Skip to main content

الدِّينُ الحَقُّ

By الخميس 26 ربيع الأول 1439هـ 14-12-2017ممحرم 20, 1441مقالات

في مجلس مناسبته (وليمة عرس)، تمنى علي صاحبها الحديث عنها، فتكلمت وأسهبت. وأكثرت من القول إنّ (وليمة العرس) سنة مضيعة في هذا الزمان. ولما انتهى الحديث، سادت المجلس مناقشات أصفها بالنافعة كان أبرزَها سؤالٌ شغل في المناقشات حيزا كبيرا. وظل حاضرا في الذاكرة فرأيت أن أخرجه ليكون منه بإذن الله نفع. واخترت له عنوانا (الدين الحق). كان السؤال الذي كان منه المنطلق: إذا كانت وليمة العرس واجباً شرعياً تؤيده الأدلة التي ذكرت. فما سر اختفائه من حياة المسلمين، وخفائه على كثير من المتدينين؟

وكان مني جواب سريع، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ). رواه مسلم .

ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الغرباء قال: (طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

ويوم يصبح الدين الحق غريبا، لا يعرفه، ولا يطبقه إلا الغرباء. أما بقية الناس فالذي حال بينهم وبين الغربة المحمودة في الدين، أنّهم لم يكونوا في دينهم على المنهج الحق (ما أنا عليه وأصحابي)، فيضبط لهم المسار، ويقيهم الزلل والانحراف، فصاروا عرضة لتلاعب الهوى بهم، وحكَّموا في دينهم تقليد الرجال، فأبعدهم عن الاعتصام بالوحيين، فغاب عنهم ما غاب من أمور الدين، وباختصار لم يكونوا على الدين الحق.

وانبثق من الكلام السابق سؤال جديد: إذا كان الدين واحداً، والقرآن واحداً، والسنة واحدة .. فلِم يكون في المسلمين غرباء وغير غرباء؟ وهل الغربة تغير أحكام الدين وتعاليمه؟

قلت: إنّ الغِيَرَ لا تصيب الإسلام وأصوله، إنّما تُصيب المسلمين. ولنمعن النظر، ولنعمق النظرة، في مفهوم الغربة والغرباء الذي نستخلصه من الأحاديث، ولنضف هذه الرواية لنستكمل الفكرة؛ يقول عليه السلام: (إنّ الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس).

فالدين في آخر الزمان غريب .. والسنة والهدي النبوي في غربة أخص بين الناس .. والمستمسكون بذلك غرباء .. وأصدق وأجمل وأدق ما قيل في ذلك كلام ابن القيم عليه رحمة الله: (فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة).

والغربة في الدين آخر الزمان شرف وفخر وسعادة، لأنّها شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبها أنّه على الحق، وإنْ كثر مخالفوه ومعارضوه وذاموه ومبغضوه ومحاربوه.

ويضيف ابن القيم: (ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يدعوا إلى غير ما جاء به ، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم..!

ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي، التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا. وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم. فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم..!

فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول..؟ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم .

فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقها في سنة رسوله، وفهما في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه، فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم. وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا. فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف).

ولن تجد أخي القاريء كلاما عن الغربة يروي الغليل، كالذي بين يديك فعَضَّ عليه بالنواجذ.

ولا زلنا مع السؤال الملح: لم تكون الغربة، ولم يكون المسلمون غرباء وغير غرباء ما دام الدين واحداً؟

إنّ العامل الفاعل والحاسم والقاطع في ذلك، منهجية التدين، وأسلوب التطبيق. وبكلمات أخر: إنّه الفرق بين تدين يقوم على الاتباع، وهو الأصل الأصيل، والركن الركين، الذي لا يقوم دين الإسلام إلا به وعليه، وتدينٍ فارقَ الاتباع إلى الابتداع. فلا يستوي متبعٌ ومبتدع، ومتبعٌ ومقلد، ومتبعٌ للمعصوم وصادرٌ عن عقل أو عاطفة أو هوى .. إنّه الفرق بين الدين الحق ودينٍ خلط بين وحي السماء، وترابية الأرض.

ومن هنا ستتضح الفوارق، وتظهر الحقائق، ويعلم كل أناس مشربهم، وما هم عليه في دينهم، أهُمْ للدين الحق
متبعون، أم هم عنه ناكبون..؟ وقد جعل الله لنا هذه المسألة في ثنائية تحسم الأمر وتقطع الجدل وتنفي المراء: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .. فالدين الحق هذه مرتكزاته وثوابته. وثنائية أخرى علمناها ربنا حول الفكرة نفسها، قال تعالى: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). الحق أو الهوى، وفي الآية السابقة، الاستجابة الكاملة والسريعة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو الهوى .. ومن أحدث بين ركني هذه الثنائيات شيئا، فقد بدل في دينه.

إنّ تدينا يحيد عن طريق الاتباع. تدين قام على الهوى وعلى كل ما يندرج تحت الهوى من تفريعات .. فهو ليس بالتدين الحق، القائم على الدين الحق .. إنّها حقيقة قرآنية لا تقبل الجدل والمناقشة.

والآن لنكمل الكلام في التعريف بالدين الحق، بتأصيل وتفصيل:

* إنّ ترك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم عجزٌ عن تقديمِ برهانٍ طالب الله به مدعي حبه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ). وذلك ليس بالدين الحق.

* إنّ ترك اتباع المعصوم إهدارٌ لأصلٍ من
أصول الإسلام: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). وذلك ليس بالدين الحق.

* إنّ ترك اتباع صاحب الرسالة، إخلالٌ في تطبيق الشق الثاني من كلمة التوحيد (وأشهد أن محمداً رسول الله)، ووقوعٌ في شرك الرسالة والاتباع، وهو في خطورته، كالوقوع في شرك الألوهية والعبادة. وذلك ليس بالدين الحق.

* إنّ ترك اتباع الرسول تفرقٌ في الدين وتشتيتٌ للأمة، وهو ما أعلن الله براءة نبيه منه ومن أهله في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ). وذلك ليس بالدين الحق.

وفي الآية الكريمة قراءة سبعية (فَارقُواْ) بدل (فَرَّقُواْ) تعطي معنى خطيراً وهو أنّ من فرق دينه
كمن فارقه. يقول ابن تيمية: (لا ينبغي أن يكون الأصل في الدين لقول غير كتاب الله، ولا لشخص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اتخذ شخصا كائنا من كان فوال في موافقته، وعادى في مخالفته، فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا).

* إنّ تدين الاتباع هو المقبول عند الله تبارك وتعالى، لأنّه الدين الحق وما سواه باطل، وهو علامة الفرقة الناجية، عند تفرق الأمة (ما أنا عليه وأصحابي).

* إنّ الدين الحق لا يسمح لأي صوت أنْ يعلو فوق صوت الوحيين، ولا أن يتقدمهما رأي.

* إنّ التدين الحق، وهو تدين
الاتباع. يعتقد بيقين أنّ الدين ما مات عنه محمد صلى الله عليه وسلم. وأنّ ما دخل في الدين بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بهتان وكذب على الله ورسوله. (وما لم يكن زمن رسول الله ديناً فليس بدينٍ من بعده). كما قال مالك رحمه الله.

* إنّ الدين الحق، دين الاتباع، يرى العمل بالوحيين على منهج فهم السلف لهما، وأنّ سلف هذه الأمة هم القرون الثلاثة الذين اجتمعت لهم شهادة الله ورسوله بالخيرية، وعلى رأسهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .. وأنّ من رفض إمامتهم في الدين، والاحتكام إليهم عند التنازع فقد رد شهادة الله ورسوله.

* إنّ الدين الحق، دين الاتباع، يرى الاختلاف شرا، مع وجود النص الصحيح الصريح الذي يلغي كل رأي وكل اجتهاد .. وأنّ الخلاف لا يمكن أنْ يكون رحمة أبداً .. وإنّ الله أمر المؤمنين برد التنازع إلى الكتاب والسنة ولا بد عند الرد من انتهاء النزاع .

بقيت كلمة أخيرة في شأن الاتباع ودين الحق، أُجَلِّي فيها حقيقة غرَّارة، غرت البعض في دينهم، وأبعدتهم عن طريق الاتباع .. فما أنْ تُنكر على أحدهم حتى ينبري قائلاً بحدة: (أنا أتبع فلانا. أوليس فلانٌ متبعا للنبي صلى الله عليه وسلم..؟).

لا يكن اتباعك أيها المسلم
اتباعا بالواسطة. ونؤكد أنّ ترك الاتباع ضلال وانحراف بغض النظر عن الجهة البديلة المُتَّبَعَة. وقد يرى البعض في هذا القول اتهاماً قاسياً جائراً، لبعض المتبوعين .. لكنّه اتهامٌ من نبي الأمة وليس من أحد سواه. وفصل الخطاب في الحديث الآتي الذي لا يقبل تأويلاً، ولا يحتمل جدلاً .. قال صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لَاتَّبَعَنِي). وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، فهل يدعو إلى ضلال..؟ وهل يصدر عن نبي من أنبياء الله غير الحق..؟. من هذا المفهوم كان تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم (لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ)، مع أنّ دعوة موسى حق .. وما بال بعض المسلمين اليوم راغبين عن اتباع نبيهم إلى اتباع من بينه وبين موسى كما بين المشرقين، في القدر والمنزلة والهداية، ثم يطمعون أنْ يكونوا على هدى وحسن اتباع..!

إنّ غياب تدين الاتباع وهو الدين الحق، يُغيب الكثير من حقائق الدين وأحكامه، وهو تفريط في جنب الله .. وسنسأل عنه. فلا تستغرب أيها الأخ الحبيب بعد ما سمعت أنْ تكون في المسلمين غربة وغرباء، وعالمون وجاهلون، وحافظون ومضيعون، ومهتدون وضالون.

وخاتمة هذا الموضوع ، كلامٌ عنوانه (نصيحة وتحذير)، وهو تأوُّلٌ لقوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). تُقرر هذه الآية الكريمة أصلين اثنين في دين الإسلام وهما:

1.
إقامة الدين، ونفهمها من قوله تعالى: (اعْبُدُوا اللَّهَ).

2. حراسة الدين، ونفهمها من قوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

ولمعرفة معنى كلمة الطاغوت، فقد اصطفيت من تفسيرات العلماء ثلاثة تفسيرات:

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: (الطاغوت وهو كل ما خالف حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأنّ ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم، وإليه يرجع الأمر كله وهو الله).

وقال ابن جرير الطبري: (الصواب من القول عندي في الطاغوت أنّه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود، أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء).

وقال ابن القيم: (الطاغوت كل ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع ، فطاغوت كل قوم ٍمن يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنّه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها).

فبعد إقامة الدين، لا بد من حراسته ممن يكيدون له من أعدائه، ومَنْ أعداء الدين الحق إلا كل من ينطبق عليه اسم الطاغوت، على تنوعهم، وفق ما جاء في أقوال العلماء السابقة.

أما إقامة الدين فقد تقدم القول فيها وباختصار فهي إقامة إسلام (ما أنا عليه وأصحابي) على أسس مكينة من الاتباع، وهو الدين الحق .. لكنّ أعداء هذا الدين لم يلقوا السلاح منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى زمننا الحاضر، وسيستمرون إلى أنْ يرث الله الأرض وما عليها. والأخطر من تلك العداوات اعتماد أسلوب ضرب الإسلام بأيدي أبنائه…!

وكثير من الفرق الضالة التي جندت نفسها لضرب الإسلام فضحها التاريخ، وعراها علماء المسلمين على مر السنين. لكنّ بعضها بالغت في كيدها، وتفننت في تمويه حقيقتها، فخرجت على الناس في زي الإصلاح لتمارس أشد الإفساد، وأعانها على مهمتها الخبيثة تلك الفضائيات التي لا تعرف لها هوية، ولا تلفي لها منهجاً، بل لا تدري لها ديناً.

إنّ من اجتناب الطاغوت، أو من حراسة الدين أنْ نعرف حقائق وخفايا وخبايا تيارات ودعوات تحسن عرض نفسها لتدس السم في الدسم. وتستغل الواقع الراهن في حياة المسلمين الدنيوية، كالانغماس المادي، والاستغراق العلمي، والحداثة والعولمة وغيرها.

وسأحذر من تيارين: المدرسة العقلية والمدرسة الواقعية وبين المدرستين سبب ونسب، واتفاق على هدف شرير. والمدرسة العقلية تريد تطويع الدين للعقل، وإذا تعارض عندها العقل والنقل قدم العقل. وهذه المدرسة امتداد لفكر المعتزلة وما تفرع عنه من مذاهب وأفكار. وتستغل المد العلمي والتكنولوجي في العصر الحديث لتقدم العقل على أنّه صاحب هذه المنجزات العظيمة. فهل يجوز أنْ يتقدم عليه شيء في معالجة مشكلات الحياة المعاصرة..؟ ولا سيما نصوصاً مر عليها خمسة عشر قرناً..!

والمدرسة الواقعية ترى أنّ دور النصوص الدينية قد انتهى ليأخذ مكانه الاحتكام إلى الواقع، الذي يثريه تجارب أهل الأرض جميعاً، على مر الحقب التاريخية، فأين هذا الثراء من نصوص نظرية لم تخضع للتجربة والنقد .. ولو كان لها القدسية الدينية..؟! وأصحاب هذه المدرسة، يجعلون دليلهم وشعارهم قول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، بتأويلات باهتة باردة، وشيخهم من المعاصرين جودت سعيد.

إنّ هاتين المدرستين تريدان بناء أجيال تحتكم إلى العقل والواقع والمادة، وترفض الغيب والحديث عنه، بل والإيمان به، ولكن تلميحاً وليس تصريحاً.

إنّ هاتين المدرستين تنسفان حجر الأساس في عقيدة الإسلام وهو الإيمان بالغيب .. فماذا يبقى بعد؟

وتعتمد المدرستان في نفوذهما إلى عقول ووجدان ناشئة المسلمين، على دعوات بالغ أصحابها، وهم دعاة عصريون، بالغوا في حماسهم واندفاعهم لما يدعون إليه، فانقلب وبالا على ناشئة المسلمين. أعني بهاتين المدرستين؛ مدرسة الفقه المقاصدي، ومدرسة المبالغة في دور الإعجاز العلمي. ولقد أضحت المدرستان واسعتي الانتشار، ولاسيما، مع وجود الفضائيات. ولعل هذا الموضوع يحتاج بحثا أوفى لأهميته.

فالحذرَ الحذرَ من أنْ يُشَكِّل عقولَ وعقائدَ أبنائِنا أعداؤُنا، من خلال دعوات ودعاة يتباكون على الإسلام، وهم يجهزون عليه، ويدّعون الإصلاح وأولئك هم المفسدون حقاً .. والحمد لله أولا وآخرا