Skip to main content

آدَابٌ كَالْعِبَادَاتِ

By الأثنين 23 جمادى الأولى 1438هـ 20-2-2017ممحرم 21, 1441مقالات

يُسيء إلى دين الإسلام، في عِداد من يسيء، وما أكثرهم، طائفتان: طائفةٌ تُصنف من أعدائه المتربصين، وطائفةٌ أخرى يرون أنفسهم من عباد الله المخلَصين..!

أما الأولى فليسوا مؤمنين، وإن زعموا أنّهم من المسلمين بدين من صنع عقولهم. وهؤلاء يزعمون أنفسهم دعاة إصلاح، وحماة إنسانية، ويتهمون الإسلام بأنّه دين غايته تحقيق الخلاص الأخروي الفردي لبني البشر، عن طريق استغراقهم في منظومة عبادات، همهم تحقيقها، ولو على حساب حقوق الآخرين، طمعاً في الجنة. وإذن فالإسلام يكرس (الأنانية) لدى أتباعه، ولا يُرى في تعاليمه، ما يدعو إلى الاهتمام بالشأن العام، وتلك إساءتهم الكبرى للإسلام.

أما الثانية فمسلمون صَدَّق عليهم الأولون ظنهم، فكانوا في سلوكهم يحققون اتهام الطائفة الأولى لهم، فهم قائمون بالعبادة ظاهرياً، مفرغة من غاياتها .. فاتهم أنّ العبادات ليست غايات بل هي وسائل وسائل. ولا أريد الاستغراق في الاستدلال على هذه الحقيقة، وأكتفي بدليلين:

قول الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).

وقول نبيه صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة: (مَنْ لم يَدع قول الزورِ والعملَ به والجهلَ؛ فليس لله حاجة أن يَدعَ طعامَهُ وشرابَهُ). فكانت إساءتهم للإسلام أبلغ ممن سبقهم.

إلى هاتين الطائفتين، وغيرهما ممن يجهل الإسلام، حتى من أبنائه، أوجه الخطاب، ولتكن أول عبارة في الخطاب: أنّ دين ألله أعظم وأكمل من أن يُنال منه،
لكنّ الإنسان عدو لما يجهل.

وفي السطور القادمة اختيارات من السنة الصحيحة التي تعالج قضية من الشأن العام، وبأقوى أساليب المعالجة، وهي النصوص .. ولعلي أبدأ بالحديث الآتي الذي أجعله عنوانا للموضوع المعالج .

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم).

الطريق ملكٌ ومرفقٌ عام لكل الناس، وهو وسيلة الناس لتواصلهم الجسدي وقضاء حوائجهم. وبالقدر الذي يكون مخدوما لتيسير الحركة عليه، تكون أهميته في حياة الناس أكبر، ولا زال كثير من الناس، مسلمين أو غير مسلمين عاجزين عن الفهم والاقتناع بالحقيقة التي نكررها (إنّ الإسلام نظام حياة متكامل، يضبط كل مناحي حياة الناس على الأرض). فتأمين الطريق وتسهيل الحركة عليه ليس من العبادات، ومع ذلك أوْلَته تعاليم الإسلام عناية خاصة، فصار كالعبادات في الأهمية والجزاء .. لنُعد قراءة الحديث: (من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)، حتى لو كان المؤذي من المسلمين.

وإنّ إيذاء الناس في طرقهم له صور كثيرة ولا أريد أن أسترسل في الحديث لاستيعابها كلها. ولكنّ الصورة البشعة، والمتكررة التي تقلق الناس جميعا وتزعجهم، وهذا ما جعلني أبدأ بها، أن يوقف الإنسان سيارته في طريق الناس فيعرقلهم، أو يوقفها بشكل يحجز سيارات الآخرين عن الحركة مدة طويلة .. والأعجب أن تحدث تلك الحالات أمام أو حول المساجد يوم الجمعة .. وكأنّ لسان حال بعض هؤلاء المؤذين (أسميهم كما سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم) يقول: (ما دمت أصلي فاحتملوا مني كل شيء…!).

أقول لمثل هؤلاء: ألا يمكن أن تصلي وتجمع إلى طاعة الصلاة طاعة أخرى، وهي طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيق هديه..؟ وها هي مجموعة من الأحاديث الصحيحة في الموضوع نفسه:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت شجرة تؤذي الناس فأتاها رجل فعزلها عن طريق الناس قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (فلقد رأيته يتقلب في ظلها في الجنة)). تيسير حركة الناس على طرقهم، بعزل ما يعيق عنها، جائزته عند الله الجنةُ لفاعله.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِى حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ فِى مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ وَوَجَدْتُ فِى مَسَاوِى أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِى الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ).

فلندقق في ألفاظ الحديث، فالحسن من أعمال الناس، خدمة المرافق العامة، وتحسينها، والسيء من أعمالهم الاستهتار بمجامع الناس، وإيذائها بعدم مراعاة نظافتها.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَرَّ رَجُلٌ مُسْلِمٌ بِشَوْكٍ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: لَأُمِيطَنَّ هَذَا الشَّوْكَ، لَا يَضُرُّ رجلاً مسلماً، فغفر له). أي عظمة في دين الإسلام، حين تكون مغفرة الذنوب جائزةَ مسلمٍ يَسَّر السبيل لغيره.

وعن أبي برزة الأسلمي قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: (أمطِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ)).
أي قانون أرضي، أو تشريع بشري، يكافيء، على إماطة الأذى عن طريق الناس
بما يوازي دخول الجنة، وهل الأرض بكل ما فيها توازي حجراً في الجنة..؟!

يقول عليه الصلاة والسلام: (إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِى آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاَثِمَائَةِ مَفْصِلٍ فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاَثِمِائَةِ السُّلاَمَى فَإِنَّهُ يَمْشِى يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ).

فلْيُصِخْ كل مسلم، وغير مسلم بسمعه لهذا الكلام النبوي الذي يجعل ذكر الله وتكبيره وتحميده وتسبيحه واستغفاره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأجر والمثوبة عند الله، كمن عزل حجرا أو شوكة أو عظما عن طريق الناس، لا يؤذيهم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ.قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاس أَو فِي ظلهم).
واللاعنان على وزن اسم الفاعل، أي اتقوا ما يسبب اللعن. أو أنّ (اللاعنان) بمعنى (الملعونان)، وهو استعمال اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول، وهو من لغة العرب ويمثَّل له بقول الحطيئة؛

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي

أي: (المُطْعَم المَكْسُو)، وهما إسما مفعول.

يقول عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون جزءا أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).

فشرائع الإسلام، ما بين حدين، كلمة التوحيد، وعملٍ يُحْسِن إلى عباد الله بالتيسير لهم وعليهم. فما أعظم هذا الدين..!

بعد هذا العرض الذي كانت تنطق فيه النصوص دون تعسف أو تأويل. نجد أنّ الإسلام يدعو إلى نفسه بنفسه، مستغنيا عمن يزخرف له القول، ويزين له الدعاية. ولعل تقصير أهله وأبنائه في التطبيق الصحيح لتعاليم دينهم، تحجب كل ذلك الجمال، فيكون صدا عن سبيل الله. وأختم بتفسير الآية الكريمة: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ولقد وقع في رُوعي، لدى مناقشة مع بعض الإخوة في تفسير الآية، معنى لم أجده في كتب التفسير، ولا زلت أراه سائغاً، وأعرضه الآن لمطابقته لسياق الكلام السابق .. أقول مستعيناً بالله: كأنّي بالمؤمنين يخافون أن تكون أعمالهم المخالفة لدين الله فتنة تصد الكفار عن رؤية محاسن الإسلام حين تترجم سلوكاً واقعياً، ومنهجاً تعاملياً بين الناس، فيكون ذلك لهم صدا وفتنة
..
والله أعلم، والحمد لله أولا وآخرا