الغَائِبُ المُرْتَقَبُ يوشك أن يطرق علينا الباب، والذكريات المحببة المؤثرة في النفس، يوشك أن يعيدها الله لنا حقائق تُعاش، أعظم تأثيراً، وأقوم قيلاً، وأشد تفعيلاً .. وما أُحَيْلى الذكريات إن تكررت حقيقةً أحلى..؟! فأين المُشَوَّقون؟ وأين المُرتَقِبون؟ وأين أهل الذكرى المُتَيَّمون؟ عادت الحقائق والوقائع، فشدوا المآزر، واعقدوا الخناصر، وأعدوا العدة .. فرمضان في كل عام يعود، ولكن الآجال تنقضي ولا خلود .. وماعُدَّةُ رمضان التي يجب أن تعدَّ إلا النية الصالحة والعمل الدؤوب..؟
رمضان محطة الإصلاح السنوية، وهي شرعية
علمية تربوية، يجب التوقف معها لترميم العمل، وإصلاح الحال، ولتدارك النقص، والتهاونُ طال، ولتعويض التفريط، والله قال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) فسابقوا قبل أن يحال..!
رُخَص الأسواق يَتسابق إليها الناس يتواصون باغتنامها، ويتزاحمون لبلوغها، ويتلاومون لتفويتها .. فهل نقف من رمضان كذلك، على الأقل..؟!
وأوصي نفسي وإياكم بثلاث:
1. الغنيمةَ الغنيمةَ الغنيمةَ، فالفرص تُنْتَظَر ولا تَنْتظر.
2. أن نخرج في تعاملنا مع هذا الشهر الكريم عن المألوف والموروث، إلى المأثور المنقول المقبول. وإلا فالبدع مَأْتِيَّة، والسُنَنُ مَنْسِيَّة، والعمل إلى الحبوط يؤول..!
3. أن لا يكون همُّ أحدِنا نفسَه وحسب، فأهلنا ومن نعول شركاءٌ لنا في السعي إلى الغنيمة، ولا تنسوا ما قلنا قبل قليل: (رمضان محطة الإصلاح السنوية، وهي شرعية علمية تربوية)، والأقربون أولى بالمعروف، واذكروا قول ربكم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
أما عن أحكام الصيام، وتعاليم القيام،
وهديه في رمضان، فما أكثر ما
استقبلت بها رمضانات أتَتْ، فقد صار حديثا مكرورا .. واليوم عودوا إلى ذواكركم ومذكراتكم تلقَوه مسطورا، فلا
تتخذوا حديث رمضان مهجورا. فتكونوا من بعده قوماً بورا..!
ولكن في أعتاب رمضان لا بد من حديث تُخْرجُه فرحة استقباله، ويهدى نصحاً للمسلمين، فإليه:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ). وفي رواية أخرى: (قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ) .
وفي ثالثة: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).
ولعل هذا الحديث أعظم وأرجى وأصرح حديث في فضل الصوم، ولذلك كان اختياري للحديث فيه، وقد اختصرت الروايات لتقتصر على المعنى الذي أريد تجليته: (الصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ) .
وخلاف العلماء حول توجيه هذا المعنى في الحديث واسع. ولقد جمع ابن حجر رحمه الله ذلك التَّشَذُّرَ في فتح الباري، وهأنذا أستفيد من صنيعه وألخص ما ينفع القارئ من كلام العلماء حسب ما حرره ابن حجر مع تصرف غير مخل، إن شاء الله:
فمنهم من قال: إنّ الصوم عبادة لا يقع فيها الرياء، كما يقع في غيرها من العبادات، لأنّها ليس فيها أعمال ظاهرة، فتبقى تلك العبادة طي السر بين العبد وربه، ويستطيع من لا دين له أن يأتي في خلواته كل ما يخالف عبادة الصوم، من تعاطي المفطرات وغير ذلك. ولذلك نسبه الرب تبارك وتعالى إلى نفسه، واستأثر بمنح الجزاء المناسب للعبد. واستدل بعضهم بحديث (ليس في الصيام رياء) والحديث ضعيف في إسناده، ومع سقوط الاستدلال بالحديث فالكلام الذي مر متوجه بالحس والنظر.
وقال آخرون إنّ أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها، أضيفت إليهم، بخلاف الصوم فإنّ حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقربا يعني في الصورة الظاهرة، ولذلك انفرد الرب تبارك وتعالى بعلم مقدار ثوابه، ومضاعفة حسناته .. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: (معناه أنّ الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنّها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإنّ الله يثيب عليه بغير تقدير. [إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به] أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره).
ـوذهب غيرهم في معنى قوله (الصَّوْمُ لِى) أي أنّه أحب العبادات إلى الله جل وعلا، وهو المقدم عنده. ويقول ابن عبد البر: (كفى بقوله “الصوم لي” فضلا للصيام على سائر العبادات).
وروى النسائي وغيره من حديث أبي أمامة مرفوعا: (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)، وهو صحيح، وقال بعضهم يعكر على الحديث الحديث الصحيح: (وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ). ويرد على هذا القول أنّ تفضيل الصوم ليس مطلقا على سائر العبادات ولكن يقصد تفضيله لخصوصية، أنّ الله نسبه لنفسه، فتميز الصيام بهذه، وتبقى الصلاة تتميز بخصائص أخرى، فتفضل سائر العبادات .. والأولى أن نقول الله أعلم.
ويقال: إنّ الإضافة في قوله تعالى: (الصَّوْمُ لِى) هي من باب إضافة التشريف والتعظيم، كما يقال: بيت الله .. وإن كانت البيوت كلها لله. وناقة الله، وروح الله.
ونجد من يقول: إنّ نسبة الصوم لله (الصَّوْمُ لِى) لأنّ الصائم يتعبد الله ببعض صفاته وهي الاستغناء عن الأكل والشرب مما يقلع عنه الصائم، فاستحقت هذه العبادة تلك المنزلة.
ومن التفسيرات أنّه لا يتقرب بعبادة الصوم إلى أي معبود يعبد من دون الله، بينما الصلوات والصدقات والطواف وردت في طقوس الكفار والمشركين.
وآخر ما يقال: أن جميع العبادات توفى منها مظالم العباد يوم القيامة، إلا الصيام .. عن ابن عيينة قال: (إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة). والحديث غير صحيح، ويعارضه حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاة وَصِيَام وَزَكَاة وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا. وَأَكَلَ مَالَ هَذَا. وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرح فِي النَّار) رَوَاهُ مُسلم
ويعارضه أيضاً حديث حذيفة: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ).
بقي للعبد الفقير إلى ربه في كل شيء تعليق، بعد كل ما مر .. أقول:
ما يضر مسلما، عالماً كان أم من عوام الناس، أن يقول بعد قراءة حديث (الصَّوْمُ لِى…) لقد فهمت عن ربي فحوى الخطاب وهو: تنبيه الخلق إلى عظيم قدر عبادة الصوم، وأجرها العظيم عند الله، لينتفع بها العباد حق الانتفاع .. ويضيف: وقد فهمت ذلك عن ربي بالفطرة والبداهة بعد تيسير الله وتوفيقه، ولا أجدني بحاجة لمساعدة أحد، ولا أراني مضطرا لدخول دقائق أقوال العلماء وإغرابهم أحيانا، ولا داعي إلى (تفصيص) الكلام والكلمات إلى هذا التعمق..!
وأعلق فأقول: هذا هو المطلب في التعامل مع النصوص. وأجدني معجبا غاية الإعجاب بعبارة تناقلها كثير من العلماء عن إمام التفسير والتأويل من دعا له نبيه فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل). يقولها في مسائل لا تحتاج الغوص وكثرة الكلام: (أبهموا ما أبهم القرآن). وما أظنها إلا تنطبق على كل نص شرعي. وما أحسب إلا أنّ ابن عباس رضي الله عنهما أراد بتعليم الناس هذه القاعدة العظيمة، والعلماء قبل غيرهم، ليجنبهم الدخول في (المنطقة الحرام) القول على الله بغير علم.
وكثيرا ما أثبت في ما أكتب قاعدة من عندي (الجهل بما لم يأت عن الله ورسوله، هو عين العلم، لأنّه وقوف عند النقطة التي أراد الله لنا أن نقف) .. وما استلهمت هذه القاعدة إلا من تعليم ابن عباس رضي الله عنهما .. ففيم التقعر والتعمق والتكلف وقُفُوُّ ما ليس لنا به علم..؟
وعندي مثال من الضروري أن أختم به: جاء في الحديث الصحيح: (أخبرت أن ربكم عز وجل لم يمس بيده إلا ثلاثة أشياء: غرس الجنة بيده، وخلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده). فلو طرح على إنسان عادي سؤال: لِمَ فعل الله ذلك لأجاب: تعظيما وتكريما لتلك الأشياء. فهل الخلق بحاجة إلى معرفةٍ وراء ذلك؟ الجواب قطعا لا .. ولو تعدينا ذلك لنسأل لماذا، ونُعمل العقل بحثا عن جواب، لدخلنا المنطقة المحرمة
القول على الله بغير علم. فما أعظمها من قاعدة تلك التي قعدها حَبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، وبخاصة أنّ في المسلين، وعلمائهم من أولع بكثرة البحث والتنقيب من غير حاجة أو مصلحة لفعل ذلك، وإذن لاستراحوا وأراحوا، ولم يغامروا.
ولا أود أن أغادر قبل أن أذَكِّر، والذكرى تنفع المؤمنين. بأمر هام يخص الصوم. المفطرات أربعة بنص الكتاب والسنة، والزيادة عليها قول على الله بغير علم .. وما ثبت بيقين لا يزول إلا بمثله .. وموت النبي صلى الله عليه وسلم خاتمٌ يَمْهَرُ كمال الدين. والتشريع ليس رؤية بشرية من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تستجد في العبادات أمور تستدعي تدخل العقل البشري…!
1.
الأكل والشرب عامدا (مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهْوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ).
2.
تعمد القيء (من ذرعه الْقَيْء وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ).
3. الحيض والنفاس (وأدلتها غير خافية).
4.
الجماع (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) .
وأما ما نراه في كتب الفقه فلا دليل يدل عليه من نصوص الكتاب والسنة. فما موقفنا منه؟ موقفنا منه تركه ورده على قائله، فالله لا يعبد إلا بما شرع. وقد بلغت مُبطلات الصوم عند بعض المذاهب نيفا وسبعين واحدا. ومن شاء التأكد فليراجع كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي … والحمد لله رب العالمين