إذا قلنا إنّ الاختلاف في المسائل الشرعية في القديم والحديث، يصح أن يوصف بمقولة (ماليء الدنيا وشاغل الناس) لا نكون متجاوزين. وما أكثر ما قيل وكتب في الاختلاف قديماً وحديثاً، وتحديداً عن شرعيته، وأنّ الدين يقبل ذلك حتى أبعد بعضهم النجعة فقالوا: (الاختلاف رحمة)، ومنهم علماء، بل رددوا الحديث الموضوع (اختلاف أمتي رحمة)..! ولم يأت أنصار الاختلاف، والدعاة إليه، بما يُعَوَّل عليه ويستحق الوقوف معه.
وأحب أن أنبه كل من يريد الحق، لكنّه يغيب عنه في تهويمات أعدائه، أنّ المخالفين للحقّ، ولا حقَّ غير وحْيَيْ السماء، يُطيلون الجَعْجَعَة بلا طِحْنٍ، وهذا من طبيعة المدافعين عن الباطل، لأنّهم بذلك يكسبون العوام والجهال، لتكثير سوادهم. وقد جاء في (سير أعلام النبلاء) و(إعلام الموقعين): (قِيلَ لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ: مَا لَك لَا تَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ؟ فَقَالَ أَيُّوبُ: قِيلَ لِلْحِمَارِ مَا لَك لَا تَجْتَرُّ؟ قَالَ: أَكْرَهُ مَضْغَ الْبَاطِلِ)..!
أما الحقّ متمثلاً بالوحي المنزل، فبالجملة الواحدة، يبين المنهج الحق إلى يوم القيامة، يعيه ويفهمه كل أحد، إلا صاحب هوى..! ولنضرب مثلا بقوله تعالى في تبيان منزلة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في دين الإسلام: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وبحديث تعريف البدع وذمها: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، وحديث وصف الفرقة الناجية (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)، كلمات معدودة، ومعانٍ ودلالاتٌ واضحةٌ مقصودة … فالحق ما دام لا يصادم الفطرة البشرية، بل إنّها خلقت لتقبُّلِه، فلا يحتاج كلاماً كثيراً لتقديمه للبشر. أما الباطل فلمصادمته الفطرة، التي فطر الله عليها الناس، فطريقه إليهم اللف والدوران وتشقيق الكلام..!
ولا تجد في كل ما سطَّر المنافحون عن الاختلاف غَناءً، إلا نصين، يتكؤون عليهما، بعد أن أخضعوهما بالتأويل الخاطئ، ليواطئا مرادهم. والنصان هما:
النص الأول: قال تعالى في سورة هود: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
وإن تعجبْ فعجبٌ أن يقف المرء على تفسيرات غريبة للآيتين، وأغلب الظن، أنّ سبب غرابتها أنّ أصحابها اعتقدوا قبل أن يستدلوا فجاء استدلالهم منحازاً لاعتقادهم الزائغ، وأبرز تلك التفسيرات:
1. تفسير قوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أيْ إنّ الاختلاف أمر لازم في حياة الناس، حتى في مسائل الدين، وأنّ كل محاولة لتذويبه أو رفضه مخالفة لأمر الله..!
2. تفسير قوله تعالى: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، أيْ إنّ الله خلق الناس للاختلاف فعلامَ نضيق ذرعاً بالاختلاف..؟
وأما التفسير الصحيح للآيتين، بعيداً عن تعقيدات وتأويلات من أرادوا توظيف الآيات لصالح الاختلاف، هو ما يلي، ملخصا في نقاط ثلاثة:
1. إنّ الله لم يشأ أن يتدخل في اختيار الناس فيصبغهم بصبغة واحدة فيما يتعلق بالاختيار بين الكفر والإيمان، لأنّ مناط حسابهم يوم القيامة هو ذلك الاختيار، الذي عبرت عنه آية الكهف بالمشيئة المثبتة للعبد، والتي أذن بها الله تحت مشيئته (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وتأتي آيات التكوير بزيادة بيان (لمن شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). هذا في ما يتعلق بأمر الدين، أما في غير ذلك فسيأتي بيانه إن شاء الله.
2. إنّ الأمر الكوني في حق الناس أن يختلفوا ما داموا يصدرون عن عقولهم وأذواقهم وأهوائهم وأفهامهم وثقافاتهم، ولا مشكلة في ذلك .. أما حينما يتصل الأمر بالدين فلا يجوز أن يصدروا إلا عن أمر واحد جامع وهو طاعة ربهم باتباع الوحيين واتباع النبي .. وهذا ما يُعبر عنه بالأمر الشرعي، ويغدو أيُ صدورٍ مخالفٍ لهذه القاعدة، ميلاً عن جادة الصواب، وانحرافاً عن سبيل الحق .. وهذا ما جاء التعبير عنه في آية (هود) بالاستثناء في الآية (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فالمرحومون من الاختلاف المهلك، في الدين، هم التاركون لكل منزعٍ غيرِ اتباعِ الوحي .. وبذلك ولذلك رُحموا، وليس بالاختلاف.
3. (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) وقد تاه من تاه في هذه العبارة، حين فهم أنّ الله خلق الناس للاختلاف .. والصحيح أنّ الله خلق الناس للاهتداء بالوحي المنزل وليس للاختلاف فيه..! خلقهم ليرحمهم باتباع ما أُنزل عليهم، ومَن أُرسل إليهم، وليس ليعذبهم بالاختلاف فيه..! ولا بأس أن نقول، مكررين، إنّه خلقهم للاختلاف في كل شأن غير الدين، لاختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين عقولهم، وتضارب أهوائهم، وهم ليسوا مؤاخذين في ذلك.
وبعد هذا التفسير الواضح لآيتي هود، لا أجدني قادراً أن أخفي دهشتي، ولا أن أكتم استغرابي، من مواقف علماء في القديم والحديث فهموا من الآية عدم التثريب على المختلفين في الدين..! وصاروا يحتجون بالآية في وجه كل من يحذر من الاختلاف في الدين، وينكر التمادي فيه.
وأهم مفتاح لإزالة أي لبس أو إشكال في فهم آيتي هود الإلمام الدقيق في الفرق بين الأمر الكوني القدري، والأمر الشرعي. فقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أمر كوني قدري، فهل نحن متعبدون بالأمر الكوني القدري..؟ لا، وإنما بالأمر الشرعي، لنعالج به الأمر الكوني .. والأمر الشرعي في الآية هو قول ربنا: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) وهل يضع المسلم نفسه مع من (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) قدراً، أم يجعلها مع (مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) شرعاَ..؟ وهل رحم ربك الآخِرين إلا لأنهم لم يختلفوا..؟
فرق كبير بين أن نرفض فكرة الاختلاف واقعاً وقدراً، ونضيق بوجودها ذرعاً، وهي من طبيعة الإنسان، فتهلكنا الدوامة، وتستهلكنا الخصومة .. وبين استيعابها لئلا تكون أداة للفرقة والشنآن، مع السعي الحثيث إلى تذويبها بالعلم، والدعوة بالتي هي أحسن، وبعبارة أخرى بالمعالجة الشرعية وفق الضوابط الشرعية، والعلائق والأخلاقية .. أما الاستسلام لظاهرة الاختلاف التي فشت في المسلمين، وهي في ازدياد، ثم نستر تقاعسنا عن معالجتها الشرعية، واحتوائها، بجعلها أمراً شرعياً مبرراً مقبولاً، فهذا وايم الله، بهتان عظيم.
النص الثاني: حادثة بني قريظة…
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ).
ولقد استنتج من لم يستطيعوا التحرر من شد مسبق لأمر الاختلاف، أنّ كل أمر شرعي يمكن أن يفهم بأكثر من فهم، وأنّ العمل بكل تلك الأفهام جائز شرعاً، مستدلين بإقرار النبي عليه السلام فريقي الصحابة على اختلافهم، ومن هذا الفهم أوتوا..! فلنفترض أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) حثهم على الأسراع في التحرك إلى بني قريظة، وهو الراجح .. فالذين فهموا هذا الفهم وقفوا للصلاة حين حان الوقت، وهو مراد النبي عليه السلام، فلمَ لمْ يعنِّفِ الفريق الآخر، ويقول أخطأتم بتأخيركم الصلاة عن وقتها..؟ وهنا يكمن السر الذي فات الكثيرين..! إنّ الذين أخروا الصلاة إلى حين الوصول، خالفوا ما أراده النبي باجتهاد، ولكن اجتهادهم كان سائغاً وغير خاطيء، لأنّ الآمر لهم رسول الله، وهو المُشَرِّع، وله أن يأمرهم بتأخير الصلاة عن وقتها، وليس عليهم إلا الطاعة .. ولذاك الفهم والفعل من بعض الصحابة مسوغٌ كبير، كان يعلمه النبي عليه السلام، وهو أنّهم كانوا قبل أيام مع نبيهم في غزوة الأحزاب، وأخر النبي عليه السلام صلوات ثلاث عن وقتها لانشغاله بالقتال، وصلاها جميعاً ليلاً .. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هويّ من الليل حتى كُفينا، وذلك قول الله تعالى: (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً)، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره فأقام فصلى الظهر وأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام للعصر فصلاها كذلك، ثم أقام للمغرب فصلاها كذلك، ثم أقام للعشاء فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف: (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً)).
ولا بد من التنبيه الهام الآتي: إنّ استعمال عبارة أنّ النبي عليه الصلاة والسلام (قد أقر الفريقين) من الصحابة على فعلهم، خطأ كبير، لأنّه خطأٌ على رسول الله نفسه، والحديث بكل رواياته جاء بلفظ: (فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ)، والفرق كبير..! فما كان النبي صلى الله علي وسلم ليقرهم على شيء لم يُرده منهم. فحين أمرهم (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) كان ولا شك يُريد منهم أن يفعلوا شيئاً واحداً، فلم يكن متردداً، ولا ينبغي له..! ولكنه لم يعنِّف الفريق الذي خالف مراده، لمَّا كان اجتهاده في تأويل أمر النبي سائغاً، للسبب الذي ذكرنا، وإن كان مخالفاً لما أراده ابتداء. ولنفترض جدلاً أنّ الآمر للصحابة كان أبا بكر، أو أي خليفة غيره، فهل كان المأمورون من الصحابة يختلفون..؟
وبالنتيجة نقول: إنّ حادثة بني قريظة واقعة عين لا عموم لها، ولا يُقاس عليها مثيلاتها لأنّها لن تتكرر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (لكونه الآمر للصحابة وهو المشرع). ولا يجوز أن تصبح عنواناً لتجويز الخلاف وتبريره. والقول إنّ الاختلاف في فهم النصوص والأوامر الشرعية جائز وسائغ شرعاً، بدعوى إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك. ولقد رأيت، وسمعت هذا الكلام لكثيرين من أهل العلم، قديماً وحديثاً، تجنٍ على الحقيقة، وتحريفٌ للكلم عن مواضعه، وخطأٌ كبير في الاستدلال بحادثة في السيرة، واقتطاعها من سياقها الذي لا تُفهم على وجهها إلا به، كل ذلك موافقة لهوى الاختلاف … والحمد لله رب العالمين