Skip to main content

الكِفَايَةُ فِي الإِسْلَامِ

By الجمعة 7 ربيع الأول 1437هـ 18-12-2015ممحرم 21, 1441مقالات

قد يبدو هذا العنوان غريباً نوعاً ما ولأول وهلة .. ولكن الغرابة تزول حينما تبين أصوله من الكتاب والسنة.

إنّ المسلمين اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة دينهم من جديد .. قراءة واعية، متأنية، هادفة تهتدي بهدي السلف، وتتجاوز بل تلغي كل ما يأتي من خارج إطار الوحيين نصاً أو فهمًا .. لاسيما وأنّه قد كثر في زماننا الآثم دعاة السوء والضلال، وكل ذلك مبرمج ممنهج من قبل هيئات صُنعت ومُولت وزُودت بكل مادة تعينها على تحقيق ما أوجدت من أجله. وما العلمانية التي انتشر في بلاد المسلمين دعاتها، والعولمة التي تكاثر فينا سُعاتها، إلا نماذجُ لأبرز الداعمين لدعاة الباطل.

والأخطر من كل أولئك السمَّاعون للباطل، من داخل الصف كما قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، ومن أمثال هؤلاء محمد شحرور، وقد خصصت له إحدى الفضائيات الآثمة برنامجا كاملا، اسمه “النبأ العظيم”. وعدنان ابراهيم في برنامج “صحوة” في فضائية أخرى، ومنصورعلي كيالي، وتقدمه إحدى الفضائيات في برنامج على أنّه مفسر عصري علمي للقرآن الكريم .. ومن وراء هؤلاء مؤسسات ممولة، تشكل أهم مرتكزات اليسار الإسلامي مثل مؤسسة (مؤمنون بلا حدود) التي اتخذت من المغرب مقرا لها، وجعلت من أهدافها تجميع أهل الباطل، مثل أتباع اليسار الإسلامي بأقرانهم من الحداثيين للعب دور جديد في الكيد للإسلام وأهله.

وأشد شرائح المسلمين المستهدفة والمتأثرة بهذه الدعوات، الشباب المثقف، الذين يجهلون عن دينهم أكثر مما يعلمون.

ودين الإسلام، وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، حتى يرث الأرض ومن عليها (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لا يترك أتباعه نهبا موزعا بين التيارت الفكرية الباطلة التي تعجُّ بها الأرض، إنّما يحصنهم الله بما أنزل إليهم من العلم، أشد تحصين .. والسعيد من يحظى من ذلك العلم، بحظ وافر فينتفع به، وليس من يقلد في دينه كل مدعٍ، ولا يتخذ علم الوحيين وسيلته إلى التدين.

والصفحات القادمة مكرسة للكفاية التي امتن الله بها على عباده، في الدين، فأغنتهم عن مخرجات العقل البشري، وصانتهم عن انحرافت وجنوح أهل الأهواء والتفرق والبدع.

وموضوع الكفاية في الإسلام يتجذر في كفاية الله عباده .. وهل بعد كفاية الله من كفاية..؟ أيها المسلم فكر وأعد التفكير، وتدبر وأحسن التدبير، وانظر في صفات خالقك الذي تأتيك منه الكفاية:

1. علمه بحالك أدق وأشد من علمك بنفسك، أو علم أقرب الناس إليك .. فهو العليم.

2. قدرته التي لا حد لها والتي يقول للشيء كن فيكون .. فهو القدير.

3. خزائنه الملآى، وَجوده وعطاؤه .. فهو الغني.

4. قوته وعزته وجبروته .. فهو العزيز.

5. رحمته التي وسعت كل شيء .. فهو الرحيم.

ألا ترضى كفايته لك..؟ ألا تكفيك كفايته وتغنيك..؟ ألا تجعلك هذه الكفاية الربانية، وأنت تبحث في هذا الوجود عما ينفعك، تغلقُ كل الأبواب، ولا تأخذ إلا عن الحكيم الوهاب..؟

ويمكن أن نُقسِّم كفاية الله لعباده إلى الأقسام الآتية:

أ. كفاية عقدية: فقد أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، ليختصر على الإنسان طريق البحث عن الحق .. وهو طريق طويل شاق، ملؤه الصعاب والإعاقات، ولو تُرك لضعفه البشري وعقله الكليل، فارق الدنيا ولا يزال يبحث، وهذا حال بعض الناس اليوم، ولكنّهم لا يعلمون. وللعبرة وللخروج بالكلام من التنظير إلى الواقع، أسرد لكم قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، ففيها كل عبرة، فاقرؤوها بإمعان .. وسلمان هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاَءِ).

يروي سلمان قصته لابن عباس فيقول ابن عباس رضي الله عنهم: حدثني سلمان الفارسي، مِنْ فيه، قال: (كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيّاً مِنْ أَهْلِ (أَصْبَهَانَ)؛ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: (جَيٌّ)، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ.

واجْتهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطِنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً.
قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْماً، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ! إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَاني هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ إليها فَاطَّلِعْهَا. وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، ثم قال لي: ولا تحتبس عني؛ فإنك إن احتبست عني كنت أهم إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.

قال: فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ التي بعثني إليها، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَتنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ؛ مَا بَرَحْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا، ثمَّ قُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ.
فرَجَعْتُ إلى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي، وَشَغَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ كُلِّهِ.

فَلَمَّا جِئْتُ قَالَ: أَيْ بُنَي! أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ! مَرَرْتُ بأنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ؛ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ.

قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ.

قَالَ: قُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ؛ إِنَّهُ لخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا.

قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْداً، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.

قَالَ: وبعثت إِلَى النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَقُلْتُ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي.

قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ هَذَا الدِّينِ عِلْمَاً؟ قَالُوا: الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ.

قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ له: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ، وأَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: ادْخُلْ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ، فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَامُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا؛ فَإِذَا جَمَعُوا له شيئاً كَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ.

قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضاً شَدِيداً لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ.

ثُمَّ مَاتَ، واجْتَمَعَتْ له النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَامُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا كَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا.

قَال: فقالوا لي: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَباً وَوَرِقاً، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: لا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. قَالَ: فَصَلَبُوهُ ورَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ.

وجَاؤوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَوَضَعُوهُ مَكَانه. قَالَ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً لا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وأَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَلا أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ، وَلا أَدْأَبُ لَيْلاً وَنَهَارًا [مِنْهُ].

قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُباً لَمْ أُحِبَّ شيئاً قَبْلَهُ مِثْلَهُ.

قالَ: فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ، وَأَحْبَبْتُكَ حُباً لَمْ أُحِبَّهُ شيئاً قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبَِمَ تَامُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَداً عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا، وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ إلا رَجُلاً بِ (الْمَوْصِلِ)، وَهُوَ فُلانٌ، وهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ. قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (الْمَوْصِلِ)، فَقُلْتُ: يَا فُلانُ! إِنَّ فُلاناً أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي.

فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أمر اللَّهِ مَا تَرَى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَامُرُنِي؟ قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا رجلاً بِ (نَصِيبِينَ)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.

فَلَمَّا مَاتَ وَغُيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (نَصِيبِينَ)، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِاي. فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ؛ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا حضرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبِمَ تَامُرُنِي؟
قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أعْلَمُ بقي أَحَد عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَاتِيَهُ إِلَّا رَجُلاً بِ (عَمُّورِيَّةَ) من أرض الروم؛ فَإِنَّهُ على مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فائتِهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.

فَلَمَّا مَاتَ وَغيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (عَمُّورِيَّةَ)، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَ خير رجلٍ على هديِ أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَت لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ.

قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَان! إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَامُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ أَصْبَحَ أحدٌ عَلَى مثل مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَاتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ نَبِيٍّ مَبْعُوث بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، مُهَاجره إلى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَاكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَاكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ.

قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغيبَ، ومَكَثْتُ بِ (عَمُّورِيَّةَ) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ.

ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّار، فَقُلْتُ لَهُمْ: احمِلُونِي إلى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ. قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي معهم، حَتَّى إِذَا بلغوا وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي؛ فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودي عَبْداً، فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقَّ فِي نَفْسِي. فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ؛ إذ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ (الْمَدِينَةِ)، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إلى (الْمَدِينَةِ)، فَوَاللَّهِ؛ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا، فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي لها، فَأَقَمْتُ بِهَا. وَبُعِثَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَقَامَ ب (مكة) مَا أَقَامَ، ولَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مِما أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إلى (الْمَدِينَةِ).
فَوَاللَّهِ؛ إِنِّي لَفِي رَاسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تحتي، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يا فُلَانُ! قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ؛ إِنَّهُمْ لَمُجْتَمِعُونَ الْآنَ بِ (قُبَاءَ) عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ (مَكَّةَ) الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.

قَالَ سلمان: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الرِّعْدَةُ، حَتَّى ظَنَنْتُ أني ساقِطٌ عَلَى سَيِّدِي، فَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟

قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ.
قَالَ: فقُلْتُ: لَا شَيْءَ؛ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَه عَمَّا قَالَ.

قالَ: وكَانَ عِنْدِي شَيْءٌ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ به إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِ (قُبَاءَ)، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ.

قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كلوا)، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَاكُلْ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ.

ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُه فَقُلْتُ له: إِنِّي قد رَأَيْتُكَ لَا تَاكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ ثنتانِ.

قالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِ (بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) قَدْ تَبِعَ جَنَازَة رجل مِنْ أَصْحَابِهِ، وعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَبرْتُه أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ؛ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدبَرْتُهُ؛ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَأكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَحَوَّلْ)، فَتَحَوَّلْتُ بين يديه، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَاكَ أَصْحَابُهُ.

ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَدْرٌ) وَ (أُحُدٌ). قَالَ سلمان: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ!). فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ، وأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: (أَعِينُوا أَخَاكُمْ). فَأَعَانُونِي في النَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ ودية، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ ودية، وَالرَّجُلُ بِعَشْرة، يعين الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُمِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ! فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَائتِنِي أَكُنُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ). قال: فَفَقَّرْتُ، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ إلَيه الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِه حتى إذا فرغنا، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ؛ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.

فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ المعادن، فَقَالَ:(مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟).

قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ: (خُذْ هَذِهِ فَأَدِّهَا ممَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَان!).

قال: قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِمَّا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:(خُذْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ).

قَالَ: فَأَخَذْتُهَا، فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا – وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ – أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ. وَعُتِقَ سلمان. فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَنْدَقَ) حراً، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ).

قصة غنية بعبرها ودروسها ودلالاتها .. موثقة من رواتها ورجالها .. ليس للخيال ومهارة الأديب فيها دور .. هي في الوضوح والبيان غنية عن أية إضافة .. فتدبرها أيها المسلم، ولا تحرم نفسك الانتفاع بها، وبها قامت حجة الله عليك.

وإنّ العبد الذي يقبل كفاية الله له، فيصدق بكلمات الله وكتابه، ويتبع هدي نبيه، يسلك إلى الهداية، وإلى رضوان الله، بل إلى الجنة أقصر طريق، وأسلم معبر، ويكفي نفسه عثرات وانحرافات لا ينجو منها إلا من رحم الله .. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).

وعن ابن مسعود قال: (أيها الناس اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأمر العتيق).

ب. كفاية تمكينية: وحينما يسير العبد على طريق الله، طريق الهداية والكفاية لن يسلم من أعداء الحق، ولن يأمن مكر وكيد من لم تكفهم كفاية الله ولم تغنهم هدايته .. فهل يواجه ذاك الكيد والمكر والعداوات بقوته الذاتية..؟ لا..! إنّ الله معه، وإنّ الله ناصر الحق وأهله.

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

ويكفي الله عباده المؤمنين الصادقين أشد المكاره وأصعبها وهو قتال الأعداء، كما حصل للمؤمنين في غزوة الأحزاب:

(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا).

وكل من نابذ الإيمان وأهله، برفض الإيمان أصلا أو قبوله ثم تشويهه وتحريفه فهو قد جند نفسه مع الشيطان، وهو من أعداء أولياء الرحمن أهل السنة والقرآن، وقد وعد الله أولياءه بأن يكفيهم أولئك وما يكيدونه للحق وأهله.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).


ج. كفاية تقويمية: ولكي لا ينحرف المسار، وتضل الوجهة، والشيطان متربص .. والنفس الأمارة بالسوء دؤوبة .. والهوى المضل غلاب .. وجند إبليس من بني آدم يمكرون .. حذر الله الذين يخافونه نفسه، وبين لهم أنّه لن ينجيهم منه أحد، ولن تنفعهم شفاعة، ولن ترفعهم شهادة بعد شهادة الله عليهم.

.(وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (وكفى بالله شَهِيداً).

.(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).

.(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا).

ويبلغ الأمر الذروة في إثبات الشهادة، وإقامة الحجة، يوم يجعل الله الكفاية في شهادة العبد وجوارحه على نفسه .. والعبد يطلب ذلك من ربه يلتمس في ذلك النجاة، ولم يدر أنّه يوبق نفسه بشهادة نفسه على نفسه.

(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا أَضْحَكُ؟). قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى. قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي. قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا. قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي. قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ. قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فعنكنَّ كنتُ أُناضلُ)).

قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

د. كفاية مادية: ويبرز في بني البشر شريحتان من حيث الموقف من قضية الرزق وطلبه. شريحة أنضاها اللهاث وراء طلب الرزق، فلا ترى له حداً، ولا تعترف فيه بقناعة، وإنّما دأب ونصب وسباق حتى الموت .. وأخرى ديدنها الكسل والتقاعس، تبررهما بالقناعة والتواكل، وإيثار الدعة والراحة .. ودائماً تضيع الحقائق بين الطرفين ويفشل البعض في البحث عنها في منطقة الوسط بين كل طرفين. والمسلم الذي يؤمن بمنهج سماوي يضبط مساره على الأرض، ويرسم له المواقف الصحيحة مع كل شأن، هو الذي يعيش الحياة الطيبة المتوازنة، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما جاءه، لأنّه استوعب المعادلة الشرعية بين المكتوب، والمأمور بالسعي له.

وكم ألهى الحرص على التكاثر..؟ وكم أضل السعي لجمع الدنيا دون ضوابط شرعية..؟ وكم أهلك حب الدنيا من أقوام..؟ كل ذلك يغيب من حياة المؤمن يوم يقبل كفاية الله له متدبرا قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ).

ختاماً .. من لا يقبل كفاية الله له، فليس بمكتف، وسيعيش دنياه ضالاً كافراً، جباناً خائراً، منحرفاً جائراً، لاهثاً حائراً .. وفي أخراه سيكون ذميماً خاسراً .. والحمد لله على كفايته وعنايته وهدايته ونسأله المزيد…