Skip to main content

الْغُـرَبــــَــــاءُ

By السبت 4 جمادى الأولى 1434هـ 16-3-2013ممحرم 21, 1441مقالات

الغربة حالة لا يُحسد عليها من وصل إليها .. فهي في الدنيا معاناة وصبر، وفي الآخرة فوز وأجر .. ومما وعد الله به الغرباء طوبى، و(طوبى: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها) كما جاء في الحديث الصحيح.

والكلام عن الغربة كثير وطويل، ولا يجب أن يتوقف، لأنّ استيعاب المسلمين له وتمثلهم معانيه ضعيف .. ولذلك أسباب، لكنني سأحدد نفسي بالسبب الرئيس..! إنّه الفرق الكبير بين ما يجري على الأرض من شؤون حياتهم العامة التي لا تُحَكِّم الدين في أكثر المناحي، وبين دِين يعتقدونه ويحرصون على التزامه .. والشدّ في كلا الإتجاهين قوي..! ولا يُحل الإشكال إلا بقطع الاتصال مع جهة، والبقاء مع الأخرى. فإما مع الدين ولو خالف الواقع، ومن هنا تبدأ الغربة..! أو مع الواقع ولو خالف الدين، وهنا تُباع الآخرة بالدنيا، ويا لخسران من كان هذا اختياره..! وفريق ثالث اختار أنْ يُقاوم الشدّ بالاتجاهين، وهذه أتعب الحالات ولن تدوم، فلا بُد من انفلات الزمام من طرف، والاصطفاف مع الطرف الآخر.

أحاديث الغربة معروفة لأكثر المسلمين، ولن أكرر الكلام عنها. لكني سأتحفكم بكلام لعالمين في القديم عانيا غربة الإسلام، وفهما ظروفها وممارساتها، وأشكال القسوة فيها، لكنّ الله أعانهما عليها فصبرا وصمدا، وها هما ينقلان لكل مسلم تلك التجربة لتكون عوناً، بعد توفيق الله، لتجاوز الامتحان .. وأختم برأيٍ وهو: أنّ معاناة أهل الواقع المعاصر أشد من غربة القدماء لكثرة الفتن، وتنوع الصوارف والإغراءات، والأسوأ وجود الفتاوى الملبسة والمدلسة من علماء السوء!

الشخصيتان هما الآجري صاحب كتاب الشريعة المشهور، وابن القيم وهو أشهر من أنْ يُعرّف، وأرجو أن تكون القراءة بإمعان، ولا مانع من أن تُكرر مرات، فأمر الغربة هو دأب كثير من المسلمين، في واقعنا المعاصر.


يقول الآجري رحمه الله: (من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته. فإن قال قائل: فلم يجفوني وأنا لهم حبيب، وغمهم لفقد إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك. فأنت بينهم مكروب محزون .. فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة).

وإليكم ما قاله ابن القيم رحمه الله في الغربة: (فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة .. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم كما قيل :

فليس غريبا من تناءت دياره … ولكن من تنأين عنه غريب).

ثم يُتابع رحمه الله: (فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله، وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان ووقت دون وقت وبين قوم دون قوم .. ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم فيقال لهم ألا تنطلقون حيث انطلق الناس..؟ فيقولون فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده.

فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفوه).

ويُتابع رحمه الله: (ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم .. فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم).

ثم يُتابع رحمه الله: (وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول … فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم ، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم .

فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحهم وأعجب كل منهم برأيه).

ويمضي ابن القيم في حديثه عن الغرباء: (فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله، وفهما في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال، وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه، فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.

وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف).


أسأل الله أنْ يجعلنا من الغرباء، وأنْ نعضّ بالنواجذ على وحي السماء، وأنْ نفارق ما عليه الناس وإنْ كانوا أقرباء..! والحمد لله رب العالمين