توقفت عن الكتابة، وحتى عن الحديث، في الشأن السوري، بعد أن طال فيه الكلام، حتى دخل مرحلة (الاجترار)، ولم تعد في الأمر زاويةٌ غامضةٌ، أو سرٌّ مخبوءٌ .. فقد انكشف كل شيء، وعرف كل أناس مشربهم، وأدرك كلٌ نتائج موقفه أو توجهه، وخرج من ذلك بندمٍ، أو ألمٍ، أو إصرارٍ ومكابرة .. فماعاد للكلام فائدة مع تحكم الأهواء والعواطف، عند من يُحسَن بهم الظن، ولا يستبعد بالطبع، وجود متآمر وعدو، أيضاً.
ما دفعني إلى كتابة هذه السطور، لقطة فيديو شاهدتها، وجدت فيها اعتداء صارخاً على الحق والحقيقة، وافتراء على الثوابت، ممن لا يتوقع ذلك منه، لكنَّ الهوى غلاب لكل خير، أعاذنا الله من غلبته .. استمعت إلى أحد منظري الثورة السورية شرعياً، يقول بالحرف في حوار مع مذيع سأله: (هناك قاعدة تقول: لا جهاد إلا بوجود إمام وراية، وما سوى ذلك فتنة)، فيجيب المنظر على الفور: (هذا من بدع حزب التحرير ومن وافقهم على ذلك، وهذا في الحقيقة قول الرافضة، فهم الذين يقولون لا جهاد إلا بإمام…) ثم تابع كلامه بمغالطات لتثبت سابقتها .. وما ينبغي السكوت عن مثل هذا، ومن سكت آثم لا عذر له، إلا أن يكون مقِّرا للقائل على باطله .. ولا أريد الإطالة في الرد، فالموضوع أُشبع بحثاً، بما يكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
مرة أخرى أقول: أَوَدُّ انتصاراً للحق الذي غيبه، ولا يزال يغيبه الهوى، فأَوْرَدَ سوريا والسوريين المهالك..! لا أريد المناظرة، فلا شأن لي مع أصحاب الهوى، الباحثين عن الزعامات..! إنّما أريد إيراد حديث الصادق المصدوق أولاً، ثم أقوالاً ونقولاً لمن تقوم بهم الحجة، لعلمهم المؤصل أولاً، ولبعدهم زمنياً عن الأحداث، فلا ينفعلون أو يتفاعلون معها، فتكون العاطفة والهوى، بدل التبصر وصحة الاستدلال، كما حصل لبني جلدتنا، ثانياً. على أنّه لا بد من مقدمة قصيرة .. أبدأ بالقول:
إنّ الإمام، من وجهة نظر إسلامية، هو الضمان لوحدة كلمة الأمة، ولا ضمان غيره، بعد توفيق الله .. وهذا أعظم وأخطر شيء في حياة أية أمة .. وإذا غاب الإمام، أو ضعف انفرط عقد وحدة الأمة، وصار أمرها فرطا .. وتمزقت شيعاً وأحزاباً، كل حزب بما لديهم فرحون .. تتفرق أيدي سبأ، وتتقاتل فيما بينها .. ولا يمكن أن يقوم بهذا الدور الخطير أية جهة غير الإمام، الذي ترتضيه الأمة .. حتى السلاح لا دور له .. ولا بد أن نَذْكر ونُذَكِّر أنّ قوة الإمام لا تتأتى من شخصه، بل مما يهبه الله له، إذا ما كان والأمة من ورائه على ما يرضي الله، من سلطان وسطوة .. ثم بالتفاف الأمة حوله، وتوحدها به. ولتأكيد هذا الكلام أُذَكِّر بحديثين:
الأول: قوله عليه السلام: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِىٌّ خَلَفَهُ نَبِىٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ. قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ). متفق عليه
والثاني: قوله عليه السلام: (إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِر مِنْهُمَا). مسلم وغيره
ويحسن أن نقرأ بعضاً من كلام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم يقول: (قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {وَتَكُون خُلَفَاء فَتَكْثُر قَالُوا: فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ: فُوا بَيْعَة الْأَوَّل فَالْأَوَّل}
قَوْله: {فَتَكْثُر} بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة مِنْ الْكَثْرَة، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَعْرُوف، وَفِي هَذَا الْحَدِيث: مُعْجِزَة ظَاهِرَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَةٍ بَعْد خَلِيفَة فَبَيْعَة الْأَوَّل صَحِيحَة يَجِب الْوَفَاء بِهَا، وَبَيْعَة الثَّانِي بَاطِلَة يَحْرُم الْوَفَاء بِهَا، وَيَحْرُم عَلَيْهِ طَلَبهَا، وَسَوَاء عَقَدُوا لِلثَّانِي عَالِمِينَ بِعَقْدِ الْأَوَّل أَوْ جَاهِلِينَ، وَسَوَاء كَانَا فِي بَلَدَيْنِ أَوْ بَلَد، أَوْ أَحَدهمَا فِي بَلَد الْإِمَام الْمُنْفَصِل وَالْآخَر فِي غَيْره، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء).
ويتابع النووي: (وَقِيلَ: تَكُون لِمَنْ عُقِدَتْ لَهُ فِي بَلَد الْإِمَام، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُعْقَد لِخَلِيفَتَيْنِ فِي عَصْر وَاحِد سَوَاء اِتَّسَعَتْ دَار الْإِسْلَام أَمْ لَا).
ولنتأمل، خليفتان مبايعان، ولا شك أنّهما لم يبايعا إلا لأنّهما من الصفوة والخلاصة، ومحل ثقة الناس. ومع ذلك يُستحل دم أحدهما شرعياً، مقابل هدف أكبر وأعظم وأهم، ألا وهو وحدة الأمة وعدم تفرقها..! أبَعْدَ هذا الكلام نجد من لا يزال يماري في أهمية وضرورة وجود الإمام في حياة الأمة المسلمة..؟
وأختم موضوع الإمام بالحدبث الآتي المتفق عليه: (إنما الإمام جنة يُقاتَلُ من ورائه ويُتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا وإن أمر بغيره فإن عليه وزرا).
وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم التعليق التالي على الحديث: (جنة، أَيْ كَالسِّتْرِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ وَمَعْنَى يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ أَيْ يُقَاتَلُ مَعَهُ الْكُفَّارُ وَالْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ مُطْلَقًا…).
وهل بعد كلام ابن تيمية رحمه الله في تقريب فكرة الإمام، وخطورة دوره في حياة المسلمين، بأسلوب غايةٍ في السهولة وقوة الإقناع، يركز فيه على مقتضى العقل، قبل البحث في نصوص الشرع، وهو مدخلٌ حسنٌ في الإفهام والإقناع؟
يقول في مجموع الفتاوى: (يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ؛ بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا .. فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ} فَأَوْجَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةِ وَإِمَارَةٍ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ. وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ).
ويقول ابن قدامة في كتاب المغني: (وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ).
ويقول الشيخ العثيمين رحمه الله في الشرح الممتع: (لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر؛ لأن المخاطب بالغزو والجهاد هم ولاة الأمور وليس أفراد الناس، فأفراد الناس تبع لأهل الحل والعقد، فلا يجوز لأحد أن يغزو دون إذن الإمام إلا على سبيل الدفاع، إذا فاجأهم عدو يخافون شره وأذاه فحينئذ لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، لتعين القتال إذًا.
وإنّما لم يجز ذلك لأن الأمر منوط بالإمام، فالغزو بلا إذنه افتيات عليه، وتعد على حدوده، ولأنه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه وغزا، ولأنه لو مكن الناس من ذلك لحصلت مفاسد عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على أنهم يريدون العدو وهم يريدون الخروج على الإمام، أو يريدون البغي على طائفة من الناس، فلهذه الأمور الثلاثة ولغيرها – أيضاً – لا يجوز الغزو إلا بإذن الإمام).
فهل بعد كلام الصادق المصدوق، وكلام علماء عبوا من الوحيين، وتضلعوا منهما، واهتدوا بنورهما، يوم لم تكن الأهواء العاصفة بالحق قد نزلت بسوحهم، ولم تتحكم المنافع والمصالح الأرضية، بعدُ في النفوس فتجعلها تُحب العاجلة وتَذَرُ الآخرة .. كما هو الحال عندنا اليوم، بل كانوا لا يزالون على الأمر العتيق، أجل، هل بعد ذلك من كلام يقال..؟ وكيف يقال عن كلامٍ مؤصلٍ، وأحكامٍ شرعيةٍ، هي من بدع الروافض؟ كبرت كلمةً..! ولكن ما رُدَّت تلك الحقائق الشرعية، إلا يوم طبقت القاعدة المنكوسة (اعتقد ثم استدل)، وليست الرشيدة (استدل ثم اعتقد) .. وصار الرجل يُنَقِّبُ في المكتبة الإسلامية عن الأقوال والاجتهادات الشاذة، والمرجوحة، أو يَسْتدْعي من كتب التاريخ الوقائع والمواقف المخالفة، يعطل بها النصوص، ليقول منكراً من القول وزوراً، ليُرضي الواقعَ ولو أغضبَ اللهَ .. ومتى كان الحق يعرف بالرجال وأقوالهم وأفعالهم، إلا في إدبار الأحوال، وحين تنطق الرويبضة..؟
ثم أقول لهؤلاء المنظرين: ماذا حصد السوريون من جراء القتال المنفلت من كل قيدٍ وضابطٍ، والذي أسميتموه جهاداً إسلامياً، فأحللتم به قومكم دار البوار..؟ وها أنتم أولاء، بعد خمس سنوات، ما زلتم ممعنين في الخطأ والمكابرة، فإلى متى، وإلى أين..؟
والفكرة الأخيرة التي لا أود أن يفوتني التنبيه عليها، لأهميتها ولأنها تُستَغَلُّ لتلبيس الحق على الناس .. ولطالما سمعناها في المناقشات على شكل سؤال يطرح لجعل فكرة الإمام الشرعية غير ذات موضوع في الحياة المعاصرة .. يقال: أين الإمام في حياة الناس اليوم؟ ويُنتظر الجواب، لا وجود له، فيقال: فلْتُطْوَ كل ملفاته وأحكامه .. ونقول: استحضروا الأمة الغائبة، وأحيوا الأمة الغثائية، يأتي معها الإمام، وتأتى معها دولة الإسلام على منهاج النبوة، ويأتي كل الخير، إن شاء الله، ولكنّكم قوم تستعجلون..! تريدون حرق المراحل، واختصار المسافات، وتحقيق الأهداف الإسلامية الكبرى بالسياسة وليس بالدين، وإقامة دولة الإسلام على ديموقراطية الغرب، وليس على منهج خاتم النبيين، وهيهات هيهات هيهات .. والحمد لله رب العالمين