Skip to main content

أَلَيْسَ لِقَوْمِيَ مِنْ آسِي؟

By الأثنين 29 ربيع الثاني 1437هـ 8-2-2016ممحرم 21, 1441مقالات

شاعر معاصر يصف تعثر حال المسلمين إثر حالة سياسية بائسة، كثر الجدل فيها وعنها فيقول:

أليس لقومي من آسي
يجلو الأوجاع من الراسِ
أو يُنصف بعضاً من كُلِّ

واليوم بعد هذا الحال المزري الذي وصل إليه المسلمون، وقد صار الخلاف بينهم على أشده في توصيف ما يجري، وكيفية التعامل معه، ويرى المراقب حال المسلمين يتلخص بمشاهد ثلاثة لا زالت بؤر جدال:

1. هل المسلمون بخير، أم لا؟

2. خلافات بينية بين المسلمين وجدال حاد، حول مسائل في الاعتقاد، والفقه، وقواعد العمل، لم ينته، تنعكس على وحدتهم، وبالتالي تُعثر الخروج من المشكلات.

3. وهذا المشهد نتيجة لسابقيه، وهو خلاف حول كيفية معالجة الخلل.

ولا أريد الدخول في مناقشات ومعالجة معمقة للموضوع، إنّما إشارات لمواطن الخلل، لعلها تحظى باهتمام من هم حفيون بالإصلاح، وذلك من باب النصح، المأمور به شرعاً.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، هل الخلافات بين المسلمين، وفي الأحوال الثلاثة المذكورة، لا يجدي فيها نقاش، ولا يثمر نتيجة، فهي كما يقول أهل الرياضيات معادلة مستحيلة الحل، فيسكت جهابذة ذاك العلم أمام تلك المقولة..! وإذن فليسكت كل أحد كما سكت أهل الرياضيات، وهم ولا شك أهل منطق. أما إن كانت الأخرى، والحلول ممكنة، فلا بد أن تتحرك النخب، لا، للجدل العقيم، من جديد. بل للبحث عن العوائق والموانع، التي تعترض تشخيص أو تنفيذ الحلول..!

وأقول إنّ المسألة أبسط من أن ينفق فيها الساعات، وقد مضت القرون وهي تدار حولها الحوارات والسجالات دون نتائج. وقبل أن أوضح أكثر، أؤكد أنّي لا تعنيني إلا الحلول الشرعية، التي هي أصل معالجة كل خللٍ في حياة المسلمين. وأريد أن أقول بجملة أو جملتين، ملاحظة هامة، بل قاعدة عامة:

إنّ كل مسألة تتعلق بالمسلمين لا يجوز أن يطول حولها الجدل، لأن تحريرها وتقريرها ليس مصدره الفكر البشري الأرضي، إنما
الحلول جاهزة، وعلى العقول أن تتلمسها في نصوص وتعاليم
الإسلام.

ويُبعد هذه الحقيقةِ عن إدراك كثير من المسلمين، قناعتُهم، أنّ المسلمين جزء من سكان هذا الكوكب، فلِمَ يكون لهم هذا التميز..؟ وأقول إنّ هذا التميز ليس اختياراً أو ادعاءً، بل هو واجبٌ بل حتمٌ؛ لأنّ المسلمين هم الوحيدون الذين يملكون ثوابت تستمد قوتها من العقيدة بين أهل الأرض كلهم … بغض النظر عن موقف الآخرين من ذلك، تصديقاً، أو تكذيباً. أما بالنسبة للمسلمين، فلا يُقبل منهم ترك العمل بتعاليم الإسلام، في معالجة مشكلاتهم، أياً كان نوعها، والله سائلهم. أو يقولون نحن بشر كسائر أهل الأرض نتعلم من تجاربهم، وما يُصلح حالهم يصلح حالنا، وقد سبقونا، أشواطاً، بتجارب حياتية وصلت بهم إلى مسلمات، يشهد لها الواقع والتاريخ، لا يسعنا أن نوليها ظهورنا، وبذلك يخلعون عنهم ربقة الإسلام، عياذاً بالله.

ولا بد أن نعترف أنّ لهذه الرؤية تياراً جارفاً في المسلمين، يتولى كبره العلمانيون، وينافحون عنه. وبعض نخب المسلمين و(مفكريهم)، إن لم أقل أكثرهم، موافقون على ذلك، بِصُماتهم وهمهماتهم، وبعض البارزين في تنظيمات الإسلام السياسي، صرحوا بذلك يوم وافقوا على الحلول الديموقراطية والإذعان لصناديق الاقتراع، وليس ذلك بخافٍ. أقول ما قلت وأنا أستحضر عبارة لصديق من دعاة بلاد الشام يقول: (الحقيقة المرة خير ألف مرة من الوهم المريح).

فأين الصوت الإسلامي المؤصل في خضم ما يجري..؟ وأين هدير التيار الإسلامي الحق..؟ أقول بكل صدق وواقعية هو كيان لم يتبلور بعد، ولم يَصْطَفَّ ليتحرك، فيُسمعَ هديره، بل لا يزال راكداً، يتحرك أو يتكلم على استحياء حتى يأذن الله له بانطلاق، لأنّ ارتباطه بحضور الأمة الغثائية الغائبة
وثيق، إن حضرت حضر معها .. وخفاؤه لأنّه لا يجامل علمانية (تؤسلم نفسها)، دعاية وترويجاً لمسلكها، ولا يعترف بإسلام سياسي، يمسك العصا من الوسط بين الدين والسياسة المعاصرة الناشطة في صالونات السياسة ومطابخها لدى أمم الأرض، وما يُدرى أي الخيارين سيمسك في النهاية..!

ويرفض بشدة الظهور القوي المفاجيء (للخوارج) الذين يظنون العمل للإسلام الحق، قعقعة سلاح، وممارسات ومشاهد عنف، وقتل ودماء، يسمونه زوراً جهاداً في سبيل الله، وفي حقيقته جهاد في سبيل (أجندات خفية)، استعصت على المحللين، حتى الآن .. وادعاءً، أشد زوراً، في قيام دولة الإسلام .. وكل ذلك، الإسلام منه براء.

فلا زال ذلك التيار الواعد يعيش غربة الحق التي حدث عنها الرسول
صلي الله عليه وسلم (طوبى للغرباء). وسيظهره الله بإذنه على الدين كله ولو كره الكارهون.

والتيار الذي نتحدث عنه، هو جموع المسلمين، المستمسكين بالعروة الوثقى، المنتمين لمسمى (الفرقة الناجية)، الحريصين على ضبط تدينهم بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وهو اختيار النبي عليه السلام لمن يريد النجاة حين افتراق الأمة. وليسوا فئة تخرج عن جماعة المسلمين الواحدة، فتعزل نفسها لتتميز من أجل مصالحها..!

لم يبق أمام المسلمين، وقد أضاعوا من الفرص الكثير في تجربة كل الحلول، إلا المؤصلة شرعياً، في معالجة انتكاساتهم المتكررة، بل مصائبهم، ولم ينالوا حتى الآن خيرا..! إلا شيء واحد، استبعدوه من تجاربهم البئيسة الفاشلة، وهو الحل الحاسم والأخير، بالعودة إلى الله، وإلى الدين الخالص (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) من خلال منهج (ما أنا عليه وأصحابى). وفي ظني، والله أعلم، أنّ بينهم وبين هذه القفزة النوعية، التي لا بد منها، عائقين:

أولهما: عامل الزمن .. فلبعد الناس، زماناً طويلاً، عن التأصيل والموضوعية والواقعية، هيمنت عليهم فكرة العصا السحرية، أو عصا موسى عليه السلام، في معالجة قضاياهم التي يتصدرها (المتعجلون). وهذا ما حال دون النجاح. وحينما تكون المشكلة (غياب أمة)، لا يُعدُّ الزمن عندها بالساعات والأيام والشهور، بل بعشرات السنين، وهي أصغر وحدة للعد..! ولننظر إلى الحاضر، فقضية فلسطين، منذ بدأت كان المتعجلون يقدرون الانتهاء منها، في بضع سنين، وها هي قد دخلت عامها السبعين، والله أعلم بالمتبقي .. ولنعود إلى الوراء لنستدعي شاهداً على قضية الزمن، من مدة بقاء الصليبين في فلسطين، فماذا حقق المتعجلون..؟

والشيء الذي ضُيِّع، بسبب عدم صحة تشخيص الحلول، هو عدم تطوير الذات المسلمة، تربية والتزاماً، لأنّها الأساس والقاعدة الصلبة للتغيير والإ صلاح، للانشغال بتلمس الحلول السطحية خارجياً، لأنّ كل المشتغلين كانوا يرون الحل، في المؤسسات الأممية، وعند الدول الكبرى، وقد فاتهم قول ربهم: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)… وهذا الخطأ نفسه يتكرر الآن في المسألة السورية، بل مسألة المنطقة كلها، التي باتت على شفا الانفجار، وستكون له النتائج نفسها، وبدأت الآن تتأكد هذه الدلائل من مخرجات جنيف3.

ثانيهما: أقول بكل يقين وجرأة: إنّ تأخر إيجاد أي حلٍ لمشكلةٍ في حياة المسلمين الفردية أو الجماعية، سببه أنّ الأهواء تعصف بكل محاولة للوحدة، والاصطفاف معاً على طريق الحل المؤصل والمتفق عليه. وللهوى فعلان في الحياة الإسلامي، لكنهما واحد في النتيجة … ففعل فردي يحول بين الإنسان والاستجابة لله ورسوله حينما يدعى إلى الحياة الطيبة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) .. وهذا التعثر الفردي على طريق الله يورث خللاً في حياة الجماعة المسلمة، لأنّه يحول دون وحدة الجماعة المسلمة على طريق الله، وبالتالي على أي أمر جامع نافع. ومن ثمَّ فالعلاقات البينية بين المسلمين تكون في أسوأ حال، ولا تؤهلهم للصمود في وجه أي تحدٍ، داخلياً كان أم خارجياً … والأخطر أنّ تلك الحال تفقدهم أهلية استقبال عون الله ونصره (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). فإذا حكم الهوى حياة المسلمين، وتمكن بسبب غياب المنهج من جهة، وقوة الصوارف عن الحق، في الواقع المعاش المعاصر، من جهة أخرى. فقَدَ المسلمون كل رصيد عند ربهم وعند الناس، وهذا حال المسلمين اليوم. فلا بُد للهوى أن يغيب، ولنستعرض بعض النصوص القرآنية المحذرة من غلبة الهوى.

الأنبياء والرسل حُذروا قبل غيرهم من الهوى. الله تبارك وتعالى يخاطب نبيه داود: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). ولندقق النظر في الخيارين اللذين وضعهما الله أمام نبيه داود عليه السلام: الحق أو الهوى؛ إن لم تكن في واحد ففي الآخر لا محالة.

ونبينا عليه الصلاة والسلام يُحَذَّرُ من أن ينحاز إلى أهواء من يدعو، طمعاً في استجابتهم له (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ). ويشتد التحذير إلى تهديد، ولمن؟ لمحمد عليه السلام، وكل ذلك تعليم لنا، فهل نعي..؟

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). وتزداد النذارة للنبي ولمن حوله إيضاحاً ووعيداً (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ).

فاشتملت هذه الآية على تحذير النبي عليه السلام من أن يُستدرج إلى المساومة، والتنازل عن الوحي، وتؤكد على ضرورة صلابة النبي أمام عروض المساومة، وأنّ الرحمة في هذه المواطن لا تنفع. وعليه أن لا يطالبهم ولا يرضى منهم إلا الاستجابة، وإلا فإنهم إلى العذاب صائرون، بما كسبت أيديهم. أوليست هذه الآية ومثلها كثير، توجيهاً وتعليماً لنخبنا ودعاتنا..؟

وآية القصص عندي أنها أوجزت الكلام في الهوى، مع بيان واضح لحال الناس معه، فكان الاختصار المتوعد أنّ الناس مع النبي عليه السلام إما مستجيب لدعوة النبي، أو متبع لهواه، ولا يقبل أي تبرير، ولا حاجة للاستفصال والمناقشة (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وكأن الناس لم تعد عبارة اتباع الهوى تخيفهم. فما هو اتباع الهوى؟ إنه ضلال وتكذيب لما جاء من عند الله (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)،(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ). ونبه القرآن الكريم على قضية خطيرة، وأراها تحذيراً للنخب، في أنّ الهوى قد يعصف بالعلم وأهله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

فيا كُلَّ من يسوؤه حال المسلمين اليوم، ويَلفُّه الإحباط من كل جانب، ويصيبه اليأس من كل أهل الأرض، إخلع عنك رداء الهوى، والبس لباس التقوى والاستجابة والاتباع، وقِ نفسك شرّ تيارات الفرقة الجارفة والتي هي من فعل الأهواء، بأن تنضم إلى الركب الواعد أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وهم جماعة المسلمين الكبرى، التي لا تستثني إلا من استثنى نفسه من اتباع النبي عليه السلام، ولا تقصى إلا من أقصى نفسه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، لتحقيق أبرز الأهداف وهو حضور الأمة بعد غيابها، ومِنْعَتها بعد غثائيتها، ليأتي بعد ذلك كل خير، حين نعيش أعزة، في كنف الأمة .. واتخذ لنفسك شعاراً بُثَّه في أقرانك (الموت سائراً على الطريق الصحيح، وليس قاعداً خارجه تفكر وتنتحب).. والله من وراء القصد