Skip to main content

ثُلُثُ الإِسْلَامِ

By الخميس 16 رجب 1438هـ 13-4-2017ممحرم 20, 1441مقالات

العنوان مقتبس من مقولة ذكرها إمام الأندلس الشاطبي رحمه الله في كتابه الرائع (الاعتصام) الذي كرسه لموضوع البدع، وهو كتاب نفيس في بابه .. يقول الشاطبي لدى تناوله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ): (وهذا الحديث عده العلماء ثُلثَ الإسلامِ، لأنّه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام، ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية).

ومن لطائف ما جاء عن بعض أهل العلم، مما يدل على عمق نظرهم في النصوص، ووضعها حيث ينبغي وضعها على سلم الأهمية، لتعليم الناس الدين الحق، ما نجده في كتاب (جامع العلوم والحكم) لابن رجب الحنبلي مثل:

(وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: أُصُولُ الْإِسْلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ عُمَرَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ…» وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَقَوْلَهُ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،» وَقَوْلَهُ: «مَنْ أَحْدَثِ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي كُلِّ تَصْنِيفٍ، فَإِنَّهَا أُصُولُ الْأَحَادِيثِ.

وعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ أَمْرِ الْآخِرَةِ فِي كَلِمَةٍ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وَجَمَعَ أَمْرَ الدُّنْيَا كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» يَدْخُلَانِ فِي كُلِّ بَابٍ.

وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ نَظَرْتُ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ، فَإِذَا هُوَ أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدِيثٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ، فَإِذَا مَدَارُ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «الْحَلَّالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» وَحَدِيثُ عُمَرَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ» الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» قَالَ: فَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْ هَذِهِ رُبُعُ الْعِلْمِ).

هكذا كان علماء المسلمين يتفاعلون مع النصوص، ويعبرون عن ذلك بعبارات تبقى من بعدهم تبصرة وذكرى للناس، كما مرّ آنفاً.

ونرجع الآن لحديث الباب، فهذا الحديث هو الأصل في اتباع السنة المطهرة، والتزام هدي محمد صلى الله عليه وسلم. ومن سلك طريق السنة والاتباع، عصم نفسه من أن تخطفه البدع مهما كانت، وكان بين الناس داعيةً للخير والحق، والاعتصامِ بالدين الحق، وحرباً على البدع وأهلها.

وله رواية ثانية: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ). وأصل هذا الحديث في كتاب الله الكريم في قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وهل الابتداع إلا خروجٌ عما أمر الله ورسوله..؟ مما يستحق أن تصيب فاعله الفتنة، وأعظم بها من مصاب..!، ويغشاه في الآخرة العذاب الأليم .. وأسوأ من ذلك، فإنّ الابتداع في أوضح معنى له أنّه استدراك على ما جاء عن الله ورسوله، واستبدال ما يأتي به العقل والهوى بهما.

ولأهمية وخطورة موضوع البدع فإنّ بعض العلماء أخذوا ذاك المعنى العظيم من الآية والحديث وصاغوه صياغات أخرى ليقدم إلى الناس من منظور آخر .. فالإمام مالك رحمه الله قال قولته الشهيرة والصريحة، فقد جاء في كتاب (الاعتصام للشاطبي): (مَن ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنَّ محمداً خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فما لَم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً).

وكذلك ابن تيمية رحمه الله، صاغ المعنى ذاته بأسلوب آخر فقال: (الدين ما مات عنه محمد صلى الله عليه وسلم). وما أدق دلالة هذه المقولة .. فالدين هو الوحي، وبموت محمد صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، وما دخل الدينَ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فمصدره يقينا عقل بشري، ولسنا متعبدين بذلك.

ولعل أحدا لا يكون مبالغاً أبداً أو مجانباً للحقيقة إذا قال: إنّ انتشار البدع هي أكبر مشكلة في حياة المسلمين الشرعية. وكيف وهو تبديل للدين الذي نزل به جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل ما يمليه الهوى، وما يبتدعه العقل البشري القاصر ديناً آخر .. ولقد كان سلف الأمة لتضلعهم من السنة ولقربهم من مشكاة النبوة شديدي الحساسية تجاه الابتداع ولهم في ذلك مواقف وأقوال أسرد بعضها تمثيلاً لا حصراً:

. عن حذيفة بن اليمان: (أنّه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلا قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة).

. والذي سماه بعض المؤرخين الخليفة الراشد الخامس، عمر بن عبد العزيز، بلغ بذم البدع شأواً لم يُسبق حين قال: (لولا أنّي أعيش لإحياء سنة أميتت، ولإماتة بدعة أحييت، ما تمنيت أن أبقى بينكم فواق ناقة).

وفواق الناقة تعبير عربي يضرب مثلا للسرعة واللبث القليل. ويجوزُ في الفاءِ وجهانِ: (الضمُّ والفَتْحُ، و(فُوَاقُ النَّاقَةِ) هو: قدرُ ما يَكونُ بين الحَلْبَتَينِ من الوَقْتِ، أي ما بَينَ قَبْضِ الحَالِبِ على الضَّرْعِ وَإِرْسَالِهِ لَه).

. ولله در أبي إدريس الخولاني إذ يقول: (لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها). ويالها من عبارة موحية شديدة التأثير، لو عرضت على أهل زماننا اليوم، الذين استمرؤوا البدع، لخطَّأوا الخولاني، وقالوا بالغ. فبعقلهم أنّ سلامة المسجد هي الأصل، وماذا لو فعلت فيه بدعة..؟

. وهذا أثر موقوف على معاذ بن جبل رضي الله عنه، يبين فيه كيف تظهر البدع في الناس، تنبيهًا وتحذيرًا..! لكن لابد من التأكيد، أنّ له حكم الرفع رغم وقفه، حسب قاعدة المحدثين، مادام ما فيه ليس مما يقال بالعقل والرأي: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أنّه قال يوما: إنّ من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيه القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول ما للناس لا يتبعونني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره. وإياكم وما ابتدع فإنّ ما ابتدع ضلالة. وأحذركم زيغة الحكيم فإنّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم. وقد يقول المنافق كلمة الحق).

. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْكَلَامُ، وَالْهُدَى، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ).

فالدين نصوص واتباع، فلا حكم لغير قال الله، وقال رسوله .. ولا متبوع إلا المعصوم الوحيد، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

ورغم خطورة أمر الابتداع في الدين، فإنّه لا يُرى في زماننا تركيزٌ من أهل الدين، والدعاة على شر الابتداع، ومحاولة التصدي للبدع واستبعادها من حياة الناس، والتحذير الشديد من مغبة الأمر في الأولى والآخرة، فما السبب؟ سببان رئيسيان:

السبب الأول: الحيدة عن نصوص الوحيين

لقد كان من نتيجة احتكاك المسلمين مع غيرهم ممن دخلوا الإسلام بثقافات أممهم، وبخاصة أولئك المتأثرين بالفلسفة الإغريقية، أن ولدت أفكارٌ جديدة لدى بعض المسلمين الذين اختلطت عندهم قضايا الفلسفة بقضايا الدين، فأفرز ذاك التزاوج علمَ الكلام، والميلَ إلى تحكيم العقل في الدين والوحي. وأدى ذلك إلى مخالفة الوحيين للتقريب بين ما هو سماوي وما هو طيني..! فكان تأويل القرآن، التأويل المذموم، ورُدت بعض السنن. وماذا يعني ذلك غير أن تحل البدع وهي نتاج عقلي أرضي، محل السنن وهي وحي سماوي، وأن ينتقل الحكم في الدين في أحيان كثيرة إلى أقوال الرجال.

ولقد كانت البدع في الدين هي الأساس الذي قامت عليه الفرق المخالفة لـ (ما أنا عليه وأصحابي)، لذلك سُموا أهل البدع والأهواء والتفرق. وإنّ العقل والمنطق قبل الدين يرفضان وجود البدعة بين المسلمين، وبين أيديهم الوحيان، فكيف تتسللت البدعة إلى دينهم..؟

إنّ ظهور البدعة في الدين من ورائه سببان رئيسان: الجهل والهوى .. فأما الجهل فسببه الابتعاد عن نصوص الوحين، فيصبح المتكلم في الدين بعيداً عن النصوص جاهلاً، فيتكلم بما يمليه عقله، وذلكم المبتدع.

وقد قال عنه الشاطبي في الاعتصام: (وَهَذَا هُوَ الْمُبْتَدَعُ، وَعَلَيْهِ نَبَّه الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَقْبِضُ اللهُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عالمٌ اتَّخَذَ الناس رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا)).

وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: (تَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أنَّه لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ، مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وإنَّما يُؤتَون مِنْ قِبَلِ أنَّه إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله).

أما الهوى، نعوذ بالله منه ومن طغيانه، فحينما يتحكم الهوي في الدين فالحكم للبدعة: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

يقول الشاطبي، في الاعتصام، عن الهوى والبدعة: (اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، لأنَّهم اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التحسين والتقبيح. وَيَدْخُلُ فِي غِمَارِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَخْشَى السَّلَاطِينَ لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ مَعَ النَّاسِ بِهَوَاهُمْ؛ ويتأوَّل عليهم فيما أرادوا).

السبب الثاني: ظهور مصطلح جديد مضلل، وهو ما أسماه مبتدعوه (البدعة الحسنة)

فوجد المبتدعة في هذه المقولة ملاذاً قوياً يحميهم ويحمي بدعهم من النقد والتصدي والإسقاط، وانتشر المصطلح المضل، وكم يعجب العاقل من انتشاره وتخطيه الحديث الآتي في نفوس بعض المسلمين: (وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُعطي وصفاً عاماً للبدعة لا تقبل معه وصفاً ثانياً، بأنّها ضلالة، فكيف يسوغ لبشر كائناً من كان أن يُلغي وصف النبي صلى الله عليه وسلم للبدعة ويعطيها وصفاً مضاداً من عقله القاصر الخائب..! لقد حصل ذلك في غياب التمسك بالوحي وتحكم العقل والهوى، فكيف؟

بكل أسف يجد المرء نفسه مضطراً إلى القول: إنّ مصطلح البدعة الحسنة ولد من عقول علماء وليس من عقول العوام..! حينما أسفر الاحتكاك بين الفلسفة، متمثلة بعلم الكلام مع الدين، عن ظهور بدع العقيدة والتوحيد وخاصة في الأسماء والصفات، واستمرأ الناس مخالفة النصوص بالتأويل استجابة لداعي العقل، وظهر علم الكلام، ووجد بعض العلماء أنفسهم مضطرين للتوفيق بين الاتجاهات المتخالفة على أمل استيعاب المخالفين للنصوص وتذكيرهم، وردهم إلى الصواب. وذهب آخرون، من العلماء ممن قبلوا علم الكلام وتخريجاته العقلية، إلى قبول بعض البدع وتسميتها (بدعًا حسنةً)، وصاروا يدافعون عنها، فاخترعوا هذا المصطلح (البدعة الحسنة) ليواروا تحته مخالفتهم لما كان عليه النبي وأصحابه. وحُصرت متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بعناوين عريضة في الدين، وأجيزت المخالفة في أمور اعتبروها فرعية، تحت ذلك العنوان المخترع.

ولا يجوز أن نتغاضى عن مثل هذه المنعطفات الخطيرة تهيباً لأسماء لامعة كانت من المتورطين .. ولا أتحرج من ضرب المثل، شخصيتان مرموقتان في التاريخ الإسلامي قالتا بتقسيم البدعة، وقالا إنّ البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وهي الوجوب والكراهة والتحريم والندب والإباحة، وهما النووي رحمه الله، والعز بن عبد السلام رحمه الله، وتابعهما غيرهما ممن استحسن ذلك. ولسنا الآن بصدد تقصي كل من قال بذلك.

ولقد تصدى الشاطبي في كتابه الاعتصام، بعد أن ذكر كلام القرافي في تقسيم البدعة السابق فقال: (أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ أَمْرٌ مُخْتَرَعٌ، لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ مُتَدَافِعٌ; لِأَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ; لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ قَوَاعِدِهِ.

إِذْ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ مِنَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ; لَمَا كَانَ ثَمَّ بِدْعَةٌ، وَلَكَانَ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَوِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ [كَوْنِ] تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِدَعًا، وَبَيْنَ كَوْنِ الْأَدِلَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا أَوْ نَدْبِهَا أَوْ إِبَاحَتِهَا جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ).

ولا يُنسى دور التصوف وانتشاره في الأزمنة الأخيرة بين المسلمين، وما يمثله هذا التيار من بُعد عن النصوص، زهدا في أهميتها، بعد أن اخترع أقطابهم بديلا (حدثني قلبي عن ربي)، فكان إحداث الصوفية في الدين كبيراً وخطيراً لأنّ أكثره في العقيدة والعبادات. وبرز أساطين للتصوف، (كابن عربي، والتلمساني) وغيرهم، ممن لا يزالون يُذكرون بخير إلى يومنا الحاضر، حتى من بعض العلماء، رغم ضلالاتهم، وابتداعاتهم المبثوثة في كتبهم، والتي يصل بعضها إلى الكفر الصريح.

كل ذلك من إحداثاتٍ في الدين، ولدت وانتشرت، ورُوِّج لها، تحت تغطية تلك التسمية الجديدة (البدعة الحسنة).

ليس ما مَرَّ تغطية شاملة لبحث (البدعة في الدين)، إنّما هو تركيز على بعض جوانبه، اقتضاها شرح حديث: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ). لكنّني أحببت أن لا أغادر هذا البحث الشائق والشائك، قبل أن أردفه بكلام، مُكمِّلٍ ومفيد، محوره حديث عائشة رضي الله عنها: (من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام).

أقول ابتداء: الراجح أنّ الحديث ضعيف، وقد رفعه بعضهم إلى الحسن بتعدد الطرق لكن الضعف هو الأرجح. وقد أُسْأل، ما دُمتَ رجحتَ ضعفه، فلم أوردته؟

أجيب: لقد وجدت في لفظ الحديث معنى معبراً ورائعاً جداً فأعملت قاعدة تعلمناها من شيخنا الألباني: (إنّ الحديث قد يصح معنى ولا يصح مبنى).
وعلى هذا أوردته، وأشرت إلى ضعفه ولا حرج.

فإذا كانت البدعة تضاد السنة، فهي ليست من دين الإسلام، ومن يدين بفعل البدع فهو ليس على دين الإسلام الصافي بل هو يهدم الإسلام الحق بإسلام من صنع عقله وهواه. ومن يوقر مرتكب البدعة أمام الناس فقد أسهم بضرب معول هدم مع الهادمين أراد ذلك أم لم يرد. وهذا تحذير شديد لأنّ الكثير من الناس قد ابتلوا بالإزدواجية في الدين، يوم أذنوا لأنفسهم بتعدد مصدر التلقي .. إنّ تعدد الولاء مرفوض جدا في دين الإسلام، وإنّه لا يأتي بخير، ومن عجب أنّني سمعت أحدهم يقول: إننا نروم بذلك الاستمتاع بتعدد النكهات، وأقول لهذا المسكين، من باب التنزل مع الخصم، أوليست نكهة السنة وصاحبها عليه السلام، أشهى وأطيب وأعظم .. أوليس الاتباع في الدين هو الأسلم..؟ وكأنّ الدين مطعم أو مشرب .. أين هؤلاء ومن على طريقتهم من التحذير القرآني: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
فالذي وحد مصدر التلقي، ودان بالولاء لله ورسوله فهو مؤتمر بأمر جهة واحدة هي التي ستحاسبه يوم الدين (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) فهو على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. وهو على الطريق المستقيم، لا عوج فيه ولا أمتا .. أما من عدد ولاءاته لا يدري من يرضي من أصحاب تلك الولاءات وهم شركاء متشاكسون، يضيع عمره في حركات ومسارات التوائية متذبذبة لا تعرف ولاء ولا قرارا .. والحصيلة أنّه أرضى الكثيرين لكنه لم يرض الواحد القهار .. وكأنّ من المسلمين من لم يقرأ قول ربه (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ).
ولا قول نبيهم: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله الناس، ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس).

فالتجارة في الدنيا بكل أشكالها، حتى المتاجرة بالدين، لها نهاية، والباقيات الصالحات ما ابْتُغِي به وجه الله فقط. فليعلم كل امريء أين موقعه، وليعرف حقيقة عمله، لئلا يكون من الأخسرين أعمالا..؟ فالإسلام يهدمه رجال أدعياء، يرغبون عن نصوصه، واتباع نبيه، وهم يزعمون العمل له.

وذكر الشاطبي، في الاعتصام، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ بِذَهَابِ أَهْلِهِ. عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ; فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْتَقِرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ. وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ وَالتَّنَطُّعَ وَالتَّعَمُّقَ).

وفي الاعتصام أيضاً، عن ابن مسعود رضي الله عنه: (لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ: عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ، فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ)

ونعيد القول بأنّ هذه الآثار وإن كانت موقوفة، فلها حكم الرفع لأنّ ما فيها لا يقال بالرأي والاجتهاد.

والسلامة كل السلامة، للنجاة من البدع وشرها، ومروجيها وأهلها، أن يسيج الإنسان نفسه وعمله بالنصوص الصحيحة، ويلزم جادة الاتباع لنبي الإسلام، فإنّه لا يعصم من الزلل والانحراف في الدين، بعد توفيق الله، إلا ذلك .. وهذا صدّيق الأمة، أبو بكر رضي الله عنه، يقول:(لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ ذلك أن أزيغ).

ونختم حديث البدع، وهو طويل الذيل، ذو شجون، بهذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام: (أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّهُ يُسْتَدْعَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فَيُقَالُ: {هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ}).

يقول العلماء هم أهل البدع، كما قال بعضهم إنّهم المرتدون … والله أعلم، والحمد لله رب العالمين