تُراودني الرغبة في الكتابة عن هذا الموضوع منذ زمن بعيد. وما منع من ذلك إلا ما كنا نؤمل، من أنّ (الدعوة الناعمة)، على غرار المصطلح السياسي (القوة الناعمة)، قد تؤتي أكلها..! فسكتنا وصبرنا وجاملنا، سعياً وراء هدف منشود، وإذا بنا نراه سرابا .. وتعلمنا بأنّ السكوت عن الحق لا يؤجل ولا يؤخر..! فنستغفر الله من تفريط لم يكن بِمَلْكِنا، ولنقل ما كان ينبغي أن يقال قبلا، وعلى الله التكلان.
(الأمر في ذلك واسع، والحمد لله…) .. عبارة ما أكثر ما تعرض للقاريء، بل للدارس في كتب الفقه، وكم تطرق سمع المصغي لبرامج الفتاوى على لسان المفتين..! وهي عند الجميع، إلا من رحم الله، محببة ويعتبرونها شعار اليسر في الفقه الإسلامي، بل في الدين كله .. ولأنّ الله مَنَّ علينا بالفقه والفهم (ولا أعني نفسي مُعَظِّمًا)، إنّما أهلَ المنهج الذين لديهم الرؤية نفسها، صار لنا موقف مخالف غريب، لأنّنا غرباء .. وقد لا يعرف بعض القراء المقصود بكلمة غرباء، فأُعَرِّفُها كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
وما الذي أثار هذا الموضوع عندي؟ سؤال يساعد جوابُه في فهم الموضوع. كعادتي، في كل عام، إذا اقترب شهر الصوم، أن أقوم بعملية إحاطة سريعة، من خلال المواقع واليوتيوب، لأقف على آخر ما يقوله المفتون في صلاة التراويح، لأعرف هل من جديد أو تغيير في الآراء..؟ وما منهم من أحد إلا قال العبارة موضوع البحث.
وأقول قبل أي كلام: إنّ التدقيق والنظر الدقيق، ومن ورائهما التأصيل، كل أولئك، يقتضي القول إنّ هذه العبارة خطأ لأنّها تخالف النصوص، وتُميِّع عملية الاستدلال في الدين..! وقد يتعجل متعجلٌ، أو ينبري متحاملٌ ليقول: أبهذه السهولة يُتهم الفقهاء في القديم والحديث؟ أجيب إنّهم يُتهمون ليس من أجل تلك المقولة، إنّما من أجل منطلقات انطلقوا منها، ففرضت عليهم هذه المقولة. إنّهم يوم قالوا إنّ الاختلاف رحمة، وقالوا بتعدد المذاهب، وأوجبوا التمذهب، وأنّ المسلم بأي مذهب تمذهب، تبرأ ذمته عند الله، فرض ذلك عليهم القول بتعدد الحق .. وكل ذلك جعل أكثر المسائل في الدين خلافية، تتعدد فيها الأقوال، وكلها حق، وإن خالفت النص .. فلا ضير بعد ذلك كله أن يقولوا، بعد شرح أي مسألة، وسرد الأقوال المتعددة فيها: (الأمر في ذلك واسع والحمد لله).
ولا بد من شرح الوجهة المقابلة (عند الغرباء). ومن أجل ذلك لا بد من ضرب مثل. ولما كان الكلام بل الجدال يثور مع بداية رمضان، كل عام، حول التراويح، فلنجعل موضوع التراويح هو المثل:
ما من أحد يتكلم في صلاة التراويح بعلم إلا يُسَلِّمُ بأنّ نبي الأمة صلى الله عليه وسلم لم يزد فيها إطلاقا عن إحدى عشرة ركعة، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ففي البخاري أنّها سُئلت عن صلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة). والأصل في الدين، أن يُكتفى بهذا النص ما دام لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام غير ذلك، لما جاء في مسلم: (وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم. فلو خولف هدي محمد عليه الصلاة والسلام، وتُرك فأيُّ هديٍ يَسَعُ المسلمين..؟ وإن جاء من يقول إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى عشرين أو أمر بالعشرين، فنرد عليه بكل بساطة، هل المسلمون مأمورون باتباع عمر رضي الله عنه، أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ عِلماً أنّه لم يثبت لا عن عمر ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، أنّه زاد فيها عما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام. وكل ما يروى في ذلك لا تقوم به حجة، لأنّه لا يصح، ولو صح لما صلح الاحتجاج به لما قلنا آنفا. وبعد ذلك يأتي من يحتج بمن هم دون الصحابة كالتابعين، أو بمن دون التابعين، وله الجواب نفسه من باب أولى.
لقد قلت قبلا: (إنّ هذه العبارة خطأ لأنّها تخالف النصوص، وتُميِّع عملية الاستدلال في الدين)، وقد يستكبر بعضهم هذه العبارة، فإلى البيان:
أما مخالفة النصوص؛ أوليس القول بأنّ الأمر في عدد ركعات التراويح واسع، وهي مفتوحة بلا حد عند الفقهاء بدعوى أنّها نفل مطلق، أفلا يخالف ذلك ما جاء عن الذي
لا ينطق عن الهوى. وماذا نفعل بقول ربنا: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)؟ ثم إنّ هناك ما يسمى عند العلماء (توحيد الرسالة) أو (توحيد الاتباع)، وقد أمرنا الله به في كلمة التوحيد (لاإله إلا الله، محمد رسول الله).
يقول الشيخ الألباني رحمه الله في الشريط رقم(652) من سلسلة (الهدى والنور): (قلنا شهادة أن لا إله إلا الله تستلزم الإيمان بأنّه خالقٌ وحده لا شريك له، وبأنّه معبودٌ وحده لا شريك له في العبادة، وبأنّه له الاسماء العليا والصفات التي تليق بعظمته وجلاله، لا يشاركه فيها أحد، وأنّ محمداً رسول الله لا يُتبع سواه، فكما أنّ الله يُوَحَّدُ في هذه الأنواع من التوحيد، كذلك رسول الله يُوَحَّدُ في الاتباع، لا يُتبع مع رسول الله أحدٌ، أين هذه المعاني عند هؤلاء؟).
وأنا أقول بعد ما قال الشيخ عمن يعنيهم، أين تذهب هذه المعاني، ونحن مولعون بعبارة (الأمر في ذلك واسع والحمد لله)، ولم يُطَعِ اللهُ، ولمْ يٌطَعْ رسولُه..؟ وبعد أوليست العبارة خاطئة من كل وجه، ولا تُميع الاستدلال وحسب، بل تميع العبادة، فأين تذهبون..؟
ثم نأتي إلى دليل آخر على بطلان استعمال تلك العبارة، وذلك بأن نؤكد أنّ الذي يوسع على المأمورين هو صاحب الأمر، وليس على المأمورين إلا الاتباع لما أمر. أمَّا أن يتبارى المأمورون بل (يَتفنَّنوا) في الدوران حول الأمر، لاستنباط المخرجات العقلية التي تُسوغ تركه، ليصبح الأمر للعقل وليس للنص، فإنّها والله لإحدى الكبر..!
ولنتعلم كيف نستعمل لفظة (السعة) في الدين، مع تقديس الاتباع والتزامه، من الصحابة
رضي الله عنهم، ذلك الجيل الذي يعلمنا كيف يتعامل مع النص المنزل باتباع والتزام مطلقين، دون أن يأذنوا لعقولهم، مع أنّهم حديثو عهد بجاهلية جهلاء، أن تتدخل فيما لا يحل للعقول أن تتدخل فيه. وكان عنوان ذلك الموقف العقدي الرائع، مقولة عمر رضي الله عنه وهو يخاطب الحجر الأسود:
(عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْت عمر يقبل الْحجر وَيَقُول: وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل مَا قبلتك) متفق عليه
ولننتقل لنرى كيف تعامل ذلك الجيل الفذ، وهم الأسوة والقدوة، مع مفهوم السعة في الدين: عن غضيف بن الحارث قال: (قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَمْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي آخِرِهِ قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً. قُلْتُ: كَانَ يُوتِرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَمْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَرُبَّمَا أَوْتَرَ فِي آخِرِهِ قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً. قُلْتُ: كَانَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ يَخْفُتُ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا جَهَرَ بِهِ وَرُبَّمَا خَفَتَ قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً).
غضيف رضي الله عنه يسأل أم المؤمنين ثلاثة أسئلة عن بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، فتجيبه كل مرة، أنّه عليه السلام، كان يفعل الأمرين. فيكبر الصحابي، فرحًا ثم يقول في كل مرة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً). ما مصدر تلك السعة، ومن ذا الذي جعل في الأمر سعة؟ إنّه الله تبارك وتعالى، وليس العقل البشري القاصر. وإنّ الصحابي رضي الله عنه حمد الله جاعل السعة، ولم يفهم أنّ الذي جعل السعة صاحب الفعل وهو النبي عليه الصلاة والسلام. والله تبارك وتعالى هو الذي منَّ على عباده أن جعل لهم من أمرهم يسرا في كل تكاليف الدين: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، ونفى برحمته كل حرج في دين الإسلام: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وكان المبدأ العام في كل تكليف شرعي أن يكون في حدود الطاقة، ومجال الوسع: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
وبعد كل هذا البيان، يأتي البشر ليحمدوا الله على يسرٍ صنعته عقولهم، خارج إطار النص المنزل، وبعيدا عن اتباع النبي المرسل..! ما لكم كيف تحكمون..؟
وحتى لا يبقى الكلام عاما، دعونا نرجع إلى المثل الذي اخترناه للتطبيق، ونسأل كل من يرى الزيادة في التراويح على فعله صلى الله عليه وسلم بأي نص أخذت وبأي هدي اهتديت، وإنّا للجواب لمنتظرون .. وأذكر أنّي، ذات مرة، طرحت هذا السؤال على أحدهم فكان جوابه ألا يكفي أنّي أعمل بعمل المسلمين من عهد التابعين إلى يومنا الحاضر، أما يكفيك هذا الدليل؟ فلم أزد على أن قلت له: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
ولا زلت في مرية من كلام قرأته مرات ومرات منسوبا إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، تقول القصة: (كتب رجلٌ كتاباً وجاء به إلى الإمام أحمد رحمه الله قال: هذا كتاب سميته “كتاب الخلاف”، فقال له: لا تسمه “كتاب الخلاف”؛ بل سمه “كتاب السعة“).
وما أظن إلا أنّ الإمام رحمه الله أوسع فهما، وأكثر علما من أن تنسب إليه قصة كهذه، وما أراها إلا من وضع مؤيدي الاختلاف، المدافعين عنه، على الإمام .. وتحضرني الآن قصة هي التي تبين موقف الإمام أحمد رحمه الله من الاختلاف ومخالفة الهدي النبوي. جاء في كتاب المغني لابن قدامة: (سُئل الإمام أحمد عمن يعطي الدراهم في زكاة الفطر فقال [أخاف أن لا يجزئه خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال عمر بن عبد العزيز.. قال ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وقال الله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).
ولولا الخشية من أن يطول بنا الكلام لضربت المثل بعشرات المسائل المدللة على ما ذهبت إليه في مناقشة مسألة (السعة) في الدين، ولعل في ما حرر فرصة، مع قدوم رمضان، أن تجعل المنصفين يقفون وقفة جادة مع موروثات افتريت، وتجاوزات ارتكبت، وحقائق من الدين عطلت ليحرروا تدينهم منها، ويعاد الأمر إلى نصابه، ويُرد المضلل إلى صوابه، وصدق ابن مسعود رضي الله عنه: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك) .. والحمد لله رب العالمين