتدني وتقصي: ما أجلده؟ ما أظرفه؟ ما أعقله؟ وكلها صيغ تعجب وإعجاب .. أما أين موقع هذا الممدوح، وفق معايير الإيمان وما حظه منه..؟ فشأن قد انتهى وقته، وتغير عصره، وصار من موروثات عصور التخلف. بزعم أهل هذا العصر التائهين. ما أكثر المعجبين! ولكن ماذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعجب به؟ (وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ). وفي ألفاظ هذه الجملة، من الحديث تأكيد نبوي لما شرحناه، في بداية الكلام عن حديث حذيفة رضي الله عنه، من التماهي بين كلمة الإيمان والأمانة، والاشتراك في مدلولات متداخلة بين اللفظتين، بل لا يتردد المرء أن يقول: إنّهما من وجهة اصطلاحية شرعية، مترادفتان.
ومادام ملف العقل والإيمان قد فتح، ففي النفس شيءٌ لا يسعني كتمانه، لخطورته على تـربية أجيالنا الصاعدة التربية الدينية. إنها تمادي المدرسة العقلية في ما يسمى (الإعجاز العلمي). وسأقول ما أعتقده في هذا الشان، بمنتهى الصراحة، والصدقية، والشعور بالمسؤولية:
إنّ القرآن والسنة لا يخلوان من ومضات وإشارات إلى قضايا علمية، بإلماحات خفية، جلَّتها الأبحاث العلمية الحديثة. ولكنْ أن يُصبح همُّنا الأول، مع معظم نصوص الوحيين، إيجاد التفسيرات العلمية لها، بدلا من فهمِها والعملِ بها، إبراءً للذمة وإرضاءً للرحمن، فهُنا مَكْمنُ المشكلة. حتى العبادات سرت إليها (صرعة) وبدعة (الإعجاز العلمي)، فصارت تفسر أعمالها وأركانها تفسيرات علمية طبية، بتمحل وتكلف شديدين. بَلْ إنّ السؤال عن الحكمة، وعن وجه الإعجاز من وراء التكاليف الشرعية، صار ديدن الكثير من الشبان الذين غمرتهم تلك النزعة، واستهوتهم تلك (الصرعة)، وإن لم يجدوا ضالتهم في التفسيرات العلمية وأوجه الإعجاز، بدلا من التفقه فيها والعمل بها، وإن لم يجدوا ضالتهم عما يسألون عنه، لوَّوْا رؤوسهم، وصدوا عن السبيل.
إنّ أصحاب هذا الاتجاه، اعتمدوا على اشتمال كتاب الله لكلماتٍ مثل (يعقلون، يتدبرون، أولو النهى، أولو الألباب…)، ليجعلوا قضية الإيمان عقليةً علمية بحتةً. وقالوا: إنّ هذا العصر عصر العلم، بل عصرُ تأليه العلم .. فلنجعلْ دعوتنا لأهل الكفر، إذن تقوم على العقل والعلم..! وفاتهم الوصف الذي أكدنا عليه، فيما يخص العقل، وأكتفي بالإضافة الآتية معتمداً فيها على قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
واستمعوا لأحد المفسرين يُوَفَّقُ أيَّما توفيق، إلى شرح الآيات، وحسن ودقة توظيفها في الدعوة إلى الله، وبطريقة غير مسبوقة!
(إنّ آيات الله في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية، إلا للقلوب الذاكرة العابدة. وأنّ هؤلاء الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم – وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار – هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح.
فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية – بدون هذا الاتصال – فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيمٍ نَكِدٍ، وإلى قلقٍ خانقٍ. ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف!).
أما أن نركب الصعب والذلول، ونتمحل في معاني النصوص، ونتقول على الخالق والنبي، ونتكلم على الله بغير علم من أجل عقول غرقتْ في شهواتها، وانغمستْ في شبهاتها، وألَّهَتْ أهواءها، وأخلدت إلى طينيتها، وجعلت من العلم والعقل صنما، ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن أنه إله العصر، ثم يجد من يسجد له ويسبح بحمده …. فسوف نجد أنفسنا تائهين في مسارٍ خاطئٍ، وطريقٍ مسدود! وكيف لا يكون ذلك، وقد خالفنا توجيه ربنا في دعوة الناس (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).
والخسارة الكبرى، التي لا تُعوَّض، جرَّاء ذلك التوجه الخاطِئ، أننا حين نستهدف البعيدين، من أجل أن يؤمنوا، ونجتهد في التأويل والتحريف، والقول على الله بغير علم، ولن يؤمنوا، نكون قد ضيعنا التربية الدينية الصحيحة لأجيالنا المؤمنة، في متاهات التأويل والتعليل والتضليل..! وأبعدنا النجعة، وجانبنا السبيل. ولْنَفْهَم ولْنُفْهِم أنّ قرآننا ليس مرجعا للعلوم الكونية، ومعرفة أسرارها، إنّما هو كتاب المسلمين ليعرفوا به سِرَّ وجودهم، ويستبينوا الطريق إلى خالقهم.
ومن حقائق الإسلام التي يجب أن تُجَلَّى بوضوح لبني آدم، أنّه تبارك وتعالى، قد أخرج أبوينا من الجنة، بقضاءٍ سبق منه، ولذنبٍ اقترفاه .. لكنه، جل جلاله، برحمةٍ منه وعدلٍ، خلق الخلق من ذريتهما، ليكونوا في الجنة، بعد امتحانٍ على الأرض، وتمحيصٍ في رحلة الحياة .. (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)، لا ليقولوا إنّا ورثنا الخطيئة من أبوينا، وولدنا آثمين، وسنغدو معذبين، والأمر أُنُفٌ فلا حيلة لنا فيه.
إنّ الله خلق الخلق وأسبغ عليهم من فضل رحمته، وعظيم عدله، ما لا يقبل الحصر .. ومن ذلك ثلاثُ فرص، تؤهلهم ليكونوا من أهل الجنة:
الفرصة الأولى: الميثاق الأول، كما يسميه علماء العقيدة وهو ما أخذه الله على ذرية، آدم وهم لا يزالون في عالم الذر، في أصلاب آبائهم، واستشهادهم على أنفسهم بعد اعترافهم بربوبيته جل وعلا. ويسمي بعض العلماء هذا الميثاق، بالفطرة التي فطر الله عليها الخلق، وركبها وأودعها في أصل كيانهم ووجودهم، لتقودهم إن رعوها حق رعايتها إلى الجنة. ويلزم كل من أقر بهذا وشهد على نفسه، أن يضم إلى توحيد الربوبية توأمه الذي لا يقبل الانفصال عنه وهو توحيد الألوهية فيكون عابداً طائعاً لله .. وإلا فقد نقض العهد والميثاق، بينه وبين خالقه، واستحق أشد العذاب. إقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
وانظروا إلى حديث نبيكم صلى الله عليه وسلم المتمم في المعنى للآية المذكورة: (أَلاَ إِنَّ رَبِّى أَمَرَنِى أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِى يَوْمِى هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِى مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا).
الفرصة الثانية: إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو ما يسميه بعض العلماء (بالحجة الرسالية) فالله عز وجل، برحمته وعدله، لم يترك عباده لذاك الميثاق الأول المأخوذ عليهم فلعلهم قد نسوه، ولم يتركهم لتلك الفطرة التي أودعها فيهم فلعلهم أفسدوها بإغواء الشياطين من الإنس والجن واستجابتهم لهم، فتجيء الحجة الرسالية تذكيراً لمن نسي، وتأكيداً لمن غفل، وتصحيحاً لمن حاد عن الطريق .. بل يتأكد معنى العدل العظيم أن جعل الله الحجة الرسالية مدار الحساب، ولم يأخذ خلقه بالميثاق الأول والفطرة فقط: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا). (كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى).
ومما تفيد قراءته، تلخيصاً للفكرة السابقة، ما جاء في بعض التفاسير: (في هذا الدرس تُعرض قضية التوحيد من زاوية جديدة، وزاوية عميقة. تعرض من زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر؛ وأخذ بها عليهم الميثاق في ذات أنفسهم، وذات تكوينهم؛ وهم بعد في عالم الذر!.
إنّ الاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري. فطرة أودعها الخالق في هذه الكينونة وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هذه الحقيقة. أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى، فيحتاجون إلى التذكير والتحذير.. إنّ التوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى، فلا حجة لهم في نقض الميثاق – حتى لو لم يبعث إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم – ولكن رحمته وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف؛ وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل؛ وأن يبعث إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل!).
الفرصة الثالثة: إذا كانت الفرصتان السابقتا الذكر، تتعاملان مع مقتضيات الإيمان بنسبة كبيرة، وتخاطب مكامن الإيمان في النفس البشرية .. فإنّ هذه الفرصة الأخيرة تستصرخ حب السلامة عند الإنسان، وتدعوه إلى موقف أعمق مع العقل والمنطق والواقع، والمصلحة، مستنيراً ومستهدياً بثوابت الوحي، وتعاليم الدين، وكل ذلك من العوامل التي تسرع وتسهل طريق الوصول إلى الإيمان، وتعمق رسوخه في النفس.
ومع أنّ كل ما ذكر يلتقي على خلفية إيمانية واحدة، لكنَّ تعميقَ الأثرِ والتأثيرِ، يقتضي أن يرتكز جانب من الدعوة إلى الله ارتكازاً واضحا على الجانب الواقعي والعقلي والمنطقي، في محاورة بني البشر، للُصوقها الوثيق بالحياة .. ولتكونَ دعوة الحق محيطةً بالمدعو من كل الجهات، فتلامسَ كل نقاط التأثير في نفسه، وتوظفَ كل أشكال الخطابات، فتُسْتَكْمَلَ صورةُ المجادلة، وطريقة الإفحام. وربنا تبارك وتعالى يقص علينا موقف مؤمن آل فرعون الذي خاطب قومه بهذا الأسلوب:
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ).
كانت دعوته لقومه تحكيم العقل والمنطق ومراقبة المصلحة في التعامل مع دعوة نبيهم، وأن يستفيدوا من كل الاحتمالات التي تقبلها القضية.
أعود لأقول إنّ هذه الفرصة الثالثة التي منّ الله بها على خلقه برحمته وعدله، تميزت بإيضاح وبيان لكل مراحل الطريق، وكان التركيز في الإيضاح أكثر وأكثر على المآل والنتيجة والعاقبة .. من أجل أن تسقط كل الحجج والذرائع، ولكي لا يجد المذنب المُعرض ملجأ إلا الاعتراف بذنبه وإدانة نفسه بنفسه. بل لتنقلب كل الإيضاحات والبيانات والتحذيرات والإشفاقات، عند من لم يجعلها همه ويعيرها انتباهه في الوقت المناسب ندماً، يكون أشد عليه من لفح النار ولهيبها، مادام يقول بلسان حاله في كل لحظة في النار (أنا الذي أوبقت نفسي) مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا).
ونجد هذا المحور الأخير، في أسلوب الدعوة إلى الدين الحق، واضح الحضور في بعض نصوص الوحيين..! ويعطينا صحابة نبينا رضي الله عنهم أجمعين النموذج في كيفية التعاطي مع هذا الأسلوب من الدعوة: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَصْحَابِهِ شَىْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ: (عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا). قَالَ فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ: غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ)).
وفي لسان العرب: (الخَنِينُ: ضَرْبٌ مِنَ الْبُكَاءِ دُونَ الِانْتِحَابِ، وأَصلُ الخَنِين خروجُ الصَّوْتِ مِنَ الأَنف).
ومن تلك المشاهد، بعد أن تدك الأرض دكا، ويأتي الملك الجبار، والملك صفاً صفاً، ويؤتى بجهنم نزل الكفار المعرضين .. يستعرض أولئك شريط حياتهم، وإسرافهم على أنفسهم .. ثم لا يجدون إلا عبارة واحدة يحسبونها تخفف بعض ما يجدون (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي). وتتحول تلك الكلمات إلى ندم يكون عليهم أشد من عذاب النار، وتجري منهم الدموع ولكن أي دموع..؟ إنها مزيج من دموع الندم ودموع الألم، ولكن هل تنفعهم؟ هيهات، هيهات (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ويجربون الاستغاثة والدعاء: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
ونجد في الكتاب المبين، مجموعة من الآيات، يمكن جمعها تحت عنوان الحسرة، وهي أشد ما يعانيه أهل النار، في نزلهم المشؤوم، وإلى استعراضٍ لبعض تلك الآيات:
. (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
وأنذرهُم يومَ الحسرة، وما هو يوم الحسرة ومتى يكون يوم الحسرة؟ قال عليه الصلاة والسلام: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّة، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِى يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّة، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ثُمَّ قَرَأَ ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
. (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
ولنلحظ استعمال كلمة لو، وهي أداة التمني، ولكنه تمني المستحيل، وهو الحسرة القاتلة!! وهل من مستحيل أعظم من تمني رجوع الزمن إلى الوراء؟
. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا). وهل من حركة يعبر فيها عن الحسرة والندم، والتلاوم مع النفس، مثل (عض اليدين)؟.
ولما يئسوا من كل أمل في النجاة، وتبديل المآل، يطلبون أعمالا انتقامية في غير وقتها ومحلها، لعلها تنقلهم إلى لحظة راحة مما يلاقون من العذاب ، ولكن هيهات هيهات! (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).
والأعجب من العجب والعجيب الذي ذُكر حديثه، فئامٌ بين المسلمين، أرادوا الإسلام، ويدينون الله به، ويريدونه وسيلتهم إلى الجنة، لكنهم خَطِئوا الطريق. إنّهم لم يستطيعوا الانسلاخ من مقولة أضلت كثيرا من الخلق قبلهم، وكانت أول ما يرفع في وجه الأنبياء والرسل والمصلحين؛ (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، وقد أضاف أهل زماننا إليها مقولة أخرى من الواقع الديني المعاصر (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ مشايخنا…!). ولقد أسقط الله هذه المقولة عقليا ومنطقيا وواقعيا، في حوار بين الرسول وقومه: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
يقول الشيخ السعدي في التفسير: ({وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أي: منعموها، ومَلَؤُها الذين أطغتهم الدنيا، وغرتهم الأموال، واستكبروا على الحق. {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} أي: فهؤلاء ليسوا ببدع منهم، وليسوا بأول من قال هذه المقالة. وهذا الاحتجاج من هؤلاء المشركين الضالين، بتقليدهم لآبائهم الضالين، ليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض، يراد به نصرة ما معهم من الباطل. ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} أي: فهل تتبعوني لأجل الهدى؟ {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} فعلم بهذا، أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الباطل والهوى. {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بتكذيبهم الحق، وردهم إياه بهذه الشبهة الباطلة. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم، فيصيبهم ما أصابهم).
إلغاءٌ لدور النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به عن الله، وفضيلةِ اتباعهِ في الدين، وتعظيمٌ لدورِ الرجالِ وجعلُهُم مكانُ النبي، صلى الله عليه وسلم، في الاتباع. وجمودٌ على اتباع الباطل، دون محاولة لمراجعة المواقف، وتجاهلٌ لأمر الآخرة، وما سيكون المآل فيها. ولننظر جموع المسلمين ومخالفاتهم وبدعهم، في حجهم وعمرتهم، وكذلك في مساجدهم وصلواتهم، ومعاملاتهم وتجاراتهم، وفي لباس النساء وحجابهن. حتى ليخيل لمراقب حيادي لهم، أنهم ليسوا أهل دين واحد! ولا زال من النخب من يَسُرُّهُ ذلك ويقول: إنها رحمة الاختلاف، وسعة الشريعة، ويسر الدين! ويصدق في المسلمين اليوم قول القائل:
ما أقبح الجهل يُبدي عيبَ صاحبِه للناظرينَ وعن عينــــيهِ يُخفيــهِ
كــــــــــــــــذلكَ الثــــــــــومُ لا يشْــمُـــمْه آكلـــــُـــه والناسٌ تشتمُ نتْنَ الرِّيحِ مِنْ فيه
فالرب واحدٌ، والقرآن واحدٌ، والنبي واحدٌ، فلِمَ لا يكون الدين واحدا؟ فهل في حياتنا ما هو أعجب من ذلك؟
وآخر كلمة، تبدي أشدَّ العجب ممن يقرؤون كلام ربهم، وما يزالون يعتون عن أمر ربهم، ويبغونها عوجاً، فيَضِلُّون ويُضِلُّون. وهل بدا، في ما كتبتُ، تجنٍّ على أحدٍ بغير برهان صحيح؟ وهل تجاوزت الحد مع أهل العقل غير الصريح؟ وآخرُ العجب وأشده، من أهل الإسلام وعلمائهم ودعاتهم، ألم يَأْنِ لهم، أن يُنْصفوا أنفسهم والأمة ، فيُوحِّدوا منهجَ العمل والسير إلى الله، على ما اختاره رسول الله، وليس أحدٌ سواه، منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، فينتهي ضياعنا في صحراء التيه…؟
فهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق