Skip to main content

بَيْنَ الصِّدّيقِ وَالْمُحَدَّثِ

By الأثنين 16 محرم 1438هـ 17-10-2016ممحرم 21, 1441مقالات

ملاحظة قبل البدء خوفاً من عدم وضوح التشكيل: فالصِّديق بكسر الصاد وتشديدها، والمحدَّث بفتح الدال وتشديدها .. ومعذرة.

أسطرٌ قرأتها منذ أكثر من ربع قرن، في رسالة ابن تيمية الموسومة (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وهي نفيسة في بابها فلتقرأ .. وما يمرّ عليّ وقت طويل دون استرجاع معانيها ومراميها، بل إنّي لأجدني أحياناً تواقاً إلى قراءتها من جديد، وبخاصة في الأحوال الصعبة التي تبحث عن المخرج، وإنّي لأقول: إنّها عندي لا تبلى على كثرة الرد .. وها أنذا أسترجعها من جديد، وأُحب أنْ يُشاركني الأخوة القراء فهمها، واستيعاب كل جوانبها، وأنْ يوافقوا معي على أنّنا أحوج ما نكون إليها في محنتنا، ولا أقصد محنة السوريين، لأنّها، في الحقيقة محنة الأمة وقد سبقها مثيلات، لكنّنا لا نُحسن قراءة الأحداث .. وليست هذه الأولى ولن تكون الأخيرة، ولها رقمٌ ترتيبي في محن أصابتنا، وما كُنّا نعدها مصاب أمة، لأنّنا كُنا منهمكين بإطفاء الحرائق هنا وهناك، لا يخطر في بالنا أنْ نستجلي حال الأمة التي تعيش (الحياة النباتية) كما يقول الأطباء.

أجل نُصاب في غياب الأمة، ونُعالج الأزمات في غياب الأمة، فمتى تنكشف الغمة..؟ إنّ تصرفنا حيال المشكلات القاتلة لا يعدو فعلاً إطفاء حرائق، إذا خمدت عُدنا إلى معافسة الدنيا، والتدين قريب مما يسمى (فولكلور)، ننتظر الحريق القادم متى وأين، وتمرسنا فصرنا نُطفيء حرائقنا بلا تفكير، إنْ لم يكن غيرنا يُطفئها لنا .. فلنكفَّ عن إطفاء الحرائق ولنبحث في حال الأمة المحتضرة، وكيف ننفخ فيها روحاً جديدة، فتختفي المشكلات، وتنطفيء الحرائق.

إنّنا يجب أنْ نواجه ما يُحاك ضدنا، بعون الله، ثم بالأمة الحاضرة القوية، أما المواجهة ببعد عن الله، وأمة ضعيفة غائبة، فلا يعدو إطفاء الحرائق .. كفانا اشتغالاً وانشغالاً بالأعراض، ولنُوجه اهتمامنا وكل ما أوتينا إلى الأمراض، وما هو إلا مرض واحد: غياب الأمة .. لقد أطلت فأعتذر، وسأترككم مع تلكم الأسطر، ولي إليكم عودة.

بعد أن يذكر ابن تيمية فضائل عمر والأحاديث التي وردت أنّه مُحدَّث، وأنّه لو كان بعد نبينا نبي لكان عمر، وأنقل واحداً من تلك النصوص لتتضح الصورة وهو ما جاء في الترمذي من قول النبي عليه السلام: (إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ) .. فيُقدم لما يريد بتلك النصوص ليقول:

(فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة، ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم، على أن يرجع في ذلك العام، ويعتمر من العام القابل، وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة. وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى»، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى»، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه» ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، قال: «بلى»، قال: «أقلت لك: إنك تأتيه العام؟» قال: لا، قال: «إنك آتيه ومطوف به».

فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت لذلك أعمالا. وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه، أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر: إنه مات. رجع عمر عن ذلك.

وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها» فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: «إلا بحقها» فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى اللله عليه وسلم لقتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعلمت أنه الحق).

ثم يُخرج لنا ابن تيمية رحمه الله النتيجة الرائعة من الكلام السابق والتي يجب أنْ نقف معها طويلاً .. فيتابع رحمه الله، ويقول:

(مرتبة الصديق ومرتبة المحدث) (ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر، مع أن عمر رضي الله عنه محدث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث، لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم). انتهى كلام ابن تيمية


أقول: ما أحوجنا وقد كثر في الأمة أشباه المحدَّثين، وغاب منها الصِّديقون، فصار الاحتكام في المحن العصيبة إلى العقول والعواطف بتأثير ضغط الواقع الشديد في كل اتجاه، وبكل ما تحمل الكلمة من معاني الشدة .. وأشباه المحدثين أعني بهم من يحبون اليوم أنْ يُقدموا للناس على أنّهم (مفكرون إسلاميون) وهي الترجمة الحرفية لما عليه الغربيون من وجود (thinker) يعني مفكرين، وهل يدور تفكيرهم إلا على ما هو من بضاعة الأرض .. وما أزرى بالأمة إلا تركها العلماء الذين يفترض فيهم أنْ يكونوا (صِديقين) بما استحفظوا من الوحيين، وصار احتكامها إلى المفكرين، وحُدثت عن أشخاص كانوا لا يرتاحون إذا قُدموا إعلامياً بلقب (الشيخ) ويُحب أنْ يُقال: (المفكر الإسلامي) وهي الطبقة التي صارت ترُى فوق العلماء .. ولأحد الكتاب اللبنانيين في القرن الماضي، وأرجو ألا يجد أحد إهانة في ما أنقل، يقول: (إذا صار جهالنا رؤوسنا، فبحكم الطبيعة سنسير إلى الوراء…).

وإذا كان عمر قد راجع النبي عليه السلام وبعض من حوله من الصحابة في مسائل، فإنّ محدَّثينا اليوم يردّون النصوص بتأويل وأحياناً بإلغاء..! من أجل عقولهم ورُآهم الأرضية، وكأنّ هذه الأمة لم ينزل إليها كتاب، ولم يُبعث فيها نبي، أو بتعبير آخر مُبتذل كأنّ ثوابت الإسلام انتهت صلاحيتها.


هل من الضروري أنْ تفوتنا المبادرة الأولى والسريعة، كما كان يحدث لعمر رضي الله عنه أحياناً، ثم ندَّكر بعد أمة، وبعد خراب البصرة..؟ وما الذي أوصل الأمة إلى الاحتضار غير ذلك..؟ والله إنّه لصوت الناصح الأمين، والنذير العريان، وهو يرى سقوط النخب أمام شدة الخطب، وعمق المصاب .. إنّ مقولة (الغريق يتعلق بقشة) فلسفة عوام، ولا يمكن أنْ تكون منهاج إحياء، وإنقاذ أمة تحتضر.


أيّها الناس: أقول بملء الفم، لا ينبغي أنْ تحول هيبة عمر رضي الله عنه، وكلنا نطأطيء الرؤوس إجلالاً لتلك الشخصية، من أنْ ننفذ إلى مغزى كلام ابن تيمية .. يجب أنْ نعترف وأنْ نفهم أنّ الذي جعل عمر يُراجع النبي وهو يعلم أنّه لا ينطق عن الهوى، ويقول إنّ محمداً لم يمت، ويتوعد القاتل بسيفه، ويتردد في قتال المرتدين، شيء واحد، إنّه: حُكم العاطفة على تلك الشخصية الفذة المحدَّثة..! أنسته ثوابت وحقائق وهو من هو، لكنّه سرعان ما يدّكر ويؤوب .. فهل نحن والنُخب من رجالنا بمنأى عن أنْ يُصيبنا ما أصابه، وبيننا وبين ما آتاه الله بعد المشرقين..!

كفانا نتلمس الحلول عند أهل العقول، ونستبعد أهل العلم والأصول..!

لن نجد الخلاص، ولا الرشاد ولا العصمة عند الرجال، إنّها في نصوص الوحيين، قبل أنْ يلوي العقل والهوى وضغط الواقع أعناقها، ومستجدات الأمور ليست عذراً في فعل المحظور..! ولا تُبعدوا النصوص، ولا تبتعدوا عنها، فليس في عقول أهل الأرض حل نوازل تنزل بمن على الأرض..! إنّما الحلول في ما نزل من فوق سبع سماوات، من خالق الكون ومدبره .. لكنّ المعالجة السماوية للأزمات لا تعجب (المتعجلين) لطول أمدها، فمعالجة أمة وصلت مرحلة الغثائية وما بعدها من الاحتضار تُعد فيها عشرات السنين وأكثر، ومن يمني بالمعالجات السحرية ليس ناصحاً، وليس قادراً، وليس عالماً .. إنّما هو تسجيل المواقف، أو سبيل الشيطان.

إنّ السلامة والطمأنينة في المعالجات الشرعية دون التخوف من نتائجها، فالله أرحم بنا من أنفسنا إنْ صدقنا، ومن ترك ذلك فلا أقول أخطأ الحساب، بل ضل سعيه وخاب، فيداه أوكتا وفوه نفخ .. ولا أُريد الاسترسال، فأختم بخلاصة ابن تيمية: (فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث، لأنّ الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أنْ يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم) .. الأمة تحتاج في محنتها إلى الصِّديقين، ولن يضع حداً للضياع وغلبة العواطف والأهواء إلا هُم، فابحثوا عنهم، وليكنْ منكم صديقون…