الشيء الذي يجب أن يُعلم قبل أي شيء آخر، أنّ علم التجويد علم لغوي وليس علما شرعياً، وهذا خلاف ما يعتقده أكثر العلماء، حتى الكبار منهم. وبدايةُ علم التجويد كانت من السليقة العربية في النطق الصحيح فهي التي أملته، وليس من علماء اللغة .. لذلك أقول: الجاهليون في الجاهلية كانوا يتقنون أحكام التجويد أكثر من شيوخ القراء اليوم في أي بلد مسلم، لأنّ العرب لهم سليقة كأيّ قوم، حتى الذين يتكلمون غير العربية فلهم في نطق لغاتهم تلك السليقة الخاصة بهم.
لذلك يصح أن نقول: إنّ أحكام التجويد هي أحكام نطق اللغة العربية الصحيحة كما كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأحكام التجويد ليست خاصة بالقرآن الكريم، بل بالنطق العربي الصحيح.
واليوم صار، عند بعض المشايخ، أنّ من تمام ثواب قراءة القرآن أن نأتي بأحكام التجويد كما نطقها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونحن قد بعدنا عنهم قروناً طويلة، فقد تغيرت آلية النطق عند أجيالنا .. ثم إنّ احتكاكنا مع لغات أخرى غيّر بعض الشيء في طريقة نطقنا .. كما أنّ سلائق الناس في نطق العربية تغيرت لبعد العهد بالأصول.
ورأى المتحمسون للتجويد أنّه من أجل نطق القرآن الكريم كما كان ينطقه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا بد من التدرب على علم التجويد، هذا العلم الذي دونه العلماء وليسوا هُم من وضعه، فقد تم أخذه من طريقة نطق العرب.
والصحابة، وكذلك أهل الجاهلية، لم يكونوا يعلمون أحكام التجويد، كأحكام النون الساكنة والإدغام والإخفاء والإقلاب، إنّما كان ذلك سليقة عندهم. هذا كحركات الرفع للفاعل، والنصب للمفعول والجر للمضاف إليه، ولم تكن لديهم أي معرفة بالإعراب، ومع ذلك لم يكونوا يلحنون .. ثم دونت تلك السليقة العربية، ووضعت لها القواعد، لتصبح فيما بعد علم النحو. وعلم التجويد من هذا القبيل .. ثم جاءت مجموعة من العلماء في القديم غلوا في علم التجويد حتى قالوا:
والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم
هذا ليس صحيحاً، لأنّ علم التجويد علم لغوي من فاته لم يأثم شرعاً، ونحن لا نُطالَب أن ننطق القرآن الكريم كما نطقه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون الأوائل فذلك يستحيل، لأنّ طبيعة نطقنا تغيرت، ولكن قد يمكن الاقتراب شيئا ما من ذلك، وليس واجبا.
ولماذا نرفض قولهم: (والأخذ بالتجويد حتم لازم…)؟ نقول لو أنّ أعجمياً دخل في الإسلام وآلية النطق عنده لا تهيؤه للفظ بعض الحروف، فهل يبقى العربي أفضل منه لأنّه أتقن النطق..؟ لا يمكن هذا لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرتب ثواباً أو عقاباً على فوارق خَلْقية بين الناس، وهذه قاعدة عظيمة .. أي كل شيء يرتبط بمهارات خَلْقية، فلا تفاوت في ثواب الناس عليه. أما الفوارق الإرادية فهذه التي يترتب عليها الثواب والعقاب. لأنّها من اجتهاد الناس وكسبهم. ولذك كانت القاعدة العظيمة في الإسلام (كل تكليف يسقط بالعجز عنه مع بقاء ثوابه).
ومثال ذلك: حفظ القرآن الكريم، فبعض الناس يحفظ وينسى، وبعضهم يتقن الحفظ، فهل يحاسب الله على النسيان؟ الجواب: لا، هناك كثير من الناس يجهل هذا الأمر، وهناك مجموعة من الأحاديث تتوعد مَن حفظ القرآن ونسيه أو نسي بعضا منه، ولكن ولله الحمد أنّ جميع تلك الأحاديث ضعيفة. لماذا؟ لأنّه لا يمكن أن يرتب الله تبارك وتعالى بعدله عقوبة أو ثواباً على أمر ليس من كسب الإنسان.
علمونا أحكام التجويد وبالغوا فيها، والحق أنّ هناك أحاديث تؤكد عدم صحة مبالغتهم، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ).
ولا يمكن أن يصبح كل أعجمي مجوداً في القرآن كالعربي، ومن هنا فلن يعاقبه الله من أجل مسألة خَلقية.
ثم إنّه عندنا حديث يُعرِّف حسن قراءة القرآن: عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ). واختلف العلماء في تعريف كلمة: (أَقْرَؤُهُمْ) فقالوا أحفظهم، وقالوا أتقنهم للتجويد وغير ذلك، لكنّ التعريف الصحيح ما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنّه يخشى الله). وفي حديث آخر: (إنّ من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنّه يخشى الله).
إذاً سبب ذلك تفاعلٌ بين القرآن ونفس القارئ وقلبه، فتخرج القراءة إخراجاً مميزا، لأنّه تفاعل مع المعاني، أكثر من كونه انشغالاً بالحروف لتحسين أداء التجويد .. وهذا في الحقيقة يجعلك تستمتع بالصلاة خلف بعض الأئمة فتشعر بالخشوع، ليس لأنّه يأتي بأحكام التجويد، بل لأنّه يتفاعل مع القراءة. فالتفاعل مع القراءة هو الأصل.
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (أبطأت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء ثم جئت فقال: (أين كنت) قلت: كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد. قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له ثم التفت إلي فقال: (هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا)).
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: (اسْتَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَتِي مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: (يَا أَبَا مُوسَى اسْتَمَعْتُ قِرَاءَتَكَ اللَّيْلَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ مَكَانَكَ لحَبَّرْتُ لك تحبيراً).
إذاً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ممن يتقنون مخارج الحروف وأحكام التجويد، لكن تميزوا بأمر آخر وهو: التفاعل، أي التفاعل بين القراءة والنفس، فخرج الأداء أداءً مؤثراً.
من هنا نقول إنّ المبالغة في علم التجويد تُفضي إلى ترك علوم هي أهم منه كالعقيدة والفقه والحديث، فالمسلم عليه أن يحاول إخراج الحروف من مخارجها الصحيحة قدر استطاعته ولا يتكلف ما لا يطيقه، وينفق فيه الوقت دون طائل. وكان الإمام أحمد يقول عن قراءة حمزة: (أنا أكرهها، قيل له: وما تكرهه منها؟ قال: هذا الإدغام والإضجاع الشديد). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: (قال أبي: أكره من قراءة حمزة الهمز الشديد والإضجاع).
والخلاصة .. فالمسلم عليه أن يتقن مخارج الحروف وإن لم يتقن الإدغام والإخفاء، وإذا صار يقرأ القرآن واضحا مفهوماً فحسبه هذا، وليلتفت إلى العقيدة والفقه وإلى تفسير القرآن وتدبره ليعلم مراد الله عز وجل منه، ويعرف طريقه إلى الجنة … والحمد لله رب العالمين